بعد ومسافة
اغتراب مفتوح وهجرة ممتدة!
مصطفى أبوالعزائم
ليس أمرّ من الهجر إلا الوحدة، ولا أمرّ من الوحدة إلا الغربة، وهي إحساس يفتح نوافذ الذكرى في عقول الذين اختاروا المهاجر أوطاناً، وبعضهم كان مضطراً، لكنه بقي وما عاد بإمكانه العودة إلى أرض الوطن، كما كان يردد نشواناً مع الفنان الكبير “الطيّب عبد الله”، صاحب أطول تجربة اغتراب، وذلك في أغنية السنين التي يقول في بعض أبياتها بلحن شجي: “الغريب عن وطنو مهما طال غيابو.. مصيرو يرجع تاني لي أهلو وصحابه.. إلا قلبي يا حبيبي في هواك طال اغترابو”.
وحقيقة الهجر والوحدة والاغتراب لا يعرفها إلا من عاشها، وعبّر عن ذلك بصدق أعظم شعراء الإنسانية وفي مقدمتهم “أبو الطيّب المتنبئ” الذي قال الكثير، لكنه أوجز وأعجز غيره عندما قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
لا يسهر الليل إلا من به ألمٌ
لا تحرق النار إلا رجل واطيها
ولسابق تجربة اغتراب امتدت لأربع سنوات أجد أنني أتعاطف دائماً مع المغتربين والمهاجرين، مهما كانت أسباب هجرتهم ودوافعها، وأجد نفسي أشفق على بعض أبنائهم وبناتهم، خاصة أولئك الذين ولدوا ونشأوا وترعرعوا في المهاجر والمنافي وأرض الاغتراب، فلا هم أصبحوا سودانيي النشأة والهوى، ولا بإمكانهم أن يكونوا غير ذلك.
ولذات السبب اهتممت كثيراً بالقرار الجمهوري رقم (126) لسنة 2017 بتشكيل لجنة الحوار المجتمعي قطاع السودانيين بالخارج، برئاسة صديقنا الباحث والعالم البروفيسور “عز الدين عمر أحمد موسى”، والدكتور “حسين محمد حمدي” رئيساً مناوباً وعضوية آخرين ممن نتشرف بمعرفتهم وتتشرف بهم اللجان، وهم من كل أرجاء المعمورة، وحدد القرار الجمهوري اختصاصات ومهام اللجنة التي يتمثل بعضها في بلورة الآراء المختلفة للمغتربين في القضايا الوطنية المهمة والملحة، ووضع إستراتيجية شاملة ذات خطط قريبة وبعيدة المدى، لتجعل جهود المغتربين والمهاجرين واللاجئين جزءاً رئيساً في التنمية السودانية الشاملة المتوازنة والمستدامة ذلك – قطعاً – غير الحفاظ على الهوية السودانية بالخارج، وتقوية ارتباط الجاليات بالوطن، وتعزيز العلاقات الخارجية بالتواصل المستمر والمباشر مع مراكز صنع القرار، إضافة إلى نقل التجارب الناجحة في أنظمة الحكم والإدارة من الدول التي يقيمون فيها إلى الداخل مع مهام رفيعة وسامية نسأل الله أن يعين المكلفين في اللجنة بإنجازها على أكمل وجه، وخاصة تقديم تصور كامل لمفوضية شؤون السودانيين بالخارج، وهناك فرق كبير بين أن يكون لهذا القطاع المهم (جهاز)، وبين أن تكون له مفوضية.
القرار الجمهوري تضمن الأمين العام لجهاز تنظيم شؤون السودانيين بالخارج ليكون ضمن أعضاء اللجنة، وظللت أتابع ما يجري في مؤتمر رؤساء الجاليات السودانية بالخارج الذي بدأ في العشرين من الشهر الجاري، وانتهى في الثاني والعشرين منه برعاية الأستاذ “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب رئيس الجمهورية، الذي خاطب المؤتمر مثلما خاطبه الدكتور “إبراهيم البحاري” رئيس لجنة تسيير المجلس الأعلى للجاليات السودانية بالخارج، ثم تابعت بعد ذلك فعاليات مؤتمر الخبراء والعلماء السودانيين بالخارج الذي بدأ أعماله قبل يومين، وسعدت بلقاء مطول مع رئيس لجنة الحوار المجتمعي قطاع السودانيين العاملين بالخارج، البروفيسور “عز الدين عمر أحمد موسى” – أحد أركان هذا العمل الكبير – نهار (الجمعة) الأول من أمس، في منزله بجزيرة توتي ضم عدداً من الزملاء الذين تربطهم علاقة صداقة بالبروف “عز الدين”، وهم الأساتذة “الهندي عز الدين” و”ضياء الدين بلال” و”محمد عبد القادر” و”النور أحمد النور”، وكاتب هذه المادة.
موضوع السودانيين بالخارج متشعِّب وطويل ومتداخل ويحتاج إلى ضبط معلوماتي من حيث العدد والتصنيف المهني، لأننا إلى الآن لا نستطيع الجزم بالعدد الحقيقي للسودانيين بالخارج سواء كانوا عاملين أو لاجئين أو مهاجرين، مثلما لا نستطيع أن نجزم بمن هم في كفالتهم، فهل ما قال به الدكتور “كرار التهامي” الأمين العام لجهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج هو العدد الحقيقي، أم أن هناك أعداداً أخرى لم تتضمنها الكشوفات، وقد ذكر الدكتور “كرار” أن العدد هو أربعة ملايين سوداني بالخارج.. وربما كان العدد أكبر من هذا بكثير أو قليل، وهناك آليات يمكن اللجوء إليها لمعرفة العدد الحقيقي.
السودانيون بالخارج هم من أهم مصادر الدخل القومي، وهناك تجارب أخرى تؤكد على أهمية المغتربين مثلما كان لهم الدور الأكبر في تنمية اقتصاد لبنان ولا زالوا، وكذلك في اليمن قبل أن تنتاشه سهام الخلافات وتقعد به الحروب، ومثل ذلك في مصر التي أنشأت من أجلهم وزارة كاملة متخصصة.
تناقشنا كثيراً كل كان ينظر للقضية من زاوية ربما تختلف عن زوايا نظر الآخرين، لكننا جميعاً اتفقنا على أهمية أدوار السودانيين بالخارج سواء كانوا مغتربين أو مهاجرين أو لاجئين، وهذه فرصة عظيمة أتيحت لنا للاستفادة من خبرات أبنائنا بالخارج، ومن عائدات اغترابهم التي يمكن أن تسهم في إخراجنا من نفق الضيق الاقتصادي الذي نعيشه الآن.