بعد ومسافة
في ذكرى الرحيل
مصطفى أبو العزائم
الثالث عشر من مايو عام 2008م، كنا على موعد مع الحزن بوفاة السيد الوالد الأستاذ “محمود أبو العزائم” رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وعفا عنه وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.. وكانت بلادنا تعيش صدمة محاولة الغزو الفاشلة لأم درمان من قبل قوات حركة العدل والمساواة تحت إمرة قائدها الراحل “خليل إبراهيم”، وكانت الأجواء متوترة، وقد حدثت الوفاة قبيل آذان المغرب بقليل داخل مستشفى ساهرون بالخرطوم، حتى أنني بعد أن قبلت جبينه الطاهر توجهت نحو جماعة في خارج أسوار المستشفى لأداء فريضة المغرب، جماعة، وكنت أعجب من تماسكي في تلك اللحظات العصيبة، وظلت أجتر تفاصيل آخر حديث لي معه قبيل انتقاله بلحظات.. إذ ناداني وطلب إليَّ أن اقترب منه – رحمه الله – وقال إنه يريد العودة إلى المنزل، فقلت له: إن تكرار هذه الأزمة القلبية يتطلب مقابلة الطبيب ثم نتحرك بعد أن نطمئن على صحتك.
وكانت النوبة القلبية الثانية قد داهمته بعد أن نقل إليه أحد زملائنا وأحد أبنائه المقربين إليه، نبأ وفاة صديقه المقرَّب الأستاذ “محجوب عمر باشري” فحزن حزناً شديداً، وساءت حالته الصحية مما استدعى نقله إلى المستشفى التي غادرها منذ أيام للاطمئنان على صحته، فكان ذلك المشهد الذي طلب إليَّ فيه أن أعيده إلى البيت.. وعندما رددت عليه بما أسلفت ناداني وطلب إليَّ أن أقرب أذني إلى فمه، ففعلت.. فكان أن همس إليَّ بسؤال وقال لي: (أنت عارف عمري كم) ؟.. ابتسمت وقلت (نعم).. ابتسم هو أيضاً وقال لي بشجاعة متناهية.. (طيب) أحسن توديني البيت.. لأني خلاص.. وأنا ما عايز أموت هنا.. أنا عايز أموت في البيت).. وكانت تلك أول مرة أعصي له أمراً.. تماطلت في تنفيذ طلبه وتشاغلت بأمور أخرى، حتى أنني قلت له إنني بصدد الكتابة غداً عن الراحل الأستاذ “محجوب عمر باشري”.. ابتسم، ثم أغمض عينيه وأمسك اثنان من أشقائي بيده، لقناه الشهادة.. وغادر دنيانا، ونحسب أنه قد أدى رسالته كاملة غير منقوصة، ظل وطنياً مخلصاً حتى آخر لحظة في حياته، مثلما ظل أباً حانياً عطوفاً ليس لنا نحن أبناءه وبناته، بل لكل الذين عرفوه أو تتلمذوا على يديه.
المساء أسود.. واكتست ملامح الحياة بالتجهم والعبوس، وتدثر الكون بثياب الأسى، وكان كل همي هو كيف أنقل الخبر للسيدة الوالدة الأستاذة “خديجة محمود عبد الرحمن عثمان”، لكنني فعلت بضعف لم أعهده في نفسي وانتشر الخبر لنجد أننا نستقبل الآلاف في منزل الأسرة بالثورة، رغم الظروف الأمنية القاسية ورغم حظر التجوال غير المعلن، وكنت مثل الذي يعيش داخل مشهد لا يشعر بأنه جزء منه، فالعقل يؤمن ويصدق والنفس تأبى التصديق.
قد لا أكون مبالغاً أن قلت إن صورة تشييعه كانت من الصور النادرة.. آلاف مؤلفة من الناس، من مختلف الأعراق والأجناس والأطياف، تقدمهم ابنه “عمر حسن أحمد البشير” الذي كان دائماً ما يخاطبه بـ(يا ابني يا عمر) وابنه المقرَّب “إبراهيم غندور” و”نافع” وكل الطاقم الحاكم الذي خرج من اجتماع لمجلس الأمن القومي ليلحق بالتشييع، كما أخبرني أخي “محجوب فضل بدري” عبر الهاتف، وهو يطلب إليَّ انتظار الرئيس “البشير” قبل أن نشرع في مراسم الدفن.
ولا أبالغ،أيضاً، عندما أقول إنها كانت أطول ليلة مرت على في حياتي، وكنت أعجب من تماسكي وأنا استقبل المعزيين حتى الساعات الأولى من فجر (الأربعاء) الرابع عشر من مايو الحزين، وعندما انقطع سيل المعزيين، توجهت نحو منزلي الذي لا يبعد كثيراً عن منزل الأسرة، وكان المنزل خالياً إلا من الوحشة والحزن، جلست على كرسي صغير في وسط فناء الدار، أحدق في اللا شيء، وأتفكر في أمر هذه الدنيا التي لا تؤتمن، واسترجع بعض كلمات السيد الوالد الكريم، رحمه الله، عندما جئته فرحاً مستبشراً لحظة إعلان نتيجة امتحانات الدخول الثانوية، بمجموع يعتبر كبيراً بمقاييس ذلك الزمان، وقلت له إنني أريد أن أقيم حفلاً أدعو له الأصدقاء والمقربين، فسألني لماذا؟ فقلت لأنني نجحت.. لم يتحرك من مكانه ولقنني درساً لن أنساه عندما سألني إن كان لديَّ عمل آخر غير الدراسة، فأجبت بالنفي فقال لي: إن النجاح هو واجبك، طالما أنه ليس هناك ما يشغلك عن الدرس والتحصيل.