بُعد.. ومسافة
السلاح الأخضر في الميدان!
مصطفى أبو العزائم
الدولار هو السلاح الأخضر، وأسماؤه الشعبية كثيرة منها (الأخضر) و(أبو صلعة) و(الضكر) وهذا هو آخر الأسماء التي اخذ الناس في تداولها منذ أيام، عندما بدأ الدولار في الارتفاع الجنوني مقابل الجنيه السوداني (المسكين) الذي كاد أن يصل إلى أسفل سافلين، بحيث يحمل منه المواطن (الأشد مسكنة) مبالغ كبيرة لشراء سلع صغيرة وقليلة ومحدودة.. كيف لا.. وقد بلغ سعر اللبن المسحوق عبوة اثنين كيلو وربع حتى يوم أمس ثلاثمائة وستين جنيهاً بالتمام والكمال، قابلة للزيادة وغير قابلة للنقصان، ويتندر الناس رغم الأوجاع بالقول إن الأسعار مثل الروح، إذا ارتفعت فإنها لن تعود!
الدولار سلاح خطير لمحاربة الأنظمة اقتصادياً لإسقاطها بعد أن تفشل كل الوسائل.. وجميعنا يذكر آخر خطاب رسمي للرئيس “جعفر نميري” – رحمه الله – قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في مارس عام 1985م، فقد قال إن سبب زيادة الأسعار هو انخفاض قيمة الجنيه السوداني، فالدولار – حسب ما قال – أصبح (يدوخ) جميع العُملات، وقد يأتي وقت تمتلئ فيه جيوبكم بالجنيهات وتكونوا غير قادرين على شراء شيء.
وتحدث الرئيس “نميري” في خطابه الأخير ذاك عن توقف ثمانين بالمائة من المصانع في السودان لنقص الوقود، مشيراً إلى تعرض السودان لمؤامرة تستهدف شل حركة البلاد في مجال الإنتاج لتصبح سوقاً للواردات..!
تذكرت تلك الأيام الكالحة التي غابت فيها خدمات إمداد الكهرباء والمياه، وأضحت شوارع الخرطوم وبقية المدن التي تشكل العاصمة القومية شبه خالية من المركبات بسبب أزمة الوقود، ولم يعد في الشوارع والطرقات إلا دوريات الشرطة والأمن وكثير من الراجلين الذين أخرجتهم الضرورة من بيوتهم.. لكن الفارق كبير من المشهد العام في ذلك الوقت وبينه في يومنا هذا، لكن الوحش الأخضر انفلت من عقاله، وأصبح مسعوراً يعض في كل الاتجاهات، ويحاول القضاء على عملتنا الوطنية قضاءً تاماً ومبرماً بحيث لا تقوم لها قائمة.
بعض أصحاب القرار في الدوائر الاقتصادية أطلقوا تصريحات أشبه ببالونات الاختبار ينادون فيها بتعويم الجنيه السوداني، وهذه هي الكارثة أن تمت، خاصة إذا صحب ذلك رفع كامل للدعم عن الدقيق والقمح والوقود، لأن ذلك سيجعل رغيف الخبز الواحد بأكثر من جنيه، وربما وصل سعر الرغيف الواحد جنيهين، وتتضاعف أسعار الوقود الحالية، وكل ذلك ينذر بكارثة اقتصادية تقع على كاهل كل الدولة، شعباً وحكومة ومجالس تشريعية ونواب في البرلمان، وسيكون الأثر سالباً على قطاعات كثيرة وربما يخرج الكثيرون من دائرة الإنتاج في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات.
تلقيت مساء أمس الأول محادثة هاتفية من الأستاذ “محمود عبد الجبار” رئيس حزب قوى الأمة (أقم) وعضو البرلمان وعضو اللجنة الزراعية، محادثة أشاد فيها بما كتبناه قبل يومين عن المؤامرة التي تتعرض لها بلادنا لهزيمة برنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي، وإظهار (العين الحمرا) للقيادة ومتخذي القرار، وإرسال رسالة واضحة من قبل مجموعة ما تقول فيها إنه يمكن خنق النظام اقتصادياً حتى الموت من قبل الرافضين لكل برامج الإصلاح من (القدامى) الذين لا يريدون أن يغيبوا عن المشهد.
وحذر صديقنا الأستاذ “محمود عبد الجبار” من خطورة الدعوات المطالبة بتعويم الجنيه السوداني، وقال إن هناك مؤامرة واضحة تستهدف الإطاحة بالنظام، وإقصاء الرئيس “البشير” ونائبه الأول الفريق أول ركن “بكري حسن صالح” والوقوف ضد برنامج الإصلاح العام للدورة، مثلما أشرنا في مقالنا ذاك الذي تحدث عنه الأستاذ “محمود عبد الجبار”.
نعود للأزمة التي تسبب فيها البعض مستخدمين السلاح الأخضر، ونرى أنها قضية الساعة بل وقضية العام، وستظل كذلك إذا لم تنجح الحكومة في جلب تحويلات المغتربين الذين لا يقل عددهم عن الثلاثة ملايين مغترب ومهاجر، يقومون بتحويل أموالهم خارج الشبكة العنكبوتية لفروق السعر بين السوقين الرسمي والموازي وغياب الحوافز التشجيعية.. وسيظل الحال على ما هو عليه إذا لم تقم التشريعات وتتخذ الإجراءات الجاذبة للاستثمارات الخارجية، علماً بان هناك رجال أعمال سودانيين يستثمرون في إثيوبيا بما يتجاوز الملياري دولار.
أزمتنا ببساطة ليست أزمة شعب مستهلك، فنحن وبالأرقام والحقائق أقل الشعوب الأفريقية والعربية استهلاكاً للسلع المستوردة، وأقلها رفاهية لذلك لا يجب على البعض أن يقول أو أن يزعم أن أزمتنا في استيراد السلع الاستهلاكية لأن جملة فاتورة استيرادنا من الخارج تبلغ عشرة مليارات من الدولارات، منها – فقط – (مليارين) مخصصة للغذاء، مليار للقمح ومليار لسلع أخرى، في حين أن دولا شقيقة وجارة تخصص أضعاف ذلك للسلع الاستهلاكية.
أصل أزمتنا في ما نرى هو في حسن إدارة الموارد، وإدارة الاقتصاد وليس صحيحاً أننا دولة غير منتجة.. نحن دولة منتجة منحها الله سبحانه وتعالى موارد لا تحتاج إلى كبير جهد حتى تضيف لخزينتنا العامة، مثل الذهب والمعادن والثروة الحيوانية البالغ تعدادها (135) مليون رأس والزراعة التي يصل إنتاجنا فيها – خاصة في الذرة – ما يفيض عن حاجة الاستهلاك المحلي وتتدنى أسعارها بينما القائمون على الأمر (فراجة) لا يبادرون بتصدير ما يطلبه العالم ويقدم لنا ضعف قيمته المحلية عشرات المرات، مع القيود على صادر الثروة الحيوانية وفرض رسوم على الصادر يرفع من أسعارها ويصرف المستوردين إلى جهات أخرى، مثلما حدث في هدي هذا العام.