ذكريات فصل الشتاء
التجانى حاج موسى
كنا صغاراً.. ننعم بهذا الفصل الجميل.. خالتي المرحومة “عرفة” كانت تخيط لنا (فنايل) صوف.. تجيد تلك الصناعة.. البطاطا المسلوقة أو المحمصة في النار كنا ننتظرها بفارغ الصبر.. أمهات مدينتنا كن ماهرات في صناعة أشياء كثيرة.. يصنعن الخبز في فرن صغير بالمنزل.. يزرعن بعض الخضر في ناحية من المنزل.. يربين الضأن والماعز لزوم اللبن.. ومنه يصنعون المش والسمن.. لا يخلو منزل من منسج صغير لزوم المنسوجات المشغولة بالحرير.. طواقي الحرير، والمناديل.. كذلك صناعة السعف.. مصالي، بروش، هبابات ومكانس.. تذكرت كل ذلك بمناسبة حلول فصل الشتاء.. طبعاً لا أنسى حجوات جدتي وخالاتي حينما كنا جميعاً نجتمع بالحوش الكبير.
ترى لماذا اختفى نمط هذه الحياة؟؟ فالمنزل كان يشكل اكتفاء ذاتياً.. والصناعات الصغيرة كانت معروفة يتوارثها الخلف من السلف.. صناعة الجبن.. العسل.. الصلصة.. حظيرة الدواجن كانت تعطي البيض.. حتى التداوي من الأمراض كان متاحاً من صيدلية الأعشاب المتوفرة بكل منازل المدينة.. الشيح، السنمكة، القرض، العرديب، الحرجل.. وعدد مقدر من الأعشاب الطبية منها المتوفر في البراري ومنها ما يوفره العطار.. وكثير من معارف التداوي متوارثة، حتى الحجامة والفصادة.. كيف اندثرت تلك المعارف القيمة من الأمة؟؟ تسربت من بين أصابع الأمة.
ترى هل توجد في شقق المدينة (مرحاكة)؟؟ لغير الناطقين، بالموروث السوداني نقول: (المرحاكة طاحونة تسحن الحبوب وتحولها إلى دقيق تصنع منه الكسرة).. كنت أجلس على المرحاكة أطحن الكبكبي لعمل الطعمية.. كنت أبيع سندوتشات الطعمية في سينما الدويم.. تعلمنا في طفولتنا المساهمة في نفقات المعيشة.. بالمناسبة عشرات دور العرض الموجودة في كل مدن السودان مهجورة.. يا ربي بترجع تاني..؟؟ أصحابها لا باعوها ولا كسروها!! علماً بأن السينما فن ترفيه وتعليم وتثقيف، وعندما أمر بسينما أم درمان أو الوطنية أو العرضة أو بانت أتذكر زمن الصبا الناضر.
للعلم كل العواصم والمدن الصغيرة والكبيرة على امتداد المعمورة بها دور سينما يرتادها الناس.. في سينمانا بالدويم يوجد مكان خاص للنساء.. شفتوا كيف؟؟ تراجعنا حتى في السينما!! ده من شنو؟؟ أما الجنيه السوداني حسبي الله.. كان يساوي قريب الأربعة دولارات!! نسيت.. كنا نصنع عجينة الصلصة في البيوت.. عند وفرة الطماطم.. والمربى عند وفرة المنقة والبطيخ والشمام.. كنا برضو نجفف البصل عند وفرته.. كنا نزرع أشجار مثمرة في منازلنا ولا يخلو منزل من شجرة ليمون وجوافة وبرتكان.. أما النبق فكان ينبت براهو مع التمر هندي.. كذلك أشجار الحناء.. في المدرسة الأولية كنا ندرس حصة للتربية الريفية كل تلميذ يمتلك مزرعة صغيرة يزرعها على مدار العام نبيع المنتج في السوق والباقي نوديهو ناس البيت.. علمونا تربية النحل وزراعة الأزهار.. وعلمونا السباحة ورياضة التجديف وصيد السمك.. مساكين أولادنا ما اتعلموا الحاجات دي.. طبعاً كنا ندخل المرسم في حصة الرسم.. كل أدوات الرسم متوفرة.. أما المناسك والتربية الرياضية فحدث ولا حرج.. صدقوا كل ألعاب الأولمبياد كنا نمارسها في معهدنا العريق بخت الرضا.. يعني برضو تراجعنا ورا في التربية والتعليم.. وتراجعنا في تقديم العلاج المجاني والتعليم المجاني من الأولية حتى التخرج في الجامعة وكان الطلبة يمنحون إعانة مادية ويسكنون مساكن محترمة ويتغذون طعاماً طيباً يصنعه طهاة متخصصون.
كل هذا التداعي والذكريات بسبب قدوم الشتاء.. وبرضو اتذكرت بيوت الجالوص.. بيوت ناس السودان التي تناسب مستواهم، والقطاطي والكرانك والرواكيب المصنوعة من قش السودان القايم براهو في خلا الله برضو بدأت في الاندثار وحلت محلها بيوت السيخ والأسمنت والسيراميك.
وطبعاً دي ما بيوت أهل السودان ولا تناسب المناخ.. والتراجع في العديد من مظاهر حياتنا.. وحليل (خدمتك ليمونة تينة بس زيتونة يحفظك مولاك وخداري البي حالي ما هو داري)، وأغاني عديدة تمجد الخدار والسمار في لون بشرة بناتنا.. وهسه شوف لون بشرة بناتنا.. وشفت التوب وما لاقاني أجمل منو بس التوب وسيد التوب يكون كيفنو؟؟ وبعز التوب وقت انشال وينفر أو على الكتفين يتوه مرة، زي ما غنى الفنان الراحل “إبراهيم موسى أبا” من نظم الصديق “بشرى سليمان”.. (التوب) أيضاً تراجع وحلت محله أزياء ما أنزل الله بها من سلطان.. وجني وجن المحذق، الذي يظهر كل تفاصيل أنثانا السودانية.. أما الموروث من طعامنا وفوائده الصحية والدسمة المغذية انحسر وحلت محله البيتزا والهوت دوق والشاورما و(لغاويس) كتيرة طردت طيب الطعام.. والغريب في الأمر أن الخالق خلق الإنسان وعلمه البيان وجعله خليفته في الأرض وخلق له من الطيبات أشكال وأنواع.. والحيوان يتكيف مع بيئته ولما يمرض يتداوى من أعشاب الطبيعة.. شفتوا الكديسة لما يكون عندها وجع بطن تمشي لي أقرب نجيلة وتتعالج.. البركة في ناس دارفور فهم ما زالوا متمسكين بمورثاتهم في ثقافة الطعام.. أسأل الله أن يعم السلام والوئام أرضهم.. شتاؤهم جميل.. وجبل مرة تحفة سياحية من أجمل بقاع الله.. وحديثي يطول لكن لوجوه الله بأن الذي يميزنا عن بقية خلق الله هو سودانيتنا المتجذرة في العمق الإنساني، الضاربة في عمق التاريخ، والغنية بالموروث الحضاري منذ ملايين السنين، وقد شهدت بذلك الآثار التي تركها الأجداد.. فلماذا نترك كل ذلك يضيع من بين أيدينا؟؟ ونحن من نفر عمروا الأرض حيثما قطنوا.. كما قال شاعرنا الراحل “ود عبد الرحيم”.
وقالوا في المثل السوداني القديم (من نسى قديمه تاه).. وأخشى أن تصدق علينا مقولة (قام تقدم، تاه وقع) لكن العشم ما انقطع في العَقَاب وما تبقى من أهل السودان الشرفاء.