رأي

بعد ومسافة

“بكري عديل”.. موت يخطف الأخيار
مصطفى أبو العزائم

فقدت بلادنا قبل أيام قليلة علم من أعلامها، ورمز من رموزها الوطنية، هو الأستاذ “بكري أحمد عديل” الذي عرفه الناس قيادياً بحزب الأمة، وقبل ذلك عرفوه رمزاً من رموز القيادات الأهلية، صاحب طلة مهابة، وكلمة مسموعة،وصوت يصدع بالحق، بعيداً عن هوى النفس ومصالح الذات الفانية، ولو أنه أراد ذلك لكان أحد أكبر أثرياء بلادنا، ولكان صاحب رصيد لا يدانيه رصيد في البنوك والمؤسسات المالية، لكنه ما أراد ذلك، بل جعل الوطن هو همه الأول، وتساوى كل أهل السودان لديه، فلم يختلف أمام ميزانه الحمري عن غيره من أبناء كردفان، ولا عن غيره من أبناء السودان، بل تساوى الجميع في ميزان الرجل الصالح الأستاذ “بكري أحمد عديل”، الذي تشرَّفت بمعرفته في بواكير حياتي الصحفية، وكان معارضاً للنظام المايوي، وطلبت أن أجري حوار معه، فوافق على الفور، لكنه قال لي إنه يشك كثيراً في أن يجد حواري معه فرصة للنشر، لكنني وعدته خيراً، بل التزمت له بالنشر دون تدخلات، وقد كان.
منذ ذلك التاريخ تعامل معي الرجل بتقدير كبير، وكان يشير إلى ذلك اللقاء أو الحوار الصحفي كلما جمعتنا الظروف، إذ كان يظن أن ما يقوله للصحف لا يجد طريقه للنشر بأسباب تدخلات السلطة المباشرة أو غير المباشرة، والأمر لم يكن كذلك في أواخر فترة الحكم المايوي، وهي التي بدأنا فيها العمل نحن مجموعة من الشباب – آنذاك – أحدثوا نقلة في فنون التحرير الصحفي، ومن بينها الحوار.
لم يكن الأستاذ “بكري عديل” شخصية خانعة وخاضعة لكل ما يجيء من أوامر أو تعليمات تتنزل عليه وعلى غيره من قيادة حزبه – الأمة القومي – أو من القيادات الحكومية، خلال شغله لمواقع دستورية أبرزها حاكم كردفان الكبرى، ثم وزير التربية والتعليم، خلال فترة الديمقراطية الثالثة، والتي حقق فيها لأبنائنا وبناتنا فرصة عظيمة للالتحاق بالجامعات الليبية، التي استوعبت قرابة الألف طالب وطالبة – أو يزيد – عندما كانت فرص التعليم العالي محدودة في بلادنا.
من المواقف الكبيرة التي تحسب للراحل الأستاذ “بكري أحمد عديل” داخل حزبه رأيه الواضح والصريح في قيادة الحزب ممثله في السيد الإمام “الصادق المهدي” وذلك بتأييده للمذكرة التصحيحية التي رفعها عدد من أعضاء الحزب أوائل العام 2012م، إذ ذكر وعلى رؤوس الأشهاد أن الحزب تحت قيادة السيد “الصادق المهدي” أصبح يحتاج إلى إصلاح حقيقي، وأنه بات يعاني من مشكلات كبيرة، لكنه مع ذلك لم يخرج عن التزامه الحزبي، ولم يجنح نحو التصعيد، والانشقاق والتأسيس لكيان أو حزب جديد، بل كان يعتبر أن حزب الأمة هو ثمرة جهاد كيان الأنصار، وإن كان هناك خلل ما، فإن الواجب يقتضي أن يعمل الجميع على إصلاحه، ولم يهاجم الراحل المقيم الأستاذ “بكري عديل” لم يهاجم قط رئيس الحزب هجوماً شخصياً، لكنه قال إنه يعمل مع دائرة ضيَّقة ولا يستصحب معه آراء الآخرين، خاصة في أمر التعامل مع نظام الإنقاذ الذي قاد إلى أخطاء عديدة أدت إلى فصل الجنوب.
يحفظ الراحل المقيم أفضال غيره عليه، فقد ظل يقول على الدوام إن السيد الإمام “عبد الرحمن المهدي” رعاه فكرياً ومادياً، وأنه تأثر به كثيراً من لقاءاته الراتبة به كل (جمعة)، عندما كان بالخرطوم، وقد درس المرحوم “بكري عديل” الاقتصاد في جامعة الخرطوم، ولمع اسمه فيها كأحد قيادات طلاب حزب الأمة، الذي أصبح أحد قادته بعد ثورة أكتوبر 1964م، بل أوكلت له مهام خطيرة خلال فترة معارضته للنظام المايوي، خاصة في وضع الترتيبات والإعداد لغزو الجبهة الوطنية للخرطوم بدعم من النظام الليبي تحت رايات حكم العقيد الراحل “معمر القذافي”.
هناك جوانب غير معروفة في شخصية الراحل المقيم الأستاذ “بكري عديل”، منها العدد الكبير لأشقائه وشقيقاته، إذ تزوَّج والده تسع نساء، وعمَّر حتى بلغ المائة من عمره، وكان مقاتلاً ضمن جيوش المهدية، وحارب مع الإمام “محمد أحمد المهدي” في معركة شيكان، وتحرير الخرطوم، وسبق أن قال – رحمه الله – إنهم من خلال البحث والتقصي والإحصاء وجدوا أن من يحملون اسم الأب “عديل” يتجاوز عددهم الألف وخمسمائة من الرجال والنساء.. وكان الوالد (شرتاي) بين أهله وقبيلته، عاش ومات أنصارياً لا يقبل غير ذلك الانتماء.
منذ صباه الباكر طاف “بكري عديل” بأنحاء مختلفة من البلاد، حتى أنه درس بمدرسة حنتوب الثانوية في مديرية النيل الأزرق – سابقاً – لعام واحد ثم انتقل لمدرسة (خور طقت) الثانوية عقب افتتاحها بـ(البدل) مع أحد التلاميذ وقتها، والتي سرعان ما فصل من كشوفاتها لنشاطه السياسي ضمن مجموعة من الطلاب الناشطين في العمل السياسي، بلغ عدد أفرادها نحو (119) طالباً، وقد تأثر وقتها بوفاة والده التي حدثت عندما انتقل للدراسة في مدرسة (خور طقت).
“بكري عديل” رواية أو قصة وطنية مكتملة الفصول، ليت بعض أهله والمقرَّبين، أو حتى ليت بعض الباحثين والدارسين جمعوا لنا كل تلك التفاصيل.. فقد عاش “بكري عديل” ومات عزيزاً مكرَّماً.. وتوفى – رحمه الله – في منزله الكائن بمدينة الثورة، ولم ينتقل من الحي الشعبي مثلما يفعل غيره إلى (نمرة اثنين) أو (كافوري) أو أي من الأحياء ذات الأسماء البرَّاقة.. وهكذا العظماء يعيشون بين الناس ويرحلون من بينهم، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وعفا عنه وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية