بعد ومسافة
في حضرة الشيخ “علي عثمان”
مصطفى أبوالعزائم
يفني كثير من السياسيين زهرة شبابهم، وكل أعمارهم في ساحات الصراع السياسي، يكيدون لغيرهم ويُكَاد لهم، تتسع مساحات الغبن والضغائن وربما الأحقاد، حيث أن الروح الرياضية تكاد تنعدم تماماً لدى كثير من ساستنا، لا يعترفون بالتقاعد والأمثلة عندنا كثيرة، فهناك من يريد (القتال) أو (النضال) أو (الجهاد) إلى آخر عمره إما للعودة إلى مقاعد الحكم واتخاذ القرار، وإما إبعاد الجالس على مقعد السلطة ليحل محله، ويصبح دائماً (الكرسي) هو المطلوب الأول لدى كل العاملين في هذا المجال.
قطعاً ليس كل الذين يعملون في مجال السياسة بذلك النهم للسلطة، فهناك قلة ليست كذلك لكن ذلك هو الاستثناء لا القاعدة، حتى أننا لننخدع في أسماء كبيرة براقة ولامعة، ونكتشف مدى وحجم الزيف الذي طغى على المظهر السياسي العام الذي اعتاد عليه الناس من خلال اللقاءات والحوارات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية، والذي يظهر من خلاله السياسي أو المسؤول الفاعل، كأنما هو راهب في عالم السياسة المرتبطة بخدمة الناس والحفاظ على مصلحة الوطن والمواطن، ولكن حال الاقتراب من أمثال هؤلاء الزائفين تنكشف الحقائق، وكيف أن الواحد منهم حال ابتعاده عن مراكز السلطة واتخاذ القرار يصبح شخصاً آخر غير الذي ألفه الناس وهو في مقعد الحكم.
لم يتوقع كثير من الناس أن يجلس الشيخ الأستاذ “علي عثمان محمد طه” على مقاعد المتفرجين بعد أن غادر أعلى منصب دستوري بعد منصب رئيس الجمهورية قبل سنوات قليلة، ضمن برنامج سياسي شامل تم الاتفاق عليه داخل حزب المؤتمر الحاكم في السودان، وكان المراقبون يتوقعون أن ينتقل جهد الرجل ونشاطه إلى البرلمان أو إلى داخل الحزب الحاكم أو إلى الحركة الإسلامية التي كان أميناً عاماً لها لسنوات وسنوات، لكن الرجل فاجأ الجميع بمن فيهم المقربون له بأن اكتفى بالجلوس إلى نفسه بعض الوقت ومراجعة النفس بعيداً عن كرسي السلطة الذي جلس عليه طويلاً في مواقع متعددة، ثم رأى أن يعمل بنظرة وتقييم السياسي المتجرد على معالجة أي خلل في تعامل المجتمع مع كثير من القضايا، وكان أن أشار بإصبعه إلى قضية ذوي الإعاقة، هذه الشريحة التي يستوجب التعامل معها اهتماماً خاصاً من قبل كل مكونات الدولة، فعمل مع مجموعة ذات صلة بهذه القضية على تأسيس المؤسسة السودانية لذوي الإعاقة، واهتم بقضية نقص الطعام التي تواجه مجموعة كبيرة في بلادنا فعمل على إنشاء بنك الطعام والوقوف على رأس إدارته لتوفير الطعام – قدر المستطاع – للذين يحتاجون.
قبل أيام تلقيت محادثة هاتفية من مكتبه في المؤسسة السودانية لذوي الإعاقة يدعوني فيها للقاء مع الشيخ “علي عثمان محمد طه” ظهر أمس (السبت) مع عدد من رؤساء تحرير الصحف والكُتاب وقادة الرأي العام بمكتبه – منزله القديم – للتفاكر حول دور الإعلام في مساندة قضايا ذوي الإعاقة من أبناء وبنات السودان. وقد تحمست لذلك كثيراً، وكنت هناك في الموعد المحدد، مع مجموعة كبيرة من الزملاء التأم شملنا داخل صالونه الواسع، فاستمعنا للرجل وهو يقدم حيثيات عظيمة ومقنعة عن قضية ذوي الإعاقة من عدة زوايا، أولاها إحساسه الإنساني العالي بهذه الفئة، وقد اطلع على أهم احتياجاتها عندما كان وزيراً للتخطيط الاجتماعي، ثم من زاوية المسؤول التنفيذي الذي لم تمكنه ظروف الحكم بالتفرغ التام لهذا الملف، ثم من زاوية القانوني والقاضي والمشرع الذي يريد أن يتم وضع وضبط قوانين خاصة وتفعيلها لتحقيق المكتسبات المشروعة لهذه الفئة.. ومن زاوية أخرى هي تحريك المجتمع كله من أجل ذوي الإعاقة.
تحدثنا وتداخل أكثر المشاركين، واتفق الجميع على أهمية تسليط الضوء على قضية ذوي الإعاقة، والعمل على ترقية وعي المواطن العادي بتلك القضية حتى يتفاعل معها التفاعل الايجابي.. وقد كان اللقاء مثمراً وناجحاً بكل المقاييس، ونحسب أنه دفعة جديدة من أجل أبناء وبنات هذا الوطن أجمعين، خاصة ذوي الإعاقة.
خرجنا وتمنينا أن يكون كل ساستنا بهذا الوعي والفهم والإدراك، وإن كانوا كذلك لصلح المجتمع والوطن الذي لم يقعد تقدمه سوى سجن الأنانية الذي يحبس فيه السياسيون أنفسهم سجناً مؤبداً لا إفراج فيه.