عمى الألوان
عملت بعد تخرجي لفترة وجيزة بإحدى الدول الخليجية بغرض التزود بالعلم والمال لإكمال رحلة التخصص بأوربا.. كنا جلوساً في إحدى الليالي الرمضانية وكان بجواري حارس المستشفى.. تحدثنا عن الإمساك.. فكانت إجابة الحارس: (يا شيخ تمسك عندما تتبين العبد من الحر)..! وأشار إليَّ عند ذكر العبد وأشار إلى نفسه عند ذكر الحر..! فأيقنت حينها من فوائد السفر (سافر ففي الأسفار خمس فوائد).. وتعلمت حينها رحابة الصدر وسعة الأفق.. فالرجل جاهل متمترس في ثقافة أجداده..!
حزمت بعدها حقائبي إلى جمهورية أيرلندا، ومنها إلى إنجلترا، وكان عمر بنتي “سارة” عامين.. أخذتها إلى الروضة فسألتني المدرسة الإنجليزية عن اسمها.. فقلت “سارة”.. فقالت لي: هذا اسمها الإنجليزي نريد اسمها السوداني..! وأعطيتها محاضرة عن مصدر اسم “سارة” أم سيدنا إبراهيم.. واعتذرت لها عن تسجيل ابنتي في روضتها.. وقلت لها سوف أبحث عن روضة ذات أفق واسع..!
ومرت الأيام وبلغ ابني “معز” المولود بمدينة نـ (يو كاسل) ثلاثة أعوام.. وخرج لنا يوماً من الحمام كما ولدته أمه وجسمه مغطى برغوة الصابون وهو يصيح: الآن أنا أبيض(now I am white) وقطعاً أحس بفارق لونه من خلال اقرأنه في الروضة.. وكنت قد قرأت قبلها بيومين في إحدى الصحف الانجليزية أن سيدة نيجيرية وجدت طفلها الأسود بالمطبخ ممسكاً بسكين وبدأ في تقشير جلده ليصل إلى الطبقة البيضاء..! حينها أكبرت رجاحة عقل ابني “معز” الذي اكتفى بالصابون ولم يحمل سكيناً.
استرجعت شريط الذكريات تلك وأنا أقرأ عن خبر الطفل “موسى”.. فقد ولد مجهول الأبوين ورعته قابلة في أيامه العشر الأولى وتبنته أسرة جنوبية تقطن بمدينة كسلا.. وفرت له هذه الأسرة أجواء أسرية منها الحنان والعطف.. وأدخلته إلى الروضة.. وحينما شب على الطوق حتى بلغ سن السابعة، قررت الأسرة الرحيل إلى جنوب السودان بعد انفصاله.. وقد فوجئت الأسرة بالسلطات في المطار تمنع “موسى” من السفر بسبب أن ملامحه شمالية وليست جنوبية.. واعترفت السلطات بأنها الحالة الأولى التي تمر عليها.. وتم إيداع “موسى” إحدى دور رعاية الأطفال مجهولي الأبوين .
“موسى” – كأي طفل في عمره – بريء، تفتحت عيناه على هذه الأسرة ولم يرَ منها غير الحب والحنان والرعاية.. فهذه الأسرة بالنسبة له هي الوالد والوالدة والإخوة.. وببراءة الأطفال قطعاً لن ولم يسأل عن أبويه الحقيقيين لأنه ليس هنالك ما يدعو لذلك (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وعندما دار الهرج والمرج لمنعه من السفر كان منشغلاً بأشياء أخرى.. وعند لحظة الفراق بكى وبالتأكيد ابكي من حوله.. ونشرت الصحف صورة لـ “موسى”.. وما لفت انتباهي في الصورة كمال هندامه ولبسه الأنيق وشعره المصفف بعناية وبشرته الصحية وأنا أتفحصها بعين الطبيب.. تدل على عناية تامة بتغذيته وراحته وسلامة صحته العقلية.. وخلصت من تقييم الصورة أن هذه الأسرة قد قامت بكامل واجب الرعاية والعناية بهذا الطفل.. وكان تقرير السلطات أن أوراق كفالته لم تكن سليمة ويودون أن ترعاه أسرة شمالية بأوراق سليمة.
تألمت غاية الألم للمصير الذي آل إليه هذا الطفل البريء، وكان خياره الفطري والطبيعي والمنطقي أن يكون بين الأسرة التي عرفها منذ ميلاده، ولو أتينا بلجنة من سبعة أطفال في عمر “موسى” لكان قرارهم بالإجماع أن يبقى “موسى” بين أسرته.. وهذا هو الوضع الطبيعي.. ويبقى تساؤل: ما هي القيمة أو المردود في أن يتخلف “موسى” عن أسرته الطبيعية، وكان من الممكن أن يكون بذرة لتوحيد السودان شماله وجنوبه مرة اخرى.. وأتمنى أن يصاب العالم بعمى الألوان عندما ننظر لبعضنا البعض حتى نتبين الخيط الأبيض من الأسود.. وليس العبد من الحر.
بعد كتابتي هذا المقال بيومين سررت غاية السرور عندما علمت أن أحد القضاة حكم لصالح الطفل “موسى” وألحقه بأسرته الجنوبية.. فللقاضي التحية والتجلة والاحترام.. ولـ “موسى” كل ودي بحسن الختام .