دارفور بعد رفع الحصار ونزع السلاح (1-2)
الحكومة تقترب من معسكرات النازحين وتفكيك هيمنة “عبد الواحد”
عودة مشروع تنمية جبل مرة قرار رئيس خدمة الموظفين بالمالية
جبل مرة
يوسف عبد المنان
حدثتني نفسي الأمارة بالسفر والترحال في صيف العام الماضي، والسيارات تقل الوفد الحكومي الرفيع بقيادة “حسبو محمد عبد الرحمن” من قولو إلى سرونق معقل قيادة جيش “عبد الواحد” التي اقتلعتها القوات المسلحة عنوة.. وبدأ جبل مرة صامتاً.. ثابتاً.. تفيض خيراته على الناس الذي ألفوه وألفهم.. هل سنعود لتلك البقاع الدافئة شتاءً والممطرة في الخريف والشتاء، وهل بقى في العُمر شيئاً لنتفرس وجه جبل مرة.. ونشهد تنميته وعمرانه الذي تكلفت به رئاسة الجمهورية، في الأسبوع الماضي بدد الشك دعوة وزير الدولة بالإعلام “ياسر يوسف” للعودة إلى تلك الديار.
وكانت رحلة الأيام الثلاثة في محليتين فقط من محليات ولاية وسط دارفور.. والرحلة إلى (دار دما) الزائر المشتاق إلى عيون جبل مرة التي تنزف ماءً عذباً عبر مدينة “الفيتوري” أو الجنينة دار أندوكا التي حينما هبطت طائرة (تاركو) في ميناء الشهيد صبيرة.. لاحت في المخيلة صورة “الفيتوري” وطافت كلماته التي قالها في الجنينة برمزية عشيقة تنتظر معشوقها.
أبطأت وهي وراء الباب تنتظر
هل جئت تحي الهوى أم جئت تعتذر.
جئنا ثلة من الصحافيين وأهل الإذاعة والأدب في رفقة الوزير “يوسف” إلى عمق ولاية الوسط الدارفوري.. أختار وزير الدولة صحافيين “طارق”.. و”أشرف”.. وزهرات عيني الحكومة الساهدتين ونعني بهما تلفزيوني أم درمان والشروق “هالة محمد عثمان” و”إيمان أحمد دفع الله” والصحافية عروس أخبار اليوم “نجاة صالح”، وكان “التجاني الحاج موسى” في عز الليل ينشد مالو قلبي اليوم من جسمي فر وراح.. ويمزج بين السنين مرت ومروا سنين وبراك عارف وبي أدري.. وقد مرت شهور على زيارة نائب الرئيس لجبل مرة الذي ينتظر بالشوق لحسم كثير من الملفات العالقة.. وكانت البعثة الإعلامية تضم نجم الإذاعة “مبارك خاطر” و”موسى” صاحب سهرة من الولايات.. نجوم عديدة اتجهت إلى (دار دما) حملها الوزير “ياسر” من اجل نقل الولايات القصية إلى الإعلام ونسج خيوط وحدة وجدان.. وثقافة وطنية.. تجعل الإطلالة عبر منافذ الإعلام ليست حكراً على أولاد أم درمان وشعراء الخرطوم.. ومبدعي بحري من زالنجي تألق الدمنقاوي “سيسه فضل سيسه” في الحديث عن النظام الأهلي لقبيلة الفور وأثره على وحدة المنطقة.. وأطل “محمد موسى” وهو شاب يجمع بين إمارة القبائل الرعوية العربية ومنصب نائب والي ووزير المالية تسنده ثقافة عميقة وقدرات إدارية.. وتغنى في التلفزيون المطرب “عادل درجة” (بلغة الفور) أو (لهجة الفور) أو (رطانة الفور)!! وتغنت الحكامة “أم عسل” الحزامية للخيل ولجمع السلاح ولوقف الحرب مثلها وجد “يوسف عبود” حق الجهر ما في الجراب من غناء وتراث البراكمة عبر قناة الشروق.. وبذلك يصبح وزير المالية خادماً للإعلام لأداء رسالته.. وخادماً للوحدة الوطنية من خلال تقديم تراث الولايات في الإعلام المركزي.. وخادماً لحكومات الولايات.. وقد أمتد مؤتمر إذاعي لأكثر من ساعة في حلقة (الجمعة) الماضية.. بعد أن كان هذا البرنامج منطقة خضراء ترعى فيها خيول المركز وتطوف بردهاتها حكومات الولايات التي تستطيع أن تصل الخرطوم.. والبرنامج يصل إلى الناس حيث كانوا.
{ ولاية النظام الأهلي
تجربة السُلطة الدارفورية أي حقبة السُلطان “علي دينار” تمثل تراثاً إنسانياً في التحالفات من أجل السُلطة وتأسيس الشوكة وإدارة شأن الناس وتراثاً إنسانياً في التحالف من أجل إدارة الموارد الاقتصادية العلاقة بين الراعي والمزارع، وتعتبر سلطنة الفور الأولى من خلال السُلطان “محمد الفضل” والسلطنة الثانية من خلال السُلطان “علي دينار” نموذجاً في (توسعة) قاعدة المشاركة في الحُكم بلغة العصر الحديث، وقد حكم السُلطان “محمد الفضل” دارفور وكردفان التي خص عشيرته المسبعات بالقيادة، ولكن في داخل السلطنة وجدت كل التكوينات الإثنية الدارفورية لها مواطئ القدم وهو ما عجز عن تطبيقه خليفة “المهدي “عبد الله تورشين” الذي حاصرته المشكلات وأقعدت به المجاعات والحروب.. في ولاية مثل وسط دارفور بما أستلهم واليها من التاريخ تلك الدروس والعبر وهو يمثل شرتاوية منطقة دليج وما أدراك ما دليج والتي كادت القوات المسلحة يوماً أن تلقي القبض على “عبد الواحد محمد نور” وهو متخفياً وسط القرى في بدايات الحرب قبل أن يخرج من السودان.. وهي ذات المنطقة التي لجأ إليها “عبد العزيز الحلو” بعد هزيمته على يد مقاتلي البني هلبة وطارده الوالي الحالي الشرتاي “جعفر” بعربة لاندروفر، لكنه اختفى ولم يعد لدارفور حتى اليوم.. تعلم الشرتاي من التاريخ والحاضر أن التحالفات هي (الأنجع) بقيادة المجتمعات لذلك الولاية الآن تديرها التحالفات الاجتماعية، الوالي شرتاي في عشيرته ونائب الوالي أمير في القبائل العربية و”سيسه فضل سيسه” هو دمنقاوي (دار دما) التي تجمع الفور والبني هلية.. وخزام والمسيرية والحوطية والسلامات.. الأرض كحاكورة هي أرض باسم الفور، ولكنها كانتفاع وأعمار.. وقطف ثمار هي لكل الناس.. ولما خرجت زالنجي في صبح (الأربعاء) في مسيرة حاشدة شاركت فيها الأحزاب والقطاعات الحية في المجتمع من طلاب ومرأة ومزارعين وتجار، كان الشعار الذي أجمع عليه الناس (البندقية حرقت الحشا) تعبير بليغ عن الأضرار التي لحقت بالناس جراء انتشار البندقية، وقبل أسبوع من خروج زالنجي كانت المدينة على شفا انهيار أمني بسبب حادثة غامضة وقعت بالقرب من معسكر (خمسة دقائق) عثر على رجل من عرب خزام مقتولاً بطعنة سكين، ولم يذهب أهله للشرطة.. بل حاولوا اقتحام المعسكر القريب من مسرح الجريمة.. فاختطفوا ثلاثة من الرجال.. وجرحوا مثلهم بالسلاح، ولكن حضور حكمة النظام الأهلي من رأس السُلطة الشرتاي “جعفر” ونائبه الأمير “محمد موسى” والدمنقاوي “سيسه فضل” قد نزع الفتنة وكبح جماح المستنفرين من مناطق بعيدة لأخذ الثأر من النازحين مع أن القاتل لا يزال مجهولاً.. ولكن تم الاتفاق على تضميد الجراح على اتفاق العشيرة والأهل.
في المهرجان الخطابي لمسيرة دعم نزع السلاح قال الشرتاي “جعفر عبد الحكم” إن السلاح سيتم نزعه من الجميع لا حصانة لمعسكر نازحين ولا استثناء لفرقان العرب في البادية ولا قرى الفور حول زالنجي ووادي صالح، بل قال إن المتمردين في قمة الجبل عليهم الاختيار ما بين تسليم الأسلحة التي بحوزتهم والاتفاق مع الحكومة مكرمين أو انتظار وصول (10) آلاف مقاتل من الدعم السريع، طرقوا باب مدينة الفاشر قبل يوم من مسيرة زالنجي.
وقال “ياسر يوسف” في حديثه للجماهير التي انتظرت قدوم الوفد من العاشرة صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر إن الحكومة عازمة على تحقيق السلام في أنحاء دارفور وتنفيذ كل تعهدات الرئيس بإعادة الإقليم إلى حالة أفضل من التي كان عليها قبل نشوب الحرب ونزع السلاح هو الخطوة الأولى نحو الاستقرار في دارفور.
{ قرارات الرئيس تهزمها جيوش الموظفين
عندما أشرقت شمس (الخميس) كانت طائرة اليوناميد التي تم تجهيزها لنقل الوفد وطائرة القوات المسلحة لنقل الجزء الآخر من الوفد، تستعد الطائرتان للتحليق فوق جبل مرة.. وقد اختارت قوات اليوناميد معسكراً شرق المدينة بعد أن وجدت القوات الحكومية في الجنوب الشرقي من المدينة.. سألت العميد الركن “عبد الخالق” هل بالإمكان أن يتجاوز الجيش وقوات اليوناميد، والاثنان يؤديان وظيفة واحدة كما هو معلن، صمت العميد “عبد الخالق” قال يمكن أن نجاور الماء والنار وضحك بطريقته وهو من فرسان القوات المسلحة المخلصين في أداء مهامهم، عرفته منذ سنوات الجنوب.. في الطريق إلى جبل مرة قال “ياسر يوسف” للأستاذ “التجاني حاج موسى”.. إذا نزل عليك شيطان الشعر في قمة جبل مرة لا تهبط معنا حتى تكتب آخر حرف في القصيدة التي أراها في عينيك.. ضحك “تجاني” وقال كثرة الملهمات تعيد لنا نفس الثمانينيات.. والمسافة بين زالنجي ونرتتي وحتى قولو هي الأرض التي اختارها الرئيس “عمر البشير” قبل عامين لإقامة مشروع تنمية جبل مرة الزراعي الذي قتله التمرد.. وأعلن الرئيس في زيارته لزالنجي وهو يطلب من مواطنيها التصويت له في الانتخابات الماضية أن مشروع جبل مرة لا يموت.. وأصدر الرئيس قراراً بإحياء المشروع المقتول غدراً وغيلة ورسم قرار الرئيس الابتسامة في وجوه الناس، وربما كان هذا القرار هو واحداً من الدفوعات التي قدمها الشرتاي “جعفر” لمتمردي حركة تحرير السودان وأقنعهم بهذا القرار ليوقعوا على اتفاقية (كورون) التي قدمت للوطن ألف مقاتل من قوات حركة التحرير لينضموا إلى القوات المسلحة، حيث مات قائدهم الأمين “ثورو” في ميدان التدريب ببورتسودان، ولكن قواته الآن هي من يساهم في تأمين جبل مرة.. ولكن قرار الرئيس بإقامة مشروع جبل مرة هزمه الموظفون في وزارة المالية الذين (أمسكوا) بيدهم المال ورفضوا التمويل حتى التأسيس الإداري للمشروع.. وظل الشرتاي “جعفر” يهرول بين مكتبي الوزير ومكاتب الوكلاء والنساء اللاتي ينتشرن في خزانة المال السودانية وربما يعود الرئيس إلى زالنجي هذا العام ويسأله الأمير “فضل محمد نور” والدمنقاوي “سيسه فضل سيسه” عن قرار عودة مشروع تنمية جبل مرة.. ولن يستطيع الرئيس الرد على أسباب هزيمة قراره من قبل موظفي وزارة المالية وكبيرهم الجنرال “الركابي”.
في قولو حيث هبطت بنا الطائرة نحو الحادية عشرة صباحاً بدأت ملامح تغيير حقيقية على وجه الناس وملابسهم.. الرجال غطت النعومة خشونة السنوات المُرة في أحضان التمرد وسوق قولو أخذ يستهلك الحناء.. ومستحضرات التجميل وطلاب المدارس على وجوههم علامات الرضاء.. بعد أن غادروا المعسكرات التي كان يسيطر عليها “عبد الواحد محمد نور”، ولكن الآن بدأ يفقد السيطرة عليها يوماً بعد الآخر.
نواصل..