رأي

(1) قبل رحيل "زيدان" بأيام!!

التجانى حاج موسى
“نمشي الشكلة نشوف زيدان” قالها صديقي “علاء الدين” القادم – وقتها من (أبو ظبي)، وعادة قبل سفره إلى بلدته (شندي) يجلس معنا أياماً من إجازته السنوية فهو صديق مقرب إلى “زيدان” الذي عرفني به فنشأت علاقة صداقتي معه، والرجل محب للعندليب منذ أن كان طالباً بجامعة الخرطوم بكلية العلوم والتي أنشأ فيها رابطة محبي “زيدان”.. وصلنا الشقلة استقبلنا “ناصر” مدير أعمال “زيدان” وسائق عربته.. دلفنا إلى غرفة الاستقبال وجدنا “السر شابو” أحد المقربين إلى “زيدان” لسنوات عديدة، ووجدنا الموسيقار الملحن “عبد الله الكردفاني” قلت ها؟! إن شاء الله يكون حالتو اتحسنت (والله الحال ماشي لي أسوأ!! والأستاذ رأسو ناشف ما داير، يمشي معانا الدكتور!!).. دخلنا عليه وجدناه متغطي ببطانية وبالقرب منه تربيزة بها إناء فيه حساء.. يبدو أنه لم يشرب منه.. هش وافتر ثغره عن ابتسامة شاحبة وهزال ينبئ عن جسم مريض.. انشغل عنا بمتابعته لقناة كانت تبث مباراة لرياضة التنس (دي المباراة النهائية للدوري الأوروبي) وكنت أعلم حبه لتلك اللعبة، (تشربوا شاي).. (خليك من الشاي)!! أنت ليه ما داير تمشي للدكتور؟! (بمشي!!).. دخل علينا في ذلك المساء الحزين الصديق “حسن صالح” المكنى (بحسن سونا)، يزور صديقه “زيدان” ويعوده في مرضه.. تحدثنا يلفنا الحزن والقلق على صحته، ثم انبرى مخاطباً له يا “زيدان”!! ما تجبر خاطرنا وتمشي تقابل الدكتور، “حاضر يا أبو علي نمشي”، وبالفعل نجح “حسن سونا” وذهب “زيدان” معه للطبيب.. حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف علة “زيدان” ولم أسأل عن نتيجة الفحوصات التي أجراها.. لكنني على يقين من أنه يعاني مرضاً عضالاً أدركت ذلك قبل شهرين من رقدته الأخيرة بمسرح قاعة الصداقة حينما أقام لي أصدقائي بمنظمة مسارب للآداب والفنون.. أمسية تدشين ديواني الشعري.. وشارك “زيدان” وغنى أغنية “قصر الشوق”.. الأغنية الأولى التي كانت مفتاحاً لعبوري إلى باحة الإبداع (شكراً يا حبيب.. ما كان تجي لك العذر.. أنت محموم!!).. ما ممكن ما أجي!! والله لو أحبي لازم أجي وأشارك في أمسيتك أنت أخي الذي لم تلده أمي!! عانقته ليلتها والدموع تملأ أعيني.. وجسمه كان ملتهباً بسبب الحمى.. ثم كانت أمسية بمنزلي حضرها عدد من الأصدقاء.. تحامل على نفسه يجر أقدامه.. ولم يتناول في ذلك العشاء سوى ملعقتين من الشوربة التي يحبها أعدتها له زوجتي التي يعتبرها أخته.. شوربتك طاعمة وأكلك لذيذ يا “ندوية”!! لكن المرض سلطان!! تلك كانت آخر زيارة له لمنزلنا.. نزلت معهم لعربته قال لي هامساً (تعرف يا صاحبي أنا زعلان من شنو؟! زعلان إنو عندي أغنيات جديدة كتيرة ما سمعوها الناس!! وما أظن في العمر بقية)، الأعمال بيد الله يا “محمد” – أحياناً لا أناديه بـ”زيدان” لأن اسمه بشهادة الميلاد “محمد إبراهيم زيدان”!! وقال “ومبسوط إنو أخيراً غنيت إيقاع الدلوكة لأول مرة في أغنياتي”، يقصد آخر أغنية غناها من نظمي ومن ألحان الملحن الراحل “سليمان أبو داؤود”.. في المقطع الذي يقول.. يا المخلوق بي لون الطيف.. أوصف فيك..؟! أوصف كيف؟!، وقال وزعلان منك لأنك ما مشيت معاي إدارة الأوقاف عشان أوقف منزلي للمسنين!! كنا نذهب إلى دار الضو حجوج للمسنين نشرب معهم القهوة ويغني لهم.. تركت “زيدان” وسافرت في معية الصديق الصحفي “جمال عنقرة” الناشط الثقافي ضمن وفد ثقافي شعبي نظمته مؤسسة ثقافية يترأسها.. ولقد ضم مجموعة من أهل الإعلام.. ما كنت أريد مغادرة أم درمان وصديقي يعاني ويقاسي المرض ويعاف الطعام لولا التزامي مع الصديق “عنقرة”.. لكن أوصيت زوجتي لتوافيني بالأخبار وهذا ما حدث بالفعل.. هاتفتني بنبرات صوت أعرفها وأنهم بالسلاح الطبي يستعدون لإرسال “زيدان” لمواصلة العلاج بمصر وأنهينا ليلتنا بمسرح البالون وغادرت مكان سكني لأحط رحلي مع صديقي الشاعر المقيم بالقاهرة “بكري نعيم”.. ذهبت معه إلى مستوصف المروة القريب من شارع السودان وجامعة الدول العربية وهنالك التقيت بالصديقين “كردفاني” و”زكي” وهما صديقان مقربان من “زيدان”.. وعلمت منهما تفاصيل رحلتهما مع العندليب.. حدثاني بمشهد المئات من زوار “زيدان” بمستشفى السلاح الطبي وأن الجميع هرعوا للاطمئنان على فنانهم الرقيق.. هنا لا بد من شكر من أسهموا بالمال ومنهم الزميل الصديق “الهندي عز الدين” و”حسن سونا” وآخرون.. كذلك سفيرنا السابق “كمال حسن علي” والملحق الثقافي د.”إبراهيم” وكافة العاملين بالسفارة وجمهور غفير من السودانيين والسودانيات ضاقت بهم الشوارع التي تفضي لمستوصف المروة الذي لم يشهد مثل ذلك الحشد من الجمهور يتدافعون لعيادة “زيدان”.. وزالت دهشتهم حينما علموا بأن المريض هو العندليب الأسمر السوداني.. الجناح الخاص بـ”زيدان” كان لا يخلو من زواره.. أشار بيده ليهمس لي بصوت متهدج النبرات كأنه آتٍ من بئر عميقة ونظراته فاترة ولون حدقتي عينيه كان لوناً رمادياً.. الفنانتان السودانيتان “ستونة” و”جواهر” لم تغيبا عن الحضور.. السفارة خصصت شقة لمرافقيه.. الصديق “أشرف الكاردينال” عبر الصديق “وليد السر” (دينار).. أرسل مبلغاً مقدراً لمقابلة مصاريف العلاج.. طبيب بروفيسور “صديق” مقيم بالسعودية طلب أن نعجل بترحيل “زيدان” لعلاجه بالسعودية “كلم ناس المستوصف ما يحموا الناس، أن غير حبهم ما بسوى شيء”، وكان يصر على الرد على محادثات هاتفه ولاحظت في الأيام القليلة التي قضاها بالمستوصف أن صوته بدأ يخفت تدريجياً إلى أن أصبح همساً متلعثماً.. قبل يوم من وفاته قال لسيدة جاءت لزيارته حابسة دموعها التي غالبتها (ممكن تعملي لي ملاح أم رقيقة)؟! ذهبت وجاءت بملاح أم رقيقة وأطعمته لقمة صغيرة واكتفى.. قبل ساعات من وفاته أخبرني الطبيب المستشار الطبي بالسفارة حزيناً وهامساً (تعرف يا أستاذ حالة زيدان محيرة!! هل تعلم بعد إعادة فحصه وفق حالته المفروض يكون مات من مدة طويلة!! سبحان الله.. هل تعلم أن كبده تليف تماماً.. ولو لقينا جزء صغير به حياة كان ممكن نزرع ليهو كبد!!”.
قبيل المغرب طلبت مصحفاً ومصلاة افترشتها بالقرب من سريري.. لوح لي بيده المثبت بها درب يحوي محاليل وريدية.. وهمس في أذني وافتر فمه عن ابتسامة شاحبة “اقرأ يس وأدعو لي الله يخليك”.. وجاء صديقي “بكري” لأذهب معه مكان سكنه.. لم ننم ليلتها وعند الفجر، طرق الصديق “سعدابي” المقيم بالقاهرة ومن مواطني “مدني”.. فتحنا باب الشقة.. رفع كفيه بالفاتحة “زيدان” يرحمه الله، وفي الطريق حدثنا أنه وعند الساعات المتأخرة أدخلوه قسم العناية المكثفة وأسلم الروح فجراً.. وفتحت السفارة مكاتبها للعزاء وجاء بطائرة الفجر د.”حمد الريح” ود.”عبد القادر سالم” والعازف “محمد جبريل” و”إبراهيم شلضم” وهاتفنا الفنان “عبد الكريم الكابلي” الذي كان ساعتها بسرير المرض بالقاهرة باكياً.. أعزيك يا صديقي وأعزي نفسي والشعب السوداني.. “زيدان” فقد أمة وصلينا عليه صلاة الجنازة بالسفارة وعدنا بالنعش مساءً وصلينا عليه بميدان الربيع وكانت العاصمة المثلثة في حالة حزن وتوقفت عجلة الحياة وصلى عليه إماماً مولانا “السموأل خلف” وتقدمنا الصديق “عابدين درمة” وقبرناه بالقرب من والدته المرحومة خالتنا “أم الحسين” وأهل العباسية من فرط حبهم له أنشأوا جمعية باسمه وسموا مسرح مركز شباب الربيع باسمه.. يرحمه الله.. قف تأمل مغرب العمرِ وإخفاق الشعاع!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية