هل حققت حكومة ما بعد (21) أكتوبر مطالب الشعب؟!
(المجهر) توثق للذكرى الـ(53)
“أبو عيسى” لـ(المجهر): أكتوبر أزاحت الديكتاتورية لكن الأحزاب أغلقت الباب أمام القيم وأعادت البلاد للمربع الأول
شقيق رئيس وزراء الحكومة الانتقالية: الثورة لم تكن بسبب الاختناق المعيشي أو غلاء الأسعار ولكن…
“دقش”: الثورة لم تحقق مطالب الشعب وكانت مجرد شعارات وحدثت صدفة
تقرير – هبة محمود
ولسه بنقسم يا أكتوبر .. لما يطل في فجرنا ظالم..
نحمي شعار الثورة نقاوم .. ونبقى صفوف تمتد وتهتف
لما يعود الفجر الحالم يا أكتوبر
لم تكن مجرد ثورة عفوية اجتاحت البلاد وعمت مظاهراتها جميع الأنحاء وخمدت نارها فحسب، ولكنها كانت حركة سياسية تفاعلت عبر (6) سنوات ضد نظام 17 نوفمبر 1958 الذي كان بقيادة الفريق “إبراهيم عبود”.
أراد الشعب السوداني الحياة يومها وإنهاء حكم عسكري تبدى به، فكان له ما أراد عبر انتفاضة هادرة بدأت شرارتها في 21 أكتوبر 1964 ولم تهدأ حتى تم الإعلان عن حل المجلس العسكري وتنحي الرئيس “عبود” عقب أسبوعين من المظاهرات وتشكيل حكومة برئاسة “سر الختم الخليفة” عرفت بحكومة جبهة الهيئات التي حكمت منذ 22/أكتوبر 64 وحتى 7/6/65 في أقصر فترة حكم تشهدها البلاد، ليبقى السؤال حاضراً حول مدى تحقيق الثورة لمطالب الشعب التي خرج من أجلها.
}ثورة عريضة
اندلعت ثورة أكتوبر وهي تشكل الوعاء الجامع لكل ألوان الطيف السياسي والحزبي والنقابي والعمالي، فبمشاركة عريضة من هذا الجمع استطاع الشعب السوداني أن يسطر كلمته دون الرجوع إلى الوراء خطوة واحدة، كما أنه بالمقابل لم يكن يسعى لإحداث تغيير في الوجوه فقط والإتيان بشخصيات بعينها، وإنما أراد تجديداً لحياته بأكملها، فلم يوقفه قمع الاحتجاجات ولم تثنه عزيمته عن الوصول لتحقيق مآربه وأغراضه، فخرجوا جموعاً هادرة وغاضبة، ورغم محاولة الرئيس “إبراهيم عبود” امتصاص غضبتهم تلك بكل ما أوتيّ من مقدرات وإمكانات، إلا أن شعارات المتظاهرين وهم يحملون جثمان الشهيد الأول في الانتفاضة “أحمد القرشي طه” مرددين أشهر هتافاتهم (إلى القصر حتى النصر)، كانت أكبر من خطابه، أي ـ عبود ـ الذي أطل به على الشعب بعد أربعة أيام من حدوث الانتفاضة وهو يلمح ببقائه في السلطة لحين تشكيل حكومة جديدة ومطالبته لهم بضبط النفس، ولكن المواطنين رفضوا وقتها ما تلاه عليهم، سيما أن مضمون الخطاب لم يكن مقنعاً لهم، بجانب سعيهم المضني لإحداث تغيير حقيقي رأوا أنه لن يتحقق عبره، ولذلك ظلوا لأيام ممتدة يواصلون مسيراتهم واحتشادهم إلى القصر الجمهوري، وبإطلاق الشرطة النار على عدد من المتظاهرين فيما يعرف بحادث القصر، لم يكن وقتها أمام الرئيس “عبود” سوى التنحي.
}مطالب الثورة
مطالب كثيرة نادى بها الشعب السوداني حينها عبر ثورة أكتوبر، تمثلت في إلغاء المواد المقيدة للحريات، والمطالبة بحرية الصحافة، بجانب إلغاء قانون الحبس التحفظي، إلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح السجناء السياسيين وإجراء انتخابات والقضاء على الفساد والحل السياسي لمشكلة الجنوب واختيار ممثلين لإدارة شؤون الحكم، ولكن ما إن عادت الأوضاع إلى طبيعتها بتنحي الرئيس “عبود” وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة “سر الختم الخليفة”، ومن ثم قيام انتخابات حرة جاءت بالإمام “الصادق المهدي” رئيساً للوزراء في فترة الديمقراطية الثانية، ولكن دارت الأيام وتعالت الهتافات مجدداً من قبل الشعب عندما شاهدوا الرئيس المخلوع الفريق “عبود” في سوق الخضار وهم يرددون (ضيعناك وضعنا وراك) (العذاب ولا الأحزاب)، الأمر الذي يعطي الكثير من الإشارات السالبة حول عدم تحقيق 21 أكتوبر لمطالب الشعب، وبحسب الأستاذ “حسين الخليفة” شقيق رئيس الحكومة الانتقالية “سر الختم الخليفة”، فإن الثورة حققت جميع مطالب الشعب التي خرج لأجلها بخلاف الدستور الذي شهد تضارباً وتبايناً حسب الأيديولوجيات المختلفة، وقال في حديثه لـ(المجهر) إن الثورة أثبتت نزاهة وحضارة الشعب السوداني، لافتاً إلى أن الخروج إلى الشارع لم يكن بسبب الاختناق المعيشي أو غلاء الأسعار، لكنه كان بحثاً عن حكم ديمقراطي تتوفر فيه الحريات وتنطلق فيه الأحزاب الرشيدة النزيهة، وقال: لم يشهد حكم الرئيس الراحل “عبود” أي مشهد من مشاهد الفساد، حتى أن سمعته لم تلوث يوماً هو ورفاق دربه بأي تهمة من التهم، وزاد: الثورة كانت متقدمة جداً لكن عندما شهد حكم الأحزاب غلاء في الأسعار وبدأ الناس يتأذون منها، بدأوا يهتفون بتلك الهتافات.
}ثورة تنازعتها الأحزاب!!
الكثير من التشويش والشبهات صاحبت أكتوبر حول أحقيتها لأي حزب، سيما أن جل الأحزاب تنازعتها فيما بينها ونسبتها إليها، فقد قيل إنها ثورة شيوعية، بينما ترى التيارات الإسلامية الأحقية الكاملة لها في أكتوبر، وهذا برأي الكثيرين أدى إلى ضعفها وعدم تحقيق مبادئها خاصة أن القيادات الحزبية بنظر البعض أسهمت في إجهاض مطالبها، يؤكد “فاروق أبوعيسى” لـ(المجهر) أن ثورة أكتوبر كانت ملكاً للشعب السوداني وقال: (أكتوبر ما حقت زول والقالوا كدا كضابين).
“أبو عيسى” لفت في حديثه إلى أن الثورة لا تقوم جراء ندوات سياسية ولكنها تقوم نتيجة تراكمات ونضال ويجب أن لا يدعي أي حزب أحقيته لها، فقد لعبت النقابات والاتحادات بجانب الطلاب والمحامين دوراً كبيراً، وذكر أن قيمة ثورة أكتوبر تكمن في أنها طرحت علناً وبشكل جماعي، قضايا التطور في السودان، وقال: أكتوبر أزاحت نظاماً ديكتاتورياً لتثبيت القيم، لكن الأحزاب أغلقت الباب أمامها وأعادت البلاد إلى المربع الأول ولم تحقق الثورة مطالب الشعب التي خرج لأجلها والتي بقيت إلى يومنا هذا محل صراع اجتماعي.
وفي الأثناء يرى الخبير الإعلامي الكبير الدكتور “إبراهيم دقش” أن قيام ثورة أكتوبر لم يكن مبرراً في ظل وجود نظام مستقيم وجاد بقيادة الفريق “إبراهيم عبود” بحسب تعبيره، لافتاً لـ(المجهر) أنها أعادت البلاد إلى الوراء كثيراً وأظهرت مفاهيم جديدة على الشعب السوداني وجاءت بشعارات (جابت خبر الثورة) بحد تعبيره، مثل (لا تحفظ بل إعدام) وغيرها من الشعارات، وقال: العثرة التي أصابت الخدمة المدنية في السودان السبب المباشر لها ثورة أكتوبر، وزاد: الثورة لم تحقق مطالب الشعب وكانت مجرد شعارات وحدثت صدفة.
}آراء متباينة
وبحسب مراقبين ومحللين سياسيين، فإن الفرق بين ثورة أكتوبر والثورات الحالية يعد كبيراً، لأن أكتوبر لها أهدافها ونتائجها ولكن الثورات الحالية ليست سوى مطامع وأهداف خارجية دمرت الأوطان وشردت المواطنين عبر العالم. ووفقاً لكتاب الثورة الديمقراطية والنضال من أجل الحرية والتعددية في العالم النامي، فإن ثورة أكتوبر شهدت لحظة توحد الوطنية السودانية، بأن ضمت هموم المهجرين الشماليين، والحقوق السياسية للمعذبين في الغرب، وقامت على المزارعين في الوسط، وحملت هم قضية الجنوب التي قامت لأجلها، وشارك فيها جنوبيون، منهم وزير الإعلام السوداني السّابق “بونا ملوال” – وهو من قبيلة الدينكا الجنوبية – عندما قال: “كنت من أوائل الذين أعلنوا الإضراب في وزارة الإعلام، وأخبرت جميع الموظفين أن الإضراب بدأ في الحال، غادرت الوزارة كمضرب عن العمل وتبعني الكثيرون”.
وبالمقابل يرى الكاتب د.”الشفيع بشير مصباح” أن ثورة أكتوبر أكبر خديعة أطاحت برئيس فريد كما ورد في مقاله حول ذكرى الثورة، مؤكداً أن حكم الفريق “عبود” مفترى عليه بشعارات ثورية ديمقراطية، مؤكداً أن حكم أكتوبر جاء بدسائس ومكائد حزبية بغيضة بحد ما تناوله مقاله، مشيراً إلى تصاعد الأزمة السودانية لأول مرة والتداول حول مشكلة الجنوب وتطويرها إلى الوضع الدستوري، وكتب: في أجواء أكتوبر جاءت بنود ومخرجات المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، وتحت خباء الديمقراطية آنذاك مورست أشد أنواع الرعونة ووأد الحريات، التي طبقت على نحو أنطولوجي دون قيود، كما تجرأ البعض على مقدسات الأمة وحل الحزب الشيوعي من داخل البرلمان، وتكأكأت الأحزاب الطائفية في تفصيل الدوائر الجغرافية على قدر حاجتها في بسط نفوذها وضمان تحكمها في الشعب، وأضاف: لقد كان المشهد الأكتوبري عبارة عن مسرح من العبث أو مسرح ظل دون معرفة من الممسك بخيوطه.