ما بين أول موازنة في 1956 وموازنة 2017.. تفاصيل لم تُنشر
“حماد توفيق” دعا إلى شد الأحزمة على البطون فجاءت موازنته بالفائض
الخرطوم- رقية أبو شوك
تهل علينا هذه الأيام الذكرى (61) لاستقلال السودان المجيد.. ووددنا عبر هذه المساحة أن نتعرض إلى كيف كان يدار اقتصادنا عقب أول موازنة بعد الاستقلال وكم كان حجمها مقارنة بموازنة العام (2017م)، وعلى ماذا كان يعتمد اقتصادنا وما هو أصل المشكلة الاقتصادية والمتغيرات التي حدثت، وذلك عبر هذه القراءة المتأنية في الاقتصاد السوداني.
الاقتصاد السوداني عقب الاستقلال مباشرة كان زراعياً من الدرجة الأولى، يضاهي اقتصاديات الدول العظمى في حقبة الاستعمار، فقد كان يعتمد على الزراعة والصادرات الزراعية خاصة القطن الذي كان يطلق عليه، (ذهب السودان الأبيض).
وقد أكد “حماد توفيق حماد”، أول وزير مالية للسودان بعد الاستقلال، وهو يقدم ميزانية (1955ـ 1956م) أن سمات هذه الموازنة تتلخص في الاعتماد الكلي على زراعة القطن كمورد رئيسي للموازنة، وقال في خطابه إن الزراعة هي العمود الفقري لاقتصاد البلاد، وأشار إلى أن جل الإيرادات المتوقعة في أول موازنة بعد الاستقلال، البالغة (38.018.888) جنيه، ستعتمد على صادرات القطن، وأشار كذلك إلى أنها جاءت دون عجز بإنفاق بلغ (34.036.274) مليون جنيه وبفائض بلغ (1.8) مليون جنيه.
فرغم أن اقتصادنا بني على الزراعة، بخاصة القطن، لكن معطيات خارطة الطريق الاقتصادية السودانية تغيرت بعض الشيء، الأمر الذي أدى إلى تراجع الزراعة بعد دخول البترول الذي احتل المرتبة الأولى، وتراجعت وفقاً لذلك المساحات المزروعة بمختلف المحاصيل الزراعية بما فيها القطن.. واستمرت مسيرة النفط في ازدياد، وانتعش الاقتصاد بالربح السريع للنفط، لكننا فقدنا جله مع الانفصال، وتراجع اقتصادنا إلى الوراء قليلاً. وفقدان معظم النفط مع الانفصال جعلنا نضع المعالجات التي من بينها البرنامج الثلاثي الذي انتهى بنهاية العام 2014م لتدخل موازنة 2015م و2016م وموازنة العام 2017م ضمن البرنامج الخماسي.
أول موازنة بعد الاستقلال، التي قدمها “حماد توفيق”، كانت أول موازنة بالجنيه السوداني، حيث شملت أهدافها الحد من الإنفاق من احتياطي العملات الأجنبية وتوفير فائض كافٍ من الموازنة يمكن حكومة السودان من الإيفاء بالتزاماتها، وتمويل مشاريع الإنشاء والتعمير، وتشجيع وتطوير المشاريع ذات العائد الإنتاجي السريع، ودعا الوزير في خطابه المواطنين إلى شد الأحزمة على البطون وادخار ما يفيض عن الحاجة، والاستفادة منه في إنشاء المشاريع التنموية، حيث كان شعاره آنذاك (عيشوا ببساطة وادخروا لبناء حياة أسعد في المستقبل)، حيث تركزت المشكلة الاقتصادية عقب الاستقلال مباشرة في عدم الاهتمام بالمشاريع غير الإنتاجية، وكأنه واقع الحال الآن الذي يشير إلى عدم الاهتمام بالمشاريع الإنتاجية.
{ قراءة في موازنة العام 2017م
وزير المالية والتخطيط الاقتصادي “بدر الدين محمود”، الذي يأتي ترتيبه الوزير رقم (34) بعد الاستقلال، أكد أن حجم موازنة العام 2017م (77.7) مليار جنيه فيما بلغت المصروفات (83.8) مليار جنيه، وبلغ العجز (18.5) مليار جنيه، مؤكداً أن تحقيق السياسات والأهداف الكلية للموازنة بني على اتخاذ عدد من الإجراءات شملت زيادة ضريبة القيمة المضافة على الاتصالات بنسبة (5%) والعمل على زيادة إيرادات العوائد الجليلة من الذهب والمعادن الأخرى، وزيادة إنتاج خام البترول، وضبط وترشيد الإنفاق الحكومي والاستمرار في إجراءات الإصلاح المالي والهيكلي للهيئات العامة والشركات الحكومية، وترشيد الطلب على النقد الأجنبي بالمراجعة المستمرة لسلع الوارد، وهنا لابد أن نشير إلى تشابه هذا البند مع الموازنة الأولى بعد الاستقلال، الذي أكد أيضاً الحد من الإنفاق من احتياطي العملات الأجنبية وتوفير فائض كافٍ في الميزانية، الأمر الذي يؤكد أن اقتصادنا ما زال يعاني وكأنه يعود إلى أول المربعات.
وعدد “بدر الدين” التحديات التي تواجه الموازنة، وتمثلت في استمرار الحصار الاقتصادي الذي بدأ منذ العام 1997م والحظر المصرفي الذي أضيف مؤخراً وآثاره السالبة في زيادة تكاليف الإنتاج وتقليل فرص التبادل التجاري وحرمان البلاد من فرص التمويل الميسر نتيجة لعدم إعفاء الدين الخارجي وغيرها من التحديات.
{ وقفة إجلال للشعب السوداني
حسب وزير المالية والتخطيط الاقتصادي “بدر الدين محمود” فإن موازنة العام 2017م، تم إعدادها في ظروف عالمية بالغة التعقيد أثرت سلباً على اقتصادنا الوطني، الأمر الذي أدى إلى معالجة هذا الوضع بإجراءات إصلاحية رغم آثارها الصعبة على المجتمع في مراحلها الأولى. وأضاف: (لابد هنا من وقفة إجلال لجماهير شعبنا الأبية التي قدمت درساً بليغاً في الوطنية متحدية كل الصعاب، استشعاراً بالمسؤولية الوطنية الهادفة، وتحقيقاً لأمن وطني لتوحيد الإرادة لبناء وطن ينعم شعبه بحياة كريمة).
وقال إن الأوطان تستعين في نهضتها وبنائها بسواعد بنيها ومواطنيها، وهنا لابد من قيادة شعبية ورسمية لاستنهاض همم الأمة والشعب لقيادة حملة إنتاج وإنتاجية نعزز بها قدراتنا ونحقق بها اكتفاءنا وقوة اقتصادنا، لتحقيق الرفاه لشعبنا وأمتنا متوكلين في ذلك على الله الرزاق ذي القوة المتين، سائليه أن يكون العام 2017م عام خير ورخاء واستقرار على بلادنا، وكأنه يقول هنا ما قاله “حماد توفيق” عندما دعا المواطنين إلى (ضرورة العيش في مستوى يتماشى والدخل مع تأهيل المشاريع الإنتاجية وعدم الصرف في المشروعات غير الإنتاجية).