رأي

الحـج أشهر معلومات

د. محمد الأمين خليفة

   شعيرة الحج عظمى خصها الله بحرمات عدة منها حرمة الزمان “ذو الحجة” وحرمة المكان “مكة المكرمة” وحرمة العبادة على ما يحل في غيرها من العبادات فما تسري نسماته وتبدو طلائعه حتى يخفق القلب ويهوى الفؤاد وتتحد الرغبة الجامحة والإرادة الصادقة فينهض المسلم طمعاً فيما عند الله ليخرج من سفسف الأمر إلى العلياء ومن رهق النفس إلى الطمأنينة ومن لغو الحديث إلى المناجاة ومن تعلق الآثام واللمم إلى حطَها وجلائها تجديداً للحياة وسيراً على طريق الأمن والسلام فينساق المسلم تلبية لدعوة الجليل واستجابة لنداء الخليل (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) ومن الرغائب ذلك الحديث الصحيح للرسول عليه الصلاة والسلام حين قال (إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات)، فرح عمر بن الخطاب ولم يحتمل السكوت، فقال يا رسول الله هذا لنا خاصة؟ فقال عليه الصلاة والسلام (هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة)، فقال عمر منشرحاً (كثر خير الله وطاب). فالحج شعيرة التوحيد الأتم فالله يحب من يؤمن به ويوحده ويبغض من يشرك به ويكفره.
في هذه الأيام تتحرك وفود الرحمن وكرنفالات الجلال صوب البيت العتيق من كل فج عميق متجردين من قيود العصبيات ومن هوى الشهوات متدافعين صوب أول بيت وضع للناس، فما أن تلوح مآذن الحرم الشامخة ومن ثم البيت ذو الكسوة السوداء المرصعة بالآيات والخيوط الصفراء المذهَّبة حتى ينطلق اللسان بالتلبية جهراً بصوت مرتفع (لبيك الله اللهم لبيك).
ها قد تحقق وعد الرحمن وكثر الزوار وضاق المكان رغم التوسعة المتكررة والمستمرة والتي يقوم بها خُدَّام بيت الله الحرام وخُدَّام وفود الرحمن وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين جزاهم الله خيراً على ما أدوا من أجل تيسير أداء النسك والشعائر للمسلمين. وفود الرحمن يطوفون عند القدوم بنشوة ويرملون إظهار للقوة التي هي صنو الوحدة ويتحاذون الصلاة عند مقام إبراهيم أسوة به ويتضلعون من ماء زمزم بنيات  الموقين ويسعون سعياً حثيثاً كما فعلت أم إسماعيل يرجون الرحمة بعد العناء والنصب والفرج بعد الكرب واليسر من بعد العسر وتتصل المسيرة إلى منى للمبيت فيها يوم التروية وأداء الصلاة فيها بمسجد الخيف تلك البقعة التي صلى عندها أكثر من أربعين نبياً يقتدون أثر الصالحين وتستمر قافلة الهداية ومواكب العز وتتدافع  وفود الرحمن صوب عرفات للوقوف عندها ولم يفرغ مكان إلا وفيه  عبدُ وافق داعياً لله مبتهلاً يرجو الرحمة ويسأل المغفرة ويخاف العذاب وترى الوفود بزيهم الموحَّد ذي اللون الأبيض مثل حبات الأرز المنثورة على الأرض الواسعة هنا وهناك وثلة على قمة جبل الرحمة وتظهر قمة التوحيد والتبتل والخضوع، فقد اكتمل الدين وتمت النعمة ورضي الله لنا الإسلام هوية دينية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)  في هذا المكان (عرفات) وقبل أكثر من ألف وأربعمائة عام من الهجرة يخطب الرسول محمد (( عليه الصلاة والسلام)) مبيِّناً حقوق الإنسان، ومشيراً إلى سبل السلام مفنِّداً الحقوق والواجبات والحرمات موصياً الرجال بالنساء خيراً واضعاً كل أمر من أمور الجاهلية تحت الأقدام وقد بذر في قلب كل مسلم شهد ذلك الموقف بذرة الثورة على الظلم والبغي والعدوان وأوضح الجوانب الاقتصادية السليمة للدولة وأغلظ في تحريم الربا ورسم السياسة العامة ولم يترك شاردة ولا واردة إلا أبانها للناس وختم التمسك بالثوابت في قوله (تركت فيكم ما إن تمسكتم لن تضلوا بعدي أبدأ كتاب الله وسنتي) ثم استشهد الناس على ذلك فأجابوا بصوت واثق مرتفع (نشهد أنك قد بلغت اللهم فاشهد) ومع غروب الشمس في عرفات وقبل أن يرخي الليل سدوله عليه يفيض كل الناس قافلين صوب المشعر الحرام شعثاً غبراً ويرددون التلبية والذكر الكثير من بعد الصلاة يأخذون قسطاً من الراحة ثم ينهضون عند السحر، وبعد أداء صلاة الفجر يتسلحون من ذخائر المزدلفة بأكثر من عشرين مليون حصاة لليوم وأضعافاً مضاعفة كمرتب عمليات للأيام الثلاثة الباقية رجماً للشيطان، فمن في كفه منهم حصاة كمن في كفه منهم قناة فهو العدو الحقيقي فهو الذي دعا حزبه للنيل من الإنسان وهو الذي تسبب في اقتتال الأفغان وتفريق جمع أهل الصومال ويريد إن يوقع  بين أهل السودان وهو الساعي بالفتنة في كل مكان وهو الذي يزيِّن لأهل السلطان بقوله (ألا أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) ليصدقه ومن ثم يرسم له برنامج الشقاء والهوان . وهو يسعي سعياً حثيثاً في تفريق أهل القبلة الواحدة والأمة الواحدة والجنس الواحد.
 (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) ومن بعد تمام الشعيرة وإظهار الوفاء بإهراق الدم والإذلال لله بقضاء التفث والطاعة المستدامة بالطواف وفي القلب هوى وعهد للرجوع تارة أخرى، ولكن لم يهدأ للمسلم الحاج بال حتى يشد الرحال إلى دار الهجرة لزيارة أمام المتقين والرحمة المهداة للناس أجمعين وما تستبين القبة الخضراء حتى يحدث المسلم نفسه هذه طيبة الطيبة أول حاضرة للدولة السلامية هاجر إليها ودفن فيها خير البرية وهنا كتب أول دستور إسلامي صار أنموذجاً للعهود والعقود والمواثيق وعند الدخول من باب السلام يرغب كل مسلم أن يحتل في المسجد، عند الروضة الشريفة ومن بعد الصلاة والمناجاة تبدأ الزيارة وما أن يقف الحاج عند باب القبر حتى يتغيَّر كيمياء جسمه ويشعر أنه أمام حضرة من اجتباه ربه واصطفاه على سائر خلقة صاحب الرسالة الذي جاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين فالصلاة عليه وأكمل السلام وأتم التسليم ثم الصلاة على صاحبيه خير وزيرين له جزاهما الله خيراً على التصديق والمؤازرة واتباع النور الذي أنزل إليه. وعندما يقف الحاج عند مهبط الوحي ليدعو، تستجاش المشاعر وتغرورق الأعين بالدموع وتمتلئ وتنحدر على الخدود ثم تفيض وتسيل على الجيوب، فهنا كان يهبط أمين الوحي من السماء إلى الأمين في الأرض يقرؤه السلام وينزل عليه الأوامر والنواهي والتعليمات والتوجيهات وأصول الأحكام والتشريعات والعبادات والآداب والأخلاق وكل أسباب السعادة (فلبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية