(أولاد الشيخ)….حكاية رجال مجهولين يقفون خلف الشيخ الترابي
من مداخل الأبواب وتنظيم الأوراق إلى حراسة المشروع والدولة
الخرطوم – طلال إسماعيل
تجدهم خلف الشيخ “حسن الترابي” ومن أمامه، وعن يمينه وشماله، يتأهبون ويستعدون وفقاً للتدريبات القتالية والأمنية في دورة حماية الشخصيات المهمة، التي تلقوها بحيث يتدخلون في الوقت المناسب، مع رجل عرف عنه بحبه للناس، ويكره القيود والحواجز ، وبيته في المنشية مفتوح للضيوف.
منهم من كان في وظيفة مدير مكتب “الترابي”، أو سكرتيره الخاص، أو سائقه، أو في طاقم الحماية، أو مسؤولاً عن الضيافة، أو في المراسم والإعلام والعلاقات العامة، منهم من مضى إلى وظائف أخرى في الدولة، ومنهم من ذهب بعيداً عن الأضواء يبتغي الرضوان من الله، وفي طريقي للبحث عن الذين كانوا يعملون في مكتب الشيخ “الترابي” لفتت مسامعي أسماء بارزة ،من بينها: “غازي صلاح الدين” و”محمد عطا” و”جبريل النيل” و”فاروق أبو النجا” و”أمير الأمين” و”عيسى أبو آمنة” و”عمر آدم” و”عبد المنعم سعيد” و”بشير محمد بشير” و”الصادق فرحات” و”منتصر ساتي” و”أبو بكر عبد المطلب” و”حمدي سليمان محمد حسين” و”إبراهيم حسين” و”حاتم حسين” وأشرف أبو راس” و”مجدي عبد العزيز” و”محمد فتح الباب” و”عبد الرحمن المليح” و”أشرف بشرى” و”موسى علي سليمان” و”سليمان حامد” و”خالد التيجاني” و”عوض بابكر” و”تاج الدين بانقا”.وآخرين كثر لا توجد سوى صورهم خلف الشيخ “حسن الترابي”، تظهر في بعض الأحيان ملامح وجوههم من دون أن تذكر الأسماء، البعض منهم كان له دور كبير في تغيير تاريخ السودان السياسي، اختفوا عن الأنظار وتواروا خلف الحجب، ورفضوا أن يخرجوا الأسرار من صدورهم، إنهم رجال وجنود مجهولون يحملون داخل التنظيم أحب المسميات إليهم (أولاد الشيخ)، تعرَّضوا معه لكثير من المواقف الصعبة وهم يصلون الليل بالنهار، وصاروا جزء من حياته، وأضحى هو حياتهم وفكرتهم ومشروعهم، منهم من كان يقود له السيارة، ومنهم من كان يحميه بنفسه وروحه، ومنهم من كان ينظم ويرتب له جدول مواعيده وبرنامجه اليومي، في ظل حركة دءوبة سراً وجهراً، تصل العالم كله وتتفاعل مع قضاياه ،ولا تنسى هموم مجتمعها في السودان، ما قبل وما بعد ثورة الإنقاذ.
يقول عنهم الشيخ “الترابي” في عبرة المسير :” من بين قيادة الحركة سيظل فيها جانب ظاهر عرضة للأذى في وقت الفتنة، لكنه يحشد الأكبر والأشهر من رموز الحركة وجوهاً ينعطف إليها الرأي العام، لأنهم يمثلون الحركة الإسلامية المحفوظة. ولئن حاصر وقع الترهيب الناس وكفهم عن حرية التعبير عن تأييدهم المتداعي، فإن أفواج الجماهير متى ارتفع العسر يهرعون إلى الحركة يصدعون بإعلان الولاء بعد أن كان بعضهم يُسره ويحتشدون واصلين جهدهم بجهد الحركة، بعد أن كان حكم الطوارئ القاهر يقطعهم عنها. ولذلك لا بد أن يثبت أعلام الحركة الظاهرين صابرين إذا سجنوا استثمروا الخلوة بعبادة تزكي وعلم يهدي وتأمل يبصِّر، أو إذا كبتوا يتخذون كل مناسبات المجتمع العرفية أسباباً للاتصال به، أو إذا صوَّب عليهم الأذى والبهتان يحملون عن إخوانهم التكاليف يرجون العوض حباً في الدنيا من الناس وثواباً في الآخرة من الله.
قصة الشيخ “الترابي” مع المشروبات الساخنة وضيافته للأجانب
في المركز العام للمؤتمر الشعبي لا يزال العم “عباس الحاج عدلان” – 1938م – يعمل بكل اجتهاد ونشاط، لا يفارق الرجل مكتب الأمين العام في خدمة الضيوف، بعد أن ظل يقدم سنين خبرته التي امتدت لأكثر من 27 عاماً، في تقديم الضيافة للشيخ “الترابي” وزواره، يفتخر بأنه ضمن الطاقم الخاص للشيخ ، ويقول لـ(المجهر):” عندما أتكلم عن الشيخ الراحل “حسن عبد الله الترابي”، فإنني أتكلم عن خدمتي معه 27 عاماً، منذ الانقلاب – ثورة الإنقاذ – جئت إلى الشيخ وتربيت معه في البيت ولم أر منه إلا التقدير والاحترام، ولم يعاكسني في أي شيء، وكنت أخدم الشيخ ولا أحد يدخل غيري، ويسألني أيام اجتماعات المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي عن أحوالي، رجل حبوب، معنا كل ستة أو سبعة أشهر، يطلب مني ورقة عن أحوال العاملين ،المتزوِّج وغير المتزوِّج المطلق ومن له أولاد متوفون أو هو متوف، لزيادة المرتبات، ومعاملته معنا وهو رجل ما ساهل .شيخ “حسن” دا وقف معنا وقفة جد، وأنا حتى الآن أقسم بالله أحلم به وأنا أسكن أركويت .وكل ما أحضر بالقرب من المقابر لازم اقرأ عليه الفاتحة، ولا أنسى أبداً معاملته معي معاملة جميلة”.
ويرد العم “عباس” على سؤال (المجهر) : أنت كنت وين قبل أن تعمل مع شيخ “حسن”؟ فيقول :” أنا كنت في صالة المطار وشغلي كله مع الحكومة منذ أيام الرؤساء “جعفر نميري” والزعيم “إسماعيل الأزهري” وأحضرني أحدهم له من المطار، وأنا معروف شخص دوغري وفي عملي، وأنا كم شخص طلب مني الحضور للقصر الجمهوري من ناسنا المعروفين، وأنا رفضت وبقيت مع شيخ “حسن” وكل ما أتذكره العبرة تخنقني، عندما أذهب البيت، وهو ربانا تربية، ولم أجد شخصاً مثله، وأنا اشتغلت مع الحكومة، هو يحترم العامل احتراماً شديداً”.
ولا ينسى “عباس” مواقف إنسانية كثيرة حصلت له، ويكشف، ولأول مرة عن الطعام الذي كان يتناوله الشيخ “حسن الترابي” منذ أيام المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، ويضيف بالقول :” كل سبت أحضر لهم فطوراً، وكان يحضر إليه “الزبير محمد صالح” ويفطرا فول فقط، ولا يأكلان لحوم أصلاً، وكنت مرات أجيب من السوق سمك أو فول. أتذكر مرة فطر معنا “علي عثمان” . و”علي عثمان” قال لي: أنت الشاي دا جبتو من وين؟ والله قال لي: أنا لي شهرين ما شربت مثل هذا الشاي، وطلب مني كوب تاني، ولا أنسى هذا الموقف، وعملي معهم كان بنظام”.
الطلبات الأخيرة للشيخ “الترابي”
ويروي العم “عباس” آخر مقابلة له مع الشيخ “حسن الترابي” في اليوم الخامس من مارس من العام الماضي بالمركز العام للمؤتمر الشعبي، ويقول: ” منذ حضوره في الصباح أحضر له فول وبلح، وبعد ذلك عصير برتقال، ويوم وفاته وقف تحت السلم، وقال لي: يا “عباس” ما تجيب لي حاجة جايني نفرين حتى يحضرا، أنا طلعت وجهزت عصائر البرتقال والقريب فروت، وجاء إليَّ الحرس وطلبوا مني الفطور، ولكن حتى يحضر ضيوف الشيخ، وبعد ذلك طلعوا أعلى وعادو ا ليخبروني بأنهم سينقلون الشيخ إلى المستشفى “.
ويقول العم “عباس”: إن الشيخ “الترابي” كان يتناول العصائر الطبيعية، بالإضافة إلى البلح والفول، ولا يشرب القهوة، ويشرب الشاي في حوالي الساعة 12 ونصف ظهراً، إلا إذا كان هناك ضيوف قد يتأخر قليلاً حوالي الواحدة، وأدخل له الشاي باللبن والنعناع. ويرد على سؤال (المجهر) هل كان يناقشك في تفاصيل المشروبات الساخنة؟ ، ويرد :” نعم يناقشني ويقول لي: ما تكتر لي اللبن كتير، وهو كييف في الشاي، وحتى شاي البيت، ولكنه يأتي هنا ليشرب الشاي عندي، والقهوة طلبها مني مرة واحدة في حياته، وهذا الكلام قبل ثلاث أو أربع سنوات، وكان يشرب الموية بصورة عادية “.
ويزيد عم “عباس” بالقول :” نعم كنت أعرف نظامه بدقة، والله أنا أحلف قسم 27 سنة، لم أسأله من تعريفة، وعندما شالوني من القصر بالمعاش، وكلمت شيخ “حسن” وقلت له: شالوني بالمعاش، وقالوا الزول دا شغال مع شيخ “حسن” ،وقلت له: أنا شغال مع شيخ “حسن” لأنني أريد أعيش أولادي ولست سياسياً، كنت أعمل في المرطبات منذ 1964م، مع “عبود” وأحضروني المطار في الضيافة، وبعدها اشتغلت مع “نميري”، وأنا اشتغلت مع “طلعت فريد” وذهبت مع “إسماعيل الأزهري” إلى أركويت.
وحول ضيافة “الترابي” للأجانب يرد عم “عباس”:” أول حاجة برتقال أو قريب، والأجانب يحبون الكركدي ويطلب مني الشيخ أن أعطيهم “أنقارا”، أي ضيف يأتي للشيخ في البيت يحضروني بالعربة لخدمته، لذلك الشيخ لا يحمل فيني أي شيء، وحتى إذا حملت شيء تقيل الشيخ يمنعني ويطلب من الجماعة يساعدوني”.
ولم يكمل “أشرف أبو راس” ، المرافق الشخصي للشيخ “حسن الترابي” قصة أسرار كثيرة بدواخل طاقم الحماية، ولم يكشف عن الكثير من المعلومات ، التي ظلت طي الكتمان حول مكتب “الترابي” ،ومن عملوا به، يقول “أشرف” – عمل مع الشيخ “الترابي” منذ 1997- كان شيخ “حسن” يتعامل تعامل الأب لابنه والمعلم لتلميذه، لا يلقي للتهديدات بالاً، ولا يتوتر حول المعلومات التي ترد بأنه يمكن أن يقع له أمر ما، كان الموضوع عادي. والشيخ “الترابي” وصل مرحلة من العلم والتقوى يتساوى عنده المدح والذم والتهديد والوعيد، يقابل كل الناس صغيرهم وكبيرهم وتعامله معهم في كل الأوقات بنفس الأريحية التي يستقبلك بها الشيخ “الترابي” عندما تأتي في صلاة الصبح .
بخلاف مكتب الشيخ “حسن الترابي” يبقى هنالك آخرون ذكرهم الشيخ وهو يمتدح جهودهم بعيداً عن الأضواء، يقول عنهم في كتابه عبرة المسير :”
وفي القيادة ومن وراء سترها الظاهر يبقى آخرون في الباطن قد لا يعرفهم الرأي العام كثيراً، ولكن يعرفهم ربهم ويبارك عهدهم وعملهم يفرغون للتدبير المحفوظة أسبابه ،غير المتحفظة حيثياته ،لاقتحام معركة الجهاد الثوري ،لا ضد عدو كافر مسلح، ولكن من أجل المقاصد التي ما ذكر الله الجهاد إلا بيَّنها لتعظم النيات الجهادية، وتتجاوز ضرب الهدف العدو، إلى وضع المبادئ التي تحمي بالجهاد والنظم التي تبنى بطاقته إيماناً صادقاً متوكلاً وخلقاً طاهراً طيباً وتوالياً بالإخاء والشعائر الجماعية وتضامناً بالأرزاق المنفقة في سبيل الله للجميع ،المطهرة من المراباة والمظالمة ورصّاً لصف الحياة العامة بالشورى الجامعة السلطان، شركة حرة للكافة من المؤمنين. ذلك هدى القرآن في سبيله تقوم ثورة قومية جامعة القوى شاملة المقاصد فاعلة الوسائل منتقلة جائزة إلى مرحلة البناء والرشد – تلك الثورة المهدية بالإسلام المتعظة المعتبرة بالتجارب السابقة في سيرة المسلمين وأهل الدين عموماً، وفي سيرتنا خاصة المنزلة المفصلة وقعاً على كل ساحات الحكم والسياسة والاقتصاد والمعيشة والعلوم والفنون والثقافة . حركة نحو مصير فلاح للمجتمع والأفراد في عاجل الدنيا وفي العاقبة. يومئذ إن تمت النعمة وتكامل الدين وصلحت الحياة في السودان ممتدة وراءه، سنحمد الله، والحمد لله أولاً و آخر”.