بعد ومسافة
في ضيافة “مهاتير”
مصطفى أبو العزائم
نفسح المجال اليوم لمادة بعث بها إلينا الأخ الكريم الشيخ الدكتور “مبارك الكودة” تستحق أن نشرك معنا قارئ هذه الزاوية وكل قراء هذه الصحيفة في الإطلاع عليها… وقد جاءت بالعنوان أعلاه.
في ضيافة “مهاتير” الناظر للساحة السياسية السودانية مقارنةً بالنظم السياسية الأخرى في العالم المتقدم والمتأخر، يرى أننا نفتقدُ بصورةٍ واضحة جداً إلى السياسي المعاصر، صاحب الرؤية الثاقبة والإستراتيجية الشاملة، السياسي الذي يعرف زمانه وواقعه الاجتماعي والاقتصادي معرفةً دقيقةً تؤهله لأن يقدم رؤيته ونفسه لشعبه بعلميةٍ وموضوعيةٍ وثقة٠
أتيحت لي فرصة جلست فيها مع د. “مهاتير محمد” الرئيس الأسبق لدولة ماليزيا بمنزله بكوالا لامبور، فحدثنا عن تجربتهم في الحكم وكيف استطاع حزبه أن يلتزم بحقوق الأقليات (الصينيون والهنود)، ولم يكن التزامهم بهذه الحقوق تجاه الأقليات كسباً سياسياً من أجل التمكين والاستفادة من الإمكانات المادية والأصوات عند الانتخابات، إنما كانت قناعةً راسخةً من باب رد الحقوق إلى أهلها والاستقامة في الحكم صدقاً وعدلاً، وهجرةً إلى الله سبحانه وتعالى (فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)، كان يتحدث معنا وكنت أقارن بين رؤيته ورؤيتنا كساسة، أحس باللطف واللين ومكارم الأخلاق والصدق في ثنايا حديثه والخشونة والجلافة والسطحية وعدم المسؤولية في تاريخنا السياسي ما بعد الاستقلال، وطافت بذهني مقولاتنا كساسة (البلد بلدنا ونحن أسيادها) (وقد يأتي وقت تمتلئ فيه جيوبكم بالجنيهات وتكونوا غير قادرين على شراء شيء) (الحس كوعك) (الزارعنا غير الله اليقلعنا). تحدث “مهاتير” باستفاضة عن أهمية التعليم باعتباره العامل الأساس لنهضة الأمم وكيف أنهم أصبحوا قبلةً في هذا المجال، وتحدث عن المرأة باعتبارها والرجل زوجين، وقال: إن النهضة لا تقوم إلّا بالزوجية (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وليست الزوجية هنا بمفهوم عقد النكاح بين الذكر والأنثى لتأسيس أسرة، إنما بمفهومها المطلق وهو زوجية المسؤولية الإنسانية المشتركة بين النساء والرجال لعمارة الأرض ولتأسيس أمة، وحدثنا عن ضرورة إبعاد القوات المسلحة عن السياسة لِيَطّلِعُوا بدورهم المناط بهم، وهو حماية الثغور والأمن القومي، وذكِّرني حديثه هذا كيف جئنا بهم نحن ساسة ما بعد الاستقلال ثلاث مرات للحكم، المرة الأولى عندما استدعاهم حزب الأمة لاستلام السلطة عام ١٩٥٨م، والثانية عندما جاء اليسار بالعقيد “نميري” عام ١٩٦٩م، والثالثة عندما هتفنا كإسلاميين في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء عام ١٩٨٩م٠حدثنا “مهاتير” قائلاً: إن إمكانات السودان الاقتصادية والذي استقل عام ١٩٥٦م، أفضل بكثير من إمكانات ماليزيا والتي استقلت عام ١٩٥٧م، ونصحنا أن نتخذ من نظام (البوت سيستم)، وهو نظام البناء والتشغيل والتحويل بداية للنهضة، وذلك بتأسيس البُنَي التحتية من طرقٍ وكباري ووسائل المواصلات …الخ، وذكر أن لهذا النظام القدح المعلى في نهضتهم الاقتصادية.
خرجت من هذه الجلسة العابرة بفوائد جمة، وتعلَّمت فيها أن القيادة كاريزما إيجابية وقدرة علمية عالية تحدد الأهداف وتديرها وتشخِّص المشاكل وترتِّب الأولويات وتعمل على تنفيذها، كل ذلك بوعي تام بمقدرات الشعب وإمكاناته المتاحة. الواقع الآن أن الزبد قد تراكم وطغي فساستنا منذ الاستقلال يعتقدون أن شعبهم غير مؤهل لحكم نفسه بنفسه، ويرمونه بالسفه، والسفيه شرعاً كما هو معلوم من لا يملك حق التصرف فيما يملك بسبب قصوره الذهني، وهم على هذه الحالة من الفهم القاصر والجمود تغيَّر الحال من حولهم في الداخل والخارج، وتطوُّر وعي المواطن وتجاوزت تطلعاته وطموحاته سقف معرفتهم بكثير، ربما تتفاوت مقدرات القادة الشخصية، ولكن تظل القدرات المعرفية بالواقع والزمان كما كانت من قبل. ويقابل هذا الزبد زبدٌ مثله تتميز به المعارضة والتي ظلت دائماً وأبداً تبحث عن عورات الحكومة لتسقطها علماً بأن المعارضة في علوم السياسة مؤسسة وطنية تتوسل بما تملك من حق لدعم السلطة بالبدائل والنصح من أجل مصلحة الوطن ولا يجوز (دس المحافير) والمعارضة المثالية ما هي إلّا قرنا استشعار وزرقاء يمامة لمعرفة الأخطار التي تحدِّق بالوطن، وهذا السلوك الوطني الإيجابي للمعارضة هو الذي يعبِّد أمامها الطريق للوصول للسلطة الدورات القادمة، وبالطبع ما أوردته من وصف للمعارضة هو المثال في الدولة المثالية، ولكن عندما تختل النظم والموازين تختل معها بالضرورة المعايير ويختلط حابلها بنابلها. كشفت وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً هذا الخلل المعرفي، فتجد أحياناً كثيرة حواراً بين مدرستين سياسيتين أو بين قيادات حكومية وأخرى معارضة يستمر لساعات طويلة ثم ينتهي بالسباب والشتم والاتهامات والانتصار للنفس، وهذا بلا شك أمر مؤسف وكان ينبغي على السياسي صاحب المشروع الوطني أن يكون متسامحاً (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وأن يكون مؤمناً بأن ما يصيبه من نصبٍ وأذًى هو بالضرورة ملازمة لما كلّف به نفسه من مسؤولية تجاه وطنه وشعبه، فعليه أن يتحلى بالصبر والجلد تجاه ما يصيبه من قومه (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون) ويقدم ما عنده من رؤية بالحكمة والموعظة الحسنة، وينبغي ألّا تختلط عنده الأوراق، فالسياسي ابتداءً مهمته الإصلاح الاجتماعي ثم من بعد ذلك الإصلاح السياسي٠لن يفلح من جاء لينتقم ٠٠٠ اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وأهدنا وأهد بنا وأعنا على أنفسنا ..آمييييييين.
مبارك الكودة