تقارير

يطاردها شبح الحرب : النزاع حول منطقة (14 ميل).. وضوح الرؤية وضبابية الحلول

في خطوة مفاجئة، حطّت طائرة وزير الدفاع، رئيس وفد الحكومة المفاوض بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، الفريق ركن “عبد الرحيم محمد حسين”، الأحد الماضي في مطار الخرطوم، ثم قفلت راجعة أمس الأول (الاثنين) قبل أن يمضي على بقائه (24) ساعة. وحسب تسريبات، فإن العودة المفاجئة لوزير الدفاع كانت بغرض اطلاع (القيادة) على آخر مستجدات العملية التفاوضية الجارية بأديس، والموقف منها، في ظل اقتراح جديد دفعت به الوساطة الأفريقية لتحريك ساكن الموقف التفاوضي الذي وقف عند محطة منطقة (14 ميل) بولاية جنوب دارفور، التي ضمّها الوسيط الأفريقى “ثامبو أمبيكي” لدولة جنوب السودان في الخارطة التي أودعها منضدة مجلس الأمن الدولي (منتصف يونيو الماضي).
أهمية منطقة (14 ميل) بالنسبة للوساطة الأفريقية أنها أضحت نقطة الخلاف الوحيدة بين السودان وجنوب السودان، التي تعيق البدء فعلياً في إكمال خطوات مقترح الوسيط الأفريقى بإنشاء المنطقة منزوعة السلاح بين الدولتين لمراقبة الحدود، ولكن الحكومة وهي تعلن رفضها للخارطة (الجديدة) وتتمسك بتبعية المنطقة لها، بدت غير مقتنعة بما ظلت (تلوكه) الوساطة الأفريقية بأن الخارطة المقترحة لقيام المنطقة العازلة لا علاقة ولا تأثير لها على عملية ترسيم الحدود المنتظرة.
وزارة الخارجية على لسان وكيلها “رحمة الله محمد عثمان”، اتهمت الوساطة الأفريقية صراحة بأنها تريد أن تضم منطقة (14 ميل)  إلى خارطة جنوب السودان، وقال في تصريحات صحفية (السبت الماضى): (هذا هو السبب الذي يجعل الخرطوم تتمسك برفض الخريطة المقترحة لإقامة المنطقة المنزوعة من السلاح).
 مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة “دفع الله الحاج علي”، أكد أنه نقل لمجلس الأمن الدولي في جلسته (الخميس 14 يونيو الماضي)، اعتراض حكومته على خريطة وسيط الاتحاد الأفريقي “ثامبو أمبيكي” بشأن الوضع النهائي لترسيم الحدود المشتركة مع جنوب السودان، بما فيها منطقة (14 ميل) داخل الأراضي السودانية، وقال في تصريحات للصحفيين عقب انتهاء جلسة المشاورات المغلقة لمجلس الأمن الدولي: (قلنا إنها غير مقبولة لأنها تعني احتلالاً لأراضي الغير بالقوة، وتمثل خرقاً لاتفاق السلام الشامل، ولقرار مجلس الأمن 2046، فضلاً عن الخريطة التي عملت عليها بعثة الأمم المتحدة بالسودان).
مقترح الوساطة الأفريقية (الجديد)، ربما لن يجد طريقه للنفاذ إذا ما كانت بين سطوره شبهة تنازل عن (شبر) من أراضي المنطقة.. هكذا تحدثت الحكومة في الخرطوم، عطفاً على حالة الاحتقان وعدم الرضا التي تشكلت وسط قطاعات واسعة من شرائح الشعب السوداني، خاصة القبائل التي لها ارتباط بمناطق بحر العرب وأبرزها قبيلة الرزيقات.
 تلك القبائل، سارعت فور الإعلان عن موقف حكومة جنوب السودان، بإطلاق تحذيراتها عالية باستعدادها لخوض غمار الحرب، ودون مشاورة حكومة الخرطوم، وأكدت أن تفجّر الأوضاع سيكون الأسوأ من نوعه، وبدت غير مهتمة بمحصلة ما يدور في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، وهي تؤكد أنها لن تتنازل عن شبر من المنطقة وإن توقفت العملية التفاوضية هناك.
 النائب البرلماني عن الدائرة (24) بحر العرب “حسبو محمد عبد الرحمن”، حذّر من خطورة ما سمّاه بادعاء حكومة جنوب السودان، وقال لـ(المجهر): (هذا الادعاء يعقّد المشكلة ولن نتنازل عن شبر من أراضينا حتى وإن توقف التفاوض وقامت الحرب مرة أخرى). وأضاف: (نحن لسنا دعاة حرب ودايرين سلام، ودايرين الخروج بالتي هى أحسن، ولكن إن دعا الداعي بنشيل حقوقنا بالحرب والطريق الأخشن ولن نترك شبراً لجنوب السودان)، وحمّل في الوقت ذاته ما سمّاها بالطغمة الحاكمة في جنوب السودان مسؤولية ما سيحدث جراء ادعائهم، وتساءل: لماذا جاءوا اليوم يثيرون تلك الأزمة؟ وقال: (هذا تكتيك لرفع سقف التفاوض)، ونبّه إلى أن دينكا ملوال أنفسهم انتقدوا مسلك حكومة جنوب السودان وأشاروا إلى أنه سيعقّد الوضع هناك ويضرّ بمصالحهم، وأوضح أنه لا ضير في أن يتعايش الجميع في المنطقة ولكن ليس على حساب الحقوق، وقال: (ده فيهو استهتار واستغفال)، لافتاً إلى أن مناطق بحر الغزال تحصل على أكثر من (200) سلعة من مناطق بحر العرب.
وفي محاولاته لتوضيح اللبس والغموض اللذين صاحبا التعريف بالمنطقة في بعض وسائل الإعلام، أشار ممثل الدائرة القومية إلى أن (14 ميل) تضمّ عدداً من المدن الصغيرة والقرى ممتدة على شريط بحر العرب، وحدد منها (مرير، كلمة، أم عزلتي، سماحة، بقيلة، دحيل الدابي، النكاتة والسكارة) شمال بحر العرب، و(كتيراية، كلم الدونكي، الصفا أم قرن، التيران، القردود، بلبلة، كردالة وأم قعيدو) جنوب بحر العرب مع حدود دولة جنوب السودان، ونبّه إلى أن منطقة (14 ميل) ليس كما يعتقد البعض أنها منطقة صغيرة، لافتاً إلى أن طولها يمتد إلى حوالي الـ(275) كلم على امتداد بحر العرب، وأن عرضها (14) ميلاً جنوب بحر العرب، ومن ذلك استمدت اسمها.
 وأكد “حسبو” أن المستعمر الإنجليزى كان قد وضع تلك الحدود منذ العام 1924م، وأنه على ذلك الوضع تم إجراء استفتاء جنوب السودان الأخير والانتخابات العامة، وقال: (لقد كانت منطقة سماحة مركزاً قومياً للانتخابات الفائتة)، مشيراً إلى أن لديه (53) وثيقة تشير إلى تبعية المنطقة للسودان، واستطرد: (كل تلك الخرائط لم نضعها نحن وإنما وضعها الإنجليز)، ونوّه إلى أن الأمم المتحدة في وقت سابق رفعت تقريراً عن تجاوزات الجيش الشعبي وفق حدود 1956م، وعلق: (الجماعة ديل ما عندهم شيء في بحر العرب، لا شمال ولا جنوب، وما بشيلوا حاجة بي وضع اليد).
 والي شرق دارفور، اللواء “محمد حامد فضل الله”، في تصريحات صحفية دعا (جوبا) للانسحاب من منطقة (سماحة) والاعتراف بحدود 1/1/1956م لتجنب مزالق الدخول في حرب (لا تبقي لا تذر)، وعدّ استرداد (سماحة) حقاً مشروعاً ودفاعاً عن الوطن، وأكد أن حدود ولايته كانت تمتد لنحو (16) ميلاً جنوب بحرالعرب، وأن المؤتمرات القبلية في السابق قلصتها لـ(15) ميلاً بإقرار من الدينكا أنفسهم، مستنكراً محاولة ضم المنطقة لجنوب السودان.
 (الخرطوم)، رغم تأكيدات قياداتها بأن عقوبات مجلس الأمن الدولي العسكرية والاقتصادية- المتوقعة من قبل الكثيرين- غير مقلقة بالنسبة لها، إلا أنها لم توقف محاولتها لإيجاد حل للأزمة يبعدها من مآلات (21 سبتمبر المقبل) الذي حدّده مجلس الأمن الدولي موعداً أقصى لطي الخلافات بين الدولتين أو فرضه حلولاً على الطرفين وفق توصيات ورؤية الوسيط الأفريقي “ثامبو أمبيكي” الذي تشكك بعض الدوائر الحكومية في حياديته.
فما أن أعلن الوسيط الأفريقي “ثامبو” رسمياً فشله في إقناع (الخرطوم) بقبول خارطته، وتأكيده وصوله لطريق مسدود واتجاهه لإحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي، حتى أعلنت حكومة جنوب السودان أن وفد السودان المفاوض دفع بمقترح لتجاوز الخلافات حول الخارطة، موافقاً فيه على إدخال (14 ميل) ضمن خريطة الاتحاد الأفريقي شريطة سحب الجيش الشعبي منها وتتبيع إدارتها للسودان.
وقال “عاطف كير” المتحدث باسم وفد جنوب السودان، في تصريحات صحفية (الأحد 9 سبتمبر) إن (الخرطوم) تقدمت بمقترح يحمل شروطاً تعجيزية للموافقة على خارطة “أمبيكي” الخاصة بالحدود لا سيما منطقة (14 ميل) التي أُتبعت للجنوب، وأوضح أن (الخرطوم) اشترطت أن يتم سحب الجيش الشعبي منها وأن تتبع إدارتها للسودان، وقطع برفض (جوبا) للمقترح.
تمسك الأطراف المتنازعة بمواقفها، يجعل هناك حاجة ماسة لطريق ثالث تعبر من خلاله القضايا العالقة بين السودان وجنوب السودان، على نحو يقود لاختراق فعلي في القضايا العالقة يحفظ استقرار المنطقة، لكن مسار الطريق الثالث يبدو أنه سيمر بعيداً عن مكان لقاء القمة المزمع بين رئيسي الدولتين المشير “عمر البشير” و”سلفا كير ميارديت” الذي ستُحال إليه النقاط عصية الحل قبل انتهاء مهلة مجلس الأمن الدولي (21 سبتمبر)، وذلك من واقع قراءات مبكرة لإصرار (الخرطوم) بأن أي طريق ثالث لا بد أن يمر بحدود 1/1/1956م.
 وعلى ذلك، فإن عدم التوصل لتفاهمات بين (جوبا) و(الخرطوم) حول القضايا العالقة حتى وإن مدّد مجلس الأمن الدولي مهلته، ربما لا يخرج عن احتمال تنفيذ مجلس الأمن لوعيده وفرض حلوله التي من بينها خارطة “أمبيكي الجديدة، وذهاب منطقة (14 ميل) جنوباً، ما يشير إلى احتمال تحوّل منطقة بحر العرب إلى بؤرة توتر أو مسار ثانٍ، بأن يغض مجلس الأمن الطرف عن الخارطة الجديدة ويبني موقفه على ما أمامه من وثائق وخرائط تحسم تبعية المنطقة للشمال، ويجنب بذلك المنطقة بأكملها خطورة التحوّل إلى بؤرة توتر تُضاف إلى بؤر أخرى اتخذت مواقهعا في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
وما بين الاحتمالين يمكن أن تطلّ قضية منطقة أبيي برأسها، التي رغم أن التحكيم الدولي قال كلمته حولها، إلا أنها لم تبارح مكانها، ما قاد مجلس الأمن الدولي أواخر يونيو 2011م إلى اتخاذ قرار بإرسال قوة حفظ سلام للمنطقة قوامها (4200) جندي أثيوبي (اليونسفا) لم تستطع حتى الآن وقف اعتداءات منسوبي دولة جنوب السودان على مواطني المنطقة.
المؤتمر الوطني- الحزب الحاكم- أعلن رفضه لأي حلول لا تستصحب حدود 1956م، أو مقترحات أحادية، مؤكداً أن (الخلاف من أصله محلول) بالالتزام بما تم الاتفاق عليه، وأوضح أن التحكيم الدولي حتي وإن لجأت إليه الأطراف المتنازعة لن يأتي بجديد، لكنه لم يستبعد أن يتسبب عدم حسم الخلاف حول المنطقة في عودة الحرب من جديد، قاطعاً بأنه لا مجال إلا بالتوصل لتفاهمات حول منطقة (14 ميل).
وقال عضو القطاع السياسى بالمؤتمر الوطني د. “ربيع عبد العاطي” لـ(المجهر) إن أي مقترحات للحل لا يمكن أن تلغي الأساس الذي اعتمدت عليه اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، وشبّه بما يحدث حول المنطقة بما كان في منطقة أبيي.
أستاذ العلوم السياسية البروفيسور “حسن الساعوري”، أيضاً، وهو يشكك في حيادية ونزاهة الوسيط الأفريقى “ثامبو أمبيكي”، لم يستبعد عودة الطرفين إلى مربع الحرب، لكنه شدّد على ضرورة أن تحتكم الأطراف المتنازعة للوثائق والخرائط، وقال لـ(المجهر) إن موضوع الحدود لا يخضع للمساومة، وإن على كل طرف أن يحضر ما لديه من وثائق وخرائط، لافتاً إلى أنه حال تعنت الأطراف يمكن اللجوء إلى التحكيم الدولي.
ورأى “الساعوري” أن الخرائط الجديدة التي قدمها الوسيط الأفريقي مخالفة للخرائط الموجودة، وقال: (خطأ كبير أن مجلس الأمن اعتمدها ووافق عليها وهي من طرف واحد)، ونبّه إلى أن الاعتقاد لدى المجتمع الدولي أن الدولة الأم تريد أن (تكوّش) وتأخذ حقوق الدولة الوليدة، لافتاً إلى أن هذا الاعتقاد لا يؤثر على مسار التفاوض لكنه يؤثر على موقف الوسيط، وقال إن جنوب السودان استولى على المنطقة بالقوة العسكرية، وإذا لم ينسحب منها فإن الأمر سيقود إلى حرب.
حديث الحكومة ومن خلفها- الحزب الحاكم- وهي تشير إلى أنها تراقب عن كثب مستجدات الأحداث على الشريط الحدودي مع ولايات دارفور وحشود دولة الجنوب العسكرية، وتأكيداتها أكثر من مرة بتمسكها بمنطقة (14 ميل) وعدم استعدادها للتنازل عن أي شبر من الأراضي السودانية مهما كانت المحصلة النهائية- حديث الحكومة هذا- كان محل تشكيك من بعض قيادات الحزب الحاكم نفسه وبعض المراقبين، عطفاً على الاتهامات المتلاحقة لها بأنها أدمنت تقديم التنازلات للحد الذي أشاروا إلى أنه أطمع فيها حتى الدولة الوليدة.
عضو القطاع السياسي د. “ربيع عبدالعاطي”، في سياق دفاعه عن حزبه، أكد أنهم لا يتراجعون عن قضايا السيادة، وأن مثل هذه الأمور لا تحتمل التنازل عن الحقوق، وأنهم ملتزمون بنصوص اتفاقية (نيفاشا)، وقال: (قضية 14 ميل مسألة جوهرية وليست قضية سياسية يمكن الأخذ والرد فيها)، وأضاف: (نحن غير مستعدين لتقديم أي تنازل)، لكنه عاد وأشار إلى أن الطريق الثالث في سياق إيجاد حل للأزمة يجب أن يكون مرضياً دون أن يكون فيه إلزام، وعلّق: (الوساطة وساطة وليست ملزمة، ومهمتها تقريب وجهات النظر).
حوالي (24) ساعة قضاها وزيرالدفاع في الخرطوم، إما موضحاً لمجريات التفاوض بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، أو مستمعاً لكيفية تخطي عقبة منطقة (14 ميل) على نحو يجنب (الخرطوم) مغبة العودة إلى المربع الأول أو تكرار سيناريو منطقة أبيي، ويترك المجال واسعاً للتحرك باتجاه حسم بقية الملفات، لا سيما وأن الأطراف قد وقّعت بالأحرف الأولى (4 أغسطس الماضي) على اتفاق يسمح بمرور بترول جنوب السودان عبر الأراضي السودانية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية