أخيره

(سوق أمبررو).. ملابس لا يشتريها سوى المجانين و(المدسترات)

حين تدخله يسري ما يشبه السحر في شرايينك، فبتوقف قدميك أمام كل باب، وبينما تنظر، ترى السُكسك المعمول زينة للعالمين، الملابس باهرة، صارخة الألوان تنادي المشترين، الطواقي على هيئة (قبعات) بلاد الجليد الكثيف في سيبيريا، النسوة يبعن الروب والسمن واللبن، والترزية لا يعبأون بالموديلات الحديثة، وعندما تتحرك أقدامهم تحت ماكينات الخياطة و(تفج) أيديهم ما فوقها من أقمشة مزركشة تنحسر المسافة بين مصطلحي (إفرنجي وبلدي) في لغة أهل (الخياطة).
إنهم ترزية (أمبررو) وحسب.
(1)
و(أمبررو) قوم رُحّل، يقيمون قداسهم على خوار الأبقار، كما يعلنون أسفارهم أو يُنزلون مضاربهم على وقع (حوافرها)، وقيل أن تقديسهم للبقر وصل حد أنهم يسحرونها حتى إذا ما حلت بهم فاقة واضُطروا لبيعها تعود مرة أخرى، فيصبح (خشم الجزار ملح ملح)، لكن الجزارين قرروا ألاّ يشتروا من (أمبررو) إلا لحماً طازجاً (غير حي) حتى لا يهرب، فيشترطون عليهم عند الشراء أن يذبحوا البقرة أمامهم ويسلخونها ويقطعون لحمها فـ( يشيلوها لحم ساي)، على حد قول أحد الجزارين، الذي أضاف: (ما بنضمن بقرتهم حية)!!
(2)
والدخول إلى سوق (أمبررو) هيّن، لكنك يجب أن (تتأمل) في الخروج منه بمادة صحفية، حيثُ تصبح هنا، العبارة المرهقة والقاسية (ممنوع الاقتراب والتصوير) نهائية ولا تفاوض حولها، لا تصور.. وانتهى البيان.
 لكن لأن الصحف لن تجف.. فإن الرجل الـ( أمبرراوي) الذي بدا في ملابسه المزركشة كفراشة استوائية تضيق بالحدائق المغلقة، سمح لي أن أقترب أكثر، رغم (النشاب) المشرع، والسحر المخبأ، وعندما اقتربت بمحاذاته، وتحدثت إليه استجاب بحذر، لكنه ما لبث أن قرر الصمت، بعد أن أرشدني إلى آخرين، قال إنني قد أجد عندهم ما أريد.
(3)
وفي السوق، (سوق أمبررو) صورت وتحدثت، ولم يصبني شيء مما حذرني منه (الناس) سوى الدهشة والمتعة، فلا سهم اخترقني ولا سحر سرى بين جنباتي فأخذني إلى الرفيق الأعلى مع الشهداء والصديقين، وإلاّ لما وثّقت ما رأيت وسمعت.
يقول الترزي “عمر محمد علي”: أنا متخصص في خياطة ملابس أمبررو لأنني متزوج منهم وأتحدث لغتهم، وهم يحبون الحرير والترلين السوري، فأفصّل لهم منهما صرعاتهم الخاصة، حيث هنالك ملابس لا يستطيع غير أثريائهم من ذوي القطعان الكبيرة من الأبقار شراءها، بينما تُترك الأقل قيمة منها لـ(ناس الخرفان والضأن)، وفي آخر القائمة (يدقس الفأر)، حسب عبارة الترزي “عمر”.
(4)
ويمضي “عمر” قائلاً: أولاً بالتبادي، ملابس اسمو (هبو كجل)، زول ما عندو تور ما يلبسو، بعدينك (وولنقا) الما عندو خروف ما يقرب، ثم رفع قطعة سوداء مزركشة بألوان أخرى يطغى عليها الأحمر القاني، عالياً واستطرد: أما دا البشتريهو بنقول ليهو (فاره دقس) لأنو رخيص برخصتو بضوقك مغستو، ودا لزول مفلس ما عندو حاجة.
 وتوغل “عمر” في تفاصيل الحكاية، مضيفاً: ما في مواطن من هنا بشتري ملابس أمبررو، اللهم غايتو إلاّ يكون (فاقد عديل) أو مَرَة (مدسترة) عندها زار عديل كده.
وفي الجانب الآخر من السوق، تصطف بعض النسوة في خط مستقيم دون التواء، وجوههن مضاءة بجمال لا تخطئه عين، ثيابهن مسدلة إلى أخمص أقدامهن، يبعن الروب واللبن والسمن في أوانٍ من (قرع)، وبمعيار من قرع أيضاً يسمى (منقور)، يعبئن به للزبائن حسب الطلب في معايير نظيفة وبمختلف الأحجام، أكثرها سعة (الجركانات) وأقلها القوارير الفارغة المعروفة محلياً بـ(الكريستالات).
 ونسوة (السمن) لا يدخلن في مفاصلات حول السعر إلاّ نادراً، وفيما لو اُضطررن يفعلن ذلك بهمس، مفاصلات لا تسمع لها (طقطقة ولا قرقعة ولا جعجعة).
 (5)
أحذية (أمبررو) البلاستيكية (الشِّدد) تتلون بألوان لا تعرف الحياد، ألوان تكاد أن تصرخ (أحمر، أصفر، أزرق) ومن ينتعل لوناً آخر فليراجع نسبه، والسُكسك المعمول، أحزمة النقود بـ(سحاب) يقيهم شر الأيدي الخفيفة العابثة، و(قيطان) الفوانيس (لمبات المعذورين).
إلى كل ذاك، يقول “عبد الله موسى” الشهير بـ(ود فور)، أشهر صنّاع طواقي الأمبررو، إن اسمها هكذا (طواقي أمبررو) وبس، وهي طواقٍ مصممة للحيلولة دون وصول قطرات المطر إلى الرؤوس المدهونة بزبدة الحليب، ويواصل (ود فور): الطاقية دي من مشمع عادي مبطن بقماش بارد والمشمع يخلي حبات المطر تنزلق، والقماش ببرد الرأس، وفيها (كباسين) تفتح وتقفل وركامات وزينة من السُكسك والحاجات اللامعة، ثم أمسك بإحداها وطلب مني أن أجرب، فقلت له: إنه شعور عظيم أن تضعها على رأسك فتصبح (أمبرراوي)، وكنت كذلك في تلك اللحظة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية