بعد ومسافة
من الذي يسعى لتجفيف الأسواق من الدولار؟
مصطفى أبوالعزائم
عندما فشلت المعارضة بكامل تكويناتها المدنية والعسكرية وبمختلف أحزابها في إسقاط النظام المايوي، وإبعاد الرئيس الراحل “جعفر محمد نميري” – رحمه الله – عن سدة الحكم بالانقلابات العسكرية وبالطرق التقليدية، ابتكرت أسلوباً جديداً تمثل في صناعة الأزمات الاقتصادية، فكانت المعارضة ومن خلال رموزها الرأسمالية والاقتصادية تلجأ لأسلوب مبتكر ومستحدث في ذلك الوقت، وهو صناعة أزمة الندرة بالنسبة للسلع والمنتجات الغذائية الضرورية مثل السكر والزيوت والحبوب وغيرها، وذلك بشرائها لتجفيف الأسواق منها ثم تخزينها أو إعدامها برمتها في النيل، مثلما اعترفت قيادات معارضة لنظام الرئيس “نميري” بعد أن زال في انتفاضة السادس من أبريل عام 1985م.
ومع ذلك لم تؤثر تلك الأزمات المصنوعة كثيراً في استقرار نظام مايو، لأنه كان يستند على أرضية شعبية قوية من خلال برامجه التي طرحها والتف الشعب أو بالأحرى غالبية الشعب حولها، وقد سقط النظام لاحقاً بفعل سياسي آخر عندما قامت السلطات بتسديد ضربة مفاجئة لحلفاء النظام من الإسلاميين وإيداع قيادات الحركة الإسلامية في السجون المتفرِّقة في “شالا” و”بورتسودان” و”الفاشر” و”كوبر” وغيرها، فانكشف ظهر النظام الذي استمع إلى نصيحة (خارجية) بضرورة تصفية القيادات الإسلامية أسوة بالتصفية السابقة التي قام بها النظام لقيادات ورموز الحزب الشيوعي السوداني في يوليو 1971م، وفي هذين الأمرين أقوال كثيرة، لكن النتائج كانت كارثية عام 1985م، إذ تمت تعبئة الشارع تماماً ضد النظام والنقابات والاتحادات والمهنية التي سيطر (القادمون) الجدد على النظام بعد المصالحة الوطنية عام 1977م، وقد كسب الإسلاميون كثيراً بفضل تنظيمهم وقوته ما جعل تلك الفترة أخصب فترات النمو للحركة الإسلامية وبرز – ربما لأول مرة – المعنى الحقيقي للكلمة (التمكين).. وظهرت البنوك والمؤسسات المالية والاقتصادية الإسلامية، فتنفس النظام الصعداء وصعدت أعلام الحركة الإسلامية إلى أعلى سارية مركب العمل السياسي في السودان، إلى أن حدثت ضربة 1985م، التي أنهت شهر العسل السياسي بين النظام وحلفائه.
الآن.. وبعد أن واجه نظام الحكم القائم في السودان حرباً شعواء من الداخل والخارج لإسقاطه، وبعد أن فشلت كل تلكم المحاولات بما فيها المحاولات الانقلابية والحركات العسكرية المسلحة واستغلال المنابر الخارجية الإعلامية مع استخدام أخطر أسلحة القرن الحادي والعشرين – الانترنت – نقول، إنه وبعد أن واجه النظام كل هذه التحديات مع الصراعات الداخلية التي قادت لأخطر انقسام تشهده الحركة الإسلامية في العام 1999م، بعد كلا ذلكم نجد أن النظام مازال قائماً متماسكاً لكن بعض المؤشرات تشير إلى حدوث شرخ كبير داخل الحزب الحاكم خاصة في الولايات، بحيث يتضح ذلك بجلاء في ولايات الجزيرة وجنوب دارفور والبحر الأحمر، وبدأ يظهر في شمال كردفان، وهو صراع بين (القدامى) الذين يرون أنهم أحق بتمثيل المواطنين من خلال المجالس التشريعية ومن تحقيق (الولاية) الحقيقية على العمل السياسي بعيداً عن الولاة الذين جاءوا من خارج الولاية، لكنهم تولوا الأمر بقرار رئاسي من رئيس الجمهورية الذي هو رئيس الحزب في ذات الوقت.
تلك الأزمة الحادة حسمها ورئيس الجمهورية رئيس الحزب بحل تشريعي البحر الأحمر بالاستقالة، لكن من المؤكد أن هناك حسم آخر في الطريق، صحيح أننا لا نعرف كيف سيكون أو ما هي صورته، لكنه سيكون داعماً لسلطات الرئيس وهيبة الدولة، مؤكداً في ذات الوقت على المؤسسية والالتزام الحزبي داخل الحزب الحاكم.
نعود ونختم بما بدأنا به، وهو تجفيف الأسواق من الدولار.. ونتساءل إن كان هناك رجال نافذون وراء هذه الأزمة الاقتصادية للوقوف أمام أكبر وأخطر برامج الحكومة حالياً وهو (الإصلاح السياسي) المرتبط بإصلاح الخدمة المدنية والإصلاح الاقتصادي، لا لشيء إلا لإبراز (العين الحمراء) للقيادة ولمتخذي القرار بأنه يمكن خنق النظام اقتصادياً حتى الموت من قبل الرافضين لكل برامج الإصلاح.. القدامى الذين لا يريدون أن يغيبوا عن المشهد.
لا نستطيع التأكيد بأن سلاحاً جديداً قد دخل إلى ميدان المعركة يسمى (الدولار) لتأديب النظام أو إسقاطه.. لا نستطيع التأكيد على ذلكم لكننا لا نستبعده.