ليلة اعتقالي!!
التجانى حاج موسى
المكان المسرح القومي.. الزمان 25/مايو 1974م، والوقت الساعة التاسعة مساءً.. المناسبة الاحتفال بالعيد الخامس لثورة مايو.. امتلأ المسرح بالجمهور ومنهم من وقف على جنبات المسرح والسيد رئيس الجمهورية المشير “النميري” أخذ مقعده في المكان المعد بالمسرح للرئيس والوزراء.. المذيعة الداخلية الأستاذة “آمنة سيد أحمد” والإذاعة القومية ترفد كبار المذيعين لنقل الاحتفال على الهواء مباشرة.. والتلفزيون كذلك يبث مثل هذا الحفل مباشرة للمشاهدين (الفقرة الغنائية القادمة يقدمها لكم الفنان الشاب “عز الدين مزمل” صفق الجمهور وفتحت الستارة الجديدة المهداة من دولة الصين الشقيقة وأوركسترا الإذاعة والتلفزيون يقودها الموسيقار “برعي محمد دفع الله” وصدح الفنان الشاب (عيد مايو أشرق من جديد) الأغنية كانت شهيرة ضمن أغنيات كثيرة لفنانين وملحنين غنوا لثورة مايو.. ولـ”عز الدين مزمل” عدد مقدر من مثل تلك الأغنيات والذاكرة تحفظ لحناً جميلاً للراحل “وردي” في حكايتنا مايو).. اشترك صديقي المطرب “محمد ميرغني” في أداء تلك الأنشودة الرائعة، وغنى الراحل عدداً من الأغنيات لمايو من بينها (حبيبك منو؟! نميري!! وحبيب الشعب يا نميري يا أمل الشعب يا نميري).. والقائمة تطول للشعراء والملحنين والمؤدين الذين غنوا للنظام المايوي.. والمحزن حقاً أن مثل هذا الغناء يذهب بذهاب النظام الذي من أجله صنعت تلك الأغنيات برغم جودة اللحن والأداء والأشعار، لذلك جاء الحذر من أن يرهن المبدع إبداعه وفكره لنظام سياسي محدد أو أيديولوجية فكرية محددة ومتى قدم إبداعه فليجعله للمطلق من مرامي وقيم مجردة خيرة تنشد الخير والجمال المطلق.
أعود للمسرح ولصديقي الفنان “عز الدين مزمل” الذي ابتعد عن ساحة الغناء والطرب برغم أنه يمتلك موهبة أداء ممتازة، كان وقتها يعمل بسلاح الموسيقى.. الأغنية الثانية في وصلته الغنائية كانت من كلماتي وألحان صديقي الموسيقار الرائد الراحل “الفاتح كسلاوي” مطلعها كان (خمسة سنين عذاب خمس سنين ألم) يا خبر أسود!! ليته ما تغنى بها لأن الجو تكهرب!!
في العيد الخامس لثورة مايو وأمام السيد الرئيس المرحوم “النميري”!!.. طبعاً في الليلة ديك تم الإيقاف للملحنين والمؤدي وفي مساء اليوم التالي تم القبض على الصديق شاعر الأغنية وقتها – كانت نفس الأغنية قد انتشرت وحرفها معارضو مايو وصاروا يتغنون بها في مجالسهم (خمسة سنين عذاب خمسة سنين سجم وعشنا مع النميري لا جاز لا فحم).. يومها كانت هنالك أزمة وقود وبترول.
واقتادوني مساءً للتحقيق.. ولحسن حظي حقق معي زميل دراسة حقوقي كان ضابطاً بالأمن والرجل يعلم علم اليقين أنني لا شأن لي بالسياسة.. لكن الأمر أسقط في يده ولحسن الحظ.. حظي طبعاً أني كنت أحتفظ بأرشيف بكل ما أنشره في الصحف.. فقد نشرت الأغنية موضوع التحقيق قبل قيام الحكم المايوي في العام 1968م، وأنا طالب بالمرحلة الثانوية.. قدمت ذلك المستند لزميل الدراسة ضابط الأمن فتكرم بإخلاء سبيلي وتوصيلي بعربته إلى منزلنا بالعباسية.. ونفس المستند شفع لصديقي الموسيقار الرائد “كسلاوي” وصديقي الفنان “عز الدين مزمل”.. وهنا جاء دور صديقي الراحل “زيدان” الذي كان متابعاً لهذه القضية وقد كان معجباً بالأغنية وكنا شلة نسمر معه في منزله بالعباسية.. الموسيقار الصديق العميد “عمر الشاعر”.. والراحل الموسيقار الرائد “الفاتح” الذي أهدى “زيدان” – يرحمه الله – رائعة أستاذي الشاعر اللواء “عوض أحمد خليفة” أغنية (دنيا المحبة.. في بعدك يا غالي أضناني الألم).. واللواء أيضاً كان معجباً باللحن والنص الشعري للأغنية موضوع هذا المقال.. فاقترح “زيدان” أن أعدل مطلع الأغنية ويبقى لحنها كما ألفه ملحنها ولاحقاً عدلت المطلع ليصبح.. (ليه كل العذاب ليه كل الألم … بزرع في المحبة وحصادي الندم).. ثم سجلها العندليب يرحمه الله.