بعد ومسافة
مَنْ عفّر الوجه الأبي وَمَنْ أباح لك الرقاب ؟
مصطفى أبوالعزائم
نستعير اليوم جملةً وسؤالاً من قصيدة معروفة لشاعرنا الكبير الراحل “مصطفى سند”، رحمه الله وغفر له وعفا عنه، وهي قصيدة (مقاطع استوائية)، نستعيرها اليوم ونحن في مرحلة ما بعد رفع العقوبات الأمريكية عن بلادنا، وهي مرحلة حساسة وحرجة ستكشف بلا شك عن قدرات الحكومة في مواجهة الوضع الجديد الناتج عن رفع العقوبات الأمريكية، فإن نجحت الحكومة في العبور اكتسبت شرعية شعبية جديدة تبقيها لمراجعة كل أخطاء الماضي الفادحة التي رمت بنا في غيابات الجب وقذفت بنا إلى ما وراء شمس الحرية الاقتصادية والحركة المقيَّدة التي واجهناها عقب فرض العقوبات على بلادنا قبل نحو عشرين عاماً.
هذا الشعب العظيم الأبي الكريم.. من عفّر وجهه وأباح للآخرين أن يفعلوا به ما فعلوا (؟) السياسات الرعناء والتخبط وسوء تقدير الأمور كانت هي السبب، وفوق هذا وذاك كان وهمُ القوة التي تمكِّن الخرطوم – الواقعة تحت تأثير وقبضة فئة قليلة تسعى لتنزيل أحلامها في الحكم على أرض الواقع – من مواجهة العالم كله ومحاربة الولايات المتحدة الأمريكية وتخويفها بـ( الحناجر) لا (الخناجر) بمثل الأغنيات الهتافية مثل (أمريكا روسيا قد دنا عذابها) وأناشيد على تلك الشاكلة، وتوهّم من كان في أيديهم التأثير على القرار أن العالم سيدين لهم. دعونا نستعير بعض أبيات شاعرنا العظيم سند وهو يقولُ في قصيدته تلك (مقاطع استوائية):
في البدء قال الواهمون
يا للسعادة بيت صاحبنا القرنفل
قاع منزله البُهار، وسقفه الغيم الحنون
يا حظّه التهم الصدور
مراكب الزلق المريح وعبّ أنهار العيون
نصبته حانات النبيذ وأعين السُمّار
بهجة يومها الباكي على وتر الشجون
وأعدّ كم أكذوبة عني يقول الواهمون..
نعم.. سوء التقدير والتخبّط والانقياد شبه الأعمى لأفكار الحالمين الطامعين في السلطة والثروة والسلاح قاد بلادنا إلى تلك العزلة، وقد خفّ العبء رويداً رويداً بالتصحيح والإصلاح المتدرِّج والانفتاح على بقية القوى السياسية ومشاركتها في تحمّل مسؤوليات الحُكم، وذلك منذ نهايات العقد الثاني من عمر نظام الإنقاذ والذي تحوَّل إلى مفاصلة بين معسكرين في المنظومة الحاكمة عرفا بمعسكرَيْ “القصر” و “المنشية” لكن العالم كان بين مصدِّق ومكذِّب لما حدث في الخرطوم وظلَّت العيون مفتوحة على تصحيح دفاتر الحكم في القصر الرئاسي، وتغيَّرت قيادات في مجالات الحكم والإدارة والدبلوماسية، لكن الهدف ظل هو الهدف إلى أن اقتنعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بأن التغيير في السودان حقيقي وأن الرئيس “البشير” نفَّذ انقلابه الثاني بنجاح واستطاع أن يصحح الأوضاع رغم الابتلاءات الصعبة والتحديات القاسية التي وصلت مراحل كان يمكن أن تطيح بالنظام وأركانه لولا الصبر والمساندة الشعبية التي وجدها النظام في سعيه لتحقيق السلام الشامل بجنوب السودان رغم الثمن الفادح الذي تحمَّله الشعب في شمال وجنوب السودان والذي كان هو انفصال جزءٍ عزيز من الوطن، ثم الأزمات الاقتصادية الناتجة عن ذلك الانفصال، وقبل ذلك نشوء الحركات المسلحة التي تمرَّدت على السلطة المركزية وحملت ألوية وأسلحة المقاومة والرفض لكل سياسات الحكومة، غير مؤامرات دولة جنوب السودان ودعمها لقطاع الشمال قبيل تغيير المواقف في الفترة الأخيرة .
الآن وبعد الرفع الكلي والنهائي للعقوبات الأمريكية علينا ألا نُفْرِط في التفاؤل، فالتحديات مازالت ماثلة، ورغبة الكثير من القوى السياسية والحزبية المعارضة أو المشاركة في الحُكم مازالت قائمة في الإطاحة بنظام الحكم لتجد لنفسها مكاناً في مقعد الحكم والإدارة الذي ترى أنها قد حُرِمت منه طويلاً، لذلك سيصبح حل كل مشاكل السودان في المستقبل في يد الفئة الحاكمة وذلك بتنفيذ برامج الإصلاح الشامل في مجالات السياسة والإدارة والحكم وفتح الباب أمام القوى السياسية لتعمل تحت الضوء مع اعتماد مبدأ الشفافية وترسيخ مفاهيم الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، لأن هذا هو الترياق الذي يعمل على تحصين البلاد من الفساد والانزلاق في مناوئ الضياع والانقسامات التي ستظل سيفاً يهدِّد وحدة البلاد وتماسكها.