أناشيد وغناء في حضرة الاستقلال.. مسيرة فنية زاخرة بالنضال
بسبب نشيد “أنا سوداني” أدخل “العطبرواي” سجن الدامر!!
منع قلم المخابرات البريطاني الفنان “الشفيع” من ترديد “وطن الجدود”
الخرطوم – صلاح الباشا
تعيش بلادنا هذه الأيام زخماً إعلامياً كبيراً احتفاءً بذكرى الاستقلال الواحد والستين بعد رحيل الحكم البريطاني، الذي غادر بلادنا طواعية ولم تسل دماء مطلقاً، أي كان استقلالاً انسيابياً كمياه الري بمشروع الجزيرة التي تنطلق عبر الترعة الرئيسية من خزان سنار إلى داخل المشروع لتتفرع منها الترع والقنوات حتى جداول (أب ستة) الصغيرة التي تسقي الحقول وتجري داخل سرابات القطن طويل التلية الفاخر، الذي هو الآخر غادرنا وربما إلى غير رجعة مثلما غادر الاستعمار بلادنا في أول يناير 1956م. والفرق بين المغادرتين هو أن الاستعمار غادر بلادنا بفضل نضال قيادات العمل السياسي حينذاك، أما مغادرة القطن لبلادنا كان بفضل (دقسات) قيادات العمل السياسي حينذاك، فأولئك قد زادوا نهارنا سطوعاً، أما خبراء الخصخصة قد أنهوا أجمل مشاريع العالم المروية فصار ليل الجزيرة سواداً، ثم اختفوا وذابوا حين فشل قانون المشروع للعام 2005م.
فالكل يعلم بأن السودان قد نال استقلاله من الاستعمار الإنجليزي تنفيذاً لقرار البرلمان السوداني الصادر بإجماع نوابه في جلسة 19/12/1955م التاريخية، حين سار النواب من مبنى البرلمان القديم بشارع الجمهورية الواقع مقابل القنصلية المصرية- مقر المجلس التشريعي لولاية الخرطوم حالياً- ساروا في موكب مهيب يتقدمه الزعيم الراحل “إسماعيل الأزهري” وزير الداخلية وقتذاك، وبجانبه الأستاذ “محمد أحمد محجوب” المحامي وزعيم المعارضة في البرلمان، حيث لم تصبح الحكومة السودانية مستقلة بعد، حتى وصلوا قصر الحاكم العام البريطاني الذي يسمى الآن بالقصر الجمهوري، لتقديم مذكرة له ويخطرونه بقرار مجلس النواب بإعلان استقلال السودان من داخل البرلمان، فما كان من الحاكم العام إلا أن يتسلم المذكرة ويرفعها إلى حكومة جلالة الملكة “إليزابيث” في بريطانيا، فقررت بريطانيا الموافقة على منح شعب السودان استقلاله بأغلبية مطلقة بمجلس العموم البريطاني (البرلمان)، وقد تحدد تاريخ الفاتح من يناير 1956م لإعلان الاستقلال وإنزال علمي دولتي الحكم الثنائي الإنجليزي المصري ورفع علم السودان السابق بألوانه الثلاثة على سارية القصر الجمهوري، وقد ظل التلفزيون يبرز ذلك الحدث في كل عام تخليداً لتلك الذكرى نقلاً عن أرشيف وحدة أفلام السودان التي كانت تتبع لوزارة الاستعلامات.
ولكل ذلك، فإننا نخصص هذه الصفحة لعرض ملامح طفيفة من أناشيد الحركة الوطنية التي كتبها شعراء السودان في زمان الاستعمار الإنجليزي، وأيضاً بعدما نالت البلاد استقلالها مستصحبين معنا حلو الذكريات العطرة، ومبتدرين الذكرى بشريط ذكريات منذ زمان سابق مع صاحب نشيد الاستقلال الأستاذ الدكتور “محمد وردي”– عليه الرحمة- الذي كان قد سرد لنا بعض ذكرياته حول نشيده الخالد حين سألناه أن يتحدث عن قصة النشيد المعروف الذي يتم بثه دوماً في الذكرى السنوية لاستقلال البلاد، فذكر أنه كان يلتقي كثيراً ومنذ سنواته الأولى في طريق الفن بالأدباء والشعراء من طلاب جامعة الخرطوم في ذلك الزمان إلى أن أعطاه ذلك النشيد أحد أولئك الشعراء من طلاب الجامعة وهو د. “عبد الواحد عبد الله”، وهو من أبناء القضارف وقد كان طالباً بكلية الآداب، في العام 1961م، إبان فترة الحكم العسكري الأول بقيادة الفريق “إبراهيم عبود” التي امتدت من 17/11/1958م وحتى قيام انتفاضة أكتوبر الشعبية في 21/10/1964م حيث تنازل عن الحكم بخطاب معروف ومتوازن ووطني جداً في أمسية الأربعاء 28/10/1964م.
وحين سألنا الأستاذ “وردي” عن الطلاب الشعراء بالجامعة وقتذاك من هم؟ أفاد بأنهم الذين شكلوا فيما بعد بسنوات قليلة مجموعة “الغابة والصحراء” كنموذج لانصهار الثقافة السودانية التي تجمع ما بين العروبة والأفريقانية، وأضاف “وردي”: (أذكر منهم محمد المكي إبراهيم الذي أعطاني بعد انتفاضة أكتوبر نشيد “أكتوبر الأخضر– ومن غيرنا يعطي لهذا الشعب” وكذلك أذكر الشاعر الراحل والطالب وقتذاك “علي عبد القيوم” الذي تغنيت له بنشيد “نحن رفاق الشهداء وأغنية “بسيماتك تخلي الدنيا شمسية”).
وعن الشاعر صاحب نشيد الاستقلال والمشهور بمقدمته (اليوم نرفع راية استقلالنا) وهو الدكتور “عبد الواحد عبد الله” فإنه قد سبق له أن عمل بوزارة الإعلام، وقد تم اختياره كمدير عام للإذاعة السودانية في فترة السبعينيات في زمان حكم الرئيس الراحل “جعفر نميري”، وبعد أن نال الأستاذ “عبد الواحد” درجة الدكتوراه، التحق بهيئة اليونسكو “UNESCO” التابعة للأمم المتحدة في مقرها الدائم بباريس، واصطلاح “يونسكو” هو اختصار لاسم المنظمة الطويل وهو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة). وبعدها انتقل الدكتور الأديب “عبد الواحد عبد الله” من اليونسكو بباريس للعمل خبيراً بإحدى دول الخليج حتى اللحظة.
فالتاريخ السياسي السوداني ومنذ العشرينيات من القرن العشرين ظل يكتنز بالعديد من الأعمال الشعرية التي تمجد نضال الشعب ضد المستعمر وتعلي من قيمة الروح الوطنية، وقد ظلت الأحداث السياسية منذ بزوغ فجر الحركة الوطنية قبل وبعد الفتح الإنجليزي للسودان في العام 1898م تلهم أهل الفن، شعراء ومطربين، منذ قديم الزمان ليوظفوا مواهبهم الفنية لخدمة قضايا هذا الشعب والوطن، وفي مقدمة أولئك يأتي الفنان الوطني الكبير “حسن خليفة العطبراوي” وقد وضع تلك القضايا الوطنية نصب عينيه وهو يرى منذ ريعان شبابه وبحسه الوطني العالي كيف كان عمال السكة الحديد في عطبرة يسيرون التظاهرات في ميدان المولد هناك ضد المستعمر الذي أرهق مناضلي المدينة وأهلها كثيراً، فكانت تلك التظاهرات هي التي ألهمته عند توظيفه لموهبته الغنائية والموسيقية توظيفاً متقدماً ليخرج للجماهير تلك الأناشيد الخالدة التي سكنت الوجدان تماماً من خلال أكبر مجال وهي الليالي السياسية والاجتماعية بعطبرة والدامر.
وحين تأسس مؤتمر الخريجين، ظلت عطبرة تحتفي بذلك الحدث الوطني ضد المستعمر، والتظاهرات تلهم الجماهير الثبات والنضال، فأخرج “حسن خليفة” من خلال تلك الأجواء الوطنية الباهرة تلك الأنشودة الرائعة والصامدة حتى اللحظة، التي ستحافظ على ذات ألقها وقوة طرحها بما ظلت تكتنزه مفرداتها من افتخار بالحس الوطني عالي المقام، فجاءت إلى الوجود في العام 1943 والحركة الوطنية تتوثب إلى إثبات ذاتها في خارطة السياسة السودانية، جاءت أنشودة (أنا سوداني أنا) التي كتبها الشاعر الأستاذ “محمد عثمان عبد الرحيم” الذي رحل قبل سنوات معدودة بمدينة رفاعة بعد عمر طويل وشيخوخة هادئة بين أبنائه وأحفاده وحفيداته، حيث أطلت القصيدة وهي تمتلئ بمفردات كبيرة المعنى، قوية الطرح، تلهم الروح الوطنية لكل من يستمع لها بلحن “حسن خليفة” وبصوته الواضح المعالم والمتمدد عشقاً لتراب هذا الوطن، وقد كان التركيز في مخارج الصوت واضحاً:
كل أجزائه لنا وطنٌ..
إذ نباهي به ونفتتنُ
نتغنى بحسنه أبداً..
دونه لا يروقنا حسنُ
لو هجرناه فالقلوب به..
ولها في ربوعه سكنُ
نتملى جماله لنرى..
هل لترفيهِ عيشه ثمنُ
غير هذي الدماءِ نبذلها..
كالفدائي حين يُمتـَحنُ
بسخاءٍ بجرأةٍ بقوىً..
لا يني جهدها ولا تهـِنُ
تستهينُ الخطوبُ عن جلدٍ..
تلك تنهالُ وهي تتزنُ
أنا سوداني أنا، أنا سوداني أنا
نعم.. أتى ذلك النشيد يهز أركان الوطن كله بما طرحه من مضامين تخاطب الروح الوطنية في ذلك الزمان الذي شهد بدايات حركة الخريجين، ما قاد إلى انتباه السلطات البريطانية لمتابعة ما يفعله إنشاد ذلك الشاب– “حسن خليفة”- المتفجر وطنية وقوة بأس وعدم تردد في زمن كانت الكلمة الرمزية الواحدة يعمل لها الاستعمار ألف حساب منذ عهد صاحب شعر الرمزية الأول فنان الشعب “خليل فرح”، فكان لابد من أن يدخل بسببه “العطبرواي” سجن المديرية في الدامر.. وبعد رحيل “العطبراوي” ظلت الفنانة “أسرار محمد بابكر” تؤدي ذات النشيد عبر الاحتفاليات القومية وبطريقة رائعة جداً.
كان للسودان دور مشرف في مناصرة شعوب العالم المستضعفة وقد ظل يجاهر بذلك دون تحفظ أو وجل. فلذلك ليس من المستغرب أن تقف كل شعوب قارة أفريقيا والأمة العربية والدول اللاتينية معجبة بدور السودان في المنطقة في ذلك الزمان الوضيء من التاريخ مع السودان.
لذلك لا غرابة في أن تندهش شعوب العالم العربي والأفريقي والآسيوي وأمريكا اللاتينية وهي ترى بلادنا تفتقد ذلك الألق الكبير الذي عرفت به وسط شعوب المنطقة العربية والأفريقية وحتى العالمية، حيث ظلت الحروب الأهلية تضربه في خاصرته من كل جانب.
والآن لابد من تبيان دور الفن السوداني الأصيل في خدمة قضايا شعوب العالم المستضعفة لنرى كم كان أهل السودان ومبدعوه ينشدون ويتغنون لتلك القضايا منذ عقود طويلة، ما يؤكد حيوية الشعب السوداني وتميز مبدعيه منذ قديم الزمان.
وقديماً في سنوات تفاعل الخريجين في أربعينيات القرن الماضي ظهر ما يسمى بنشيد (المؤتمر) الذي كتبه ضابط شاب من قوة دفاع السودان وهو الصاغ (الرائد) “محمود أبو بكر” وقد قام بتلحينه الموسيقار الراحل “إسماعيل عبد المعين”.. إنه نشيد (صه يا كنار.. وضع يمينك في يدي). ثم جاء العميد الفنان “أحمد المصطفى” عميد الفن السوداني بأغنيتي (أنا أم درمان مضى أمسي بنحسي.. غداً وفتاي يحطم قيد حبسي)، ثم (لي غرام وأماني في سموك ومجدك.. عشت يا سوداني) وقد انتشرتا مع مشارف الاستقلال ورفع العلم.. وكيف ننسى رائعة الفنان الذري “إبراهيم عوض” (أعز مكان عندي السودان).. وأيضاً أنشودة “العطبراوي” الضخمة ذات الحس الوطني العالي التي ألفها الشاعر الراحل “محيي الدين فارس” وقد كان طالباً بالقاهرة وقتها (لن أحيد.. وهناك أشباح الضحايا الكادحون.. العائدون من المزارع والحقول.. ملأوا الطريق يتهامسون.. وأقول لا.. لااااا).
كما كتب في ذات الفترة الأستاذ المعلم، الذي التحق بسلك الخارجية بعد الاستقلال، السفير “يوسف مصطفى التني” أغنية وطنية تغنى بها مطربو فن الحقيبة وقد أحياها لاحقاً الفنان الراحل “بادي محمد الطيب”.. إنها (في الفؤاد ترعاه العناية.. بين ضلوعي الوطن العزيز).. وكيف لنا أن ننسى رائعة الأستاذ الشاعر والدكتور “تاج السر الحسن” أستاذ الأدب بالجامعات، الذي رحل قبل عدة سنوات عن الدنيا، التي كتبها في زمان باكر وقد كان شاباً في مرحلة الطلب الجامعي بالقاهرة وقتذاك ويعيش آمال ومفاصل نضالات حركات التحرر الوطني من ربقة الاستعمار إبان سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم، وقد تغنى بتلك الأنشودة الخالدة الأستاذ الدكتور “عبد الكريم الكابلي”- رد الله غربته البعيدة- في زمان باكر أيضاً من مسيرته الفنية الطويلة بالمسرح القومي بأم درمان، ولأول مرة أمام الرئيس “عبد الناصر” في عام 1960م حين زار السودان في زمان حكم الرئيس الراحل الفريق “إبراهيم عبود”.. فجاءت هذه المقاطع المتميزة:
عندما أعزفُ يا قلبي.. الأناشيد القديمة..
ويطل الفجر في قلبي.. على أجنح غيمة
سأغني آخر المقطع للأرض القديمة
للظلال الزرق في غابات كينيا والملايو
لرفاقي في البلاد الآسيوية
للملايو ولباندونق الفتية
ليالي الفرح الخضراء في الصين الجديدة
والتي أعزف في قلبي لها ألف قصيدة
******
يا صحابي فأنا.. ما زرتُ يوماً إندونيسيا
أرض سوكارنو.. ولا شاهدتُ روسيا
غير أني والسنا.. في أرض أفريقيا الجديدة
والدُجى يشربُ.. من ضوء النجيمات البعيدة
قد رأيتُ الناسَ في قلب الملايو..
مثلما شاهدتُ جومو..
ولقد شاهدتُ جومو..
مثلما امتد كضوءِ الفجر يوم
فالملايو هي ماليزيا الحالية و”سوكارنو” هو الرئيس “أحمد سوكارنو” محرر إندونيسيا و”جومو” هو محرر كينيا الرئيس “جومو كينياتا” (وقد فاز رئيساً لها مؤخراً).
والآن يعيد التاريخ نفسه وبذات الملامح.. ليتمدد عطاء الفن لخدمة قضايا السودان وهو يخوض أشرس المعارك للحفاظ على وجوده.. لذلك كان الفن.. وكان الإبداع.. وكان المبدعون الذين يلهمون شعبنا الصمود والتحدي والتصدي معاً.. لتجيء احتفاليات أبناء شعبنا للحفاظ على السيادة الوطنية وشرف أهل السودان، التي أثبتت حيوية الشعب السوداني.
وبمناسبة حيوية شعبنا هذه، التي ظل يتمتع ويتميز بها.. تستحضرني هنا مقولة الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر” حين زار الخرطوم عقب نكسة (حزيران/يونيو) 1967م لحضور مؤتمر القمة الذي خرج بلاءاته الثلاث المعروفة (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل إلا بعد خروجها من الأرض المحتلة).. قال “ناصر” للصحافة العربية والعالمية: إن حيوية الشعب السوداني قد أدهشته وشدت من أزره تماماً برغم أن الصحف العالمية كانت تقول إن الخرطوم قد خرجت لاستـقبال القائد المنهزم.. فكتب له وقتذاك “أبو آمنة حامد” وتغنى أيضاً “كابلي”:
والتقت نهضتنا بالعربِ..
يوم صافحنا جمال العربِ..
أنت يا ناصر في أرضي هنا..
لست بالضيف ولا المغترب.
ألم يكتب الصحافي والشاعر الراحل النوبي “مرسي صالح سراج” في زمان بعيد مضى ليتغنى بها “وردي” ذات يوم (نحن في الشدةِ بأسٌ يتجلى.. وعلى الود نضُّم الشملَ أهلاً.. ليس في شرعتنا عبدٌ ومولى).
ولـ”ود القرشي” و”الشفيع”- عليهما الرحمة- إسهامهما الواضح في الغناء ضد المستعمر، فمن منا لا يذكر ذلك النشيد الذي لا زالت أصداؤه تتردد حتى بعد انتقال صاحبيه إلى الرفيق الأعلى، وقد كتبه الشاعر والملحن في ذات الوقت “محمد عوض الكريم القرشي” الذي كتب أكثر من (95%) من غناء “عثمان الشفيع”، وقد أدى “الشفيع” ذلك النشيد إبان سطوة الاستعمار الإنجليزي في الحفلات العامة وفي المدارس إلى أن تم اعتقاله في نهاية أربعينيات القرن الماضي، وتم إنذاره رسمياً بتعهد منه بعدم ترديده، تماماً مثلما كان قلم المخابرات البريطانية في السودان يتتبع أي أعمال غنائية تتحدث عن الوطن والوطنية وتشحذ الهمم على مقاومة الاستعمار.
فقد كان نشيد (وطن الجدود.. نفديك بالأرواح نجود.. وطني) يعمل فعل السحر في أوساط شعب السودان ومثقفيه وطلابه وعماله ومزارعيه، لذلك ظلت تجمعات الطلاب في الثانويات وفي الجامعة تنشده بلا تحفظ داخل أسوار معاهدها في مهرجاناتها العامة السنوية، كما أردفه “ود القرشي” و”الشفيع” بعمل وطني آخر هو (جنود الوطن)، غير أن قوة نشيدهما الأول (وطن الجدود) كانت الأكثر انتشاراً حتى اللحظة.
و”خليل فرح” كان قد سبق الجميع.. و”البلابل” يعدن مجد نشيد (الشرف الباذخ) لـ”الخليل”. كان ذلك النشيد وبلغته البسيطة يعبر عن آمال وطموحات الشعب السوداني في الاستقلال، لكن إرادة الله شاءت أن يرحل الفنان الوطني “الخليل” قبل أن يرى بلاده التي أحبها قد نالت الاستقلال بعد 24 عاماً من رحيله (توفي في العام 1932م). ولنا أن نعيد بعض مقاطع ذلك النشيد الذي يشتمل على شحنات عالية من الحس الوطني الدفاق:
نحن ونحن الشرف الباذخ
دابي الكر شباب النيل
**
من تبينا.. قمنا ربينا
ما اتفاسلنا قط بقليل
ده ود عمي.. وده ضرب دمي
إنت شنك.. طفيلي دخيل
**
قوم وقوم كفاك يا نايم
قوم وشوف حداك يا هايم
مجدك طلَّ.. وشرفك ولـّي
وإنت تزيد.. زيادة النيل
**
إذن.. كان “الخليل” وبحسه الوطني المتقدم، يرى ملامح الصمود ستشتعل، حيث شهد عهده قيام جمعية اللواء الأبيض في العام 1924م، برغم أن “الخليل” كان من مؤسسي جمعية الاتحاد السوداني في الأعوام 1920/1921م كانعكاس وتأثر بثورة عام 1919م بالشقيقة مصر ضد الوجود البريطاني في مصر وبقيادة زعيمها الوطني “سعد زغلول” زعيم الوفد في ذلك الزمان.
ومنذ ذلك الحين.. بدأ المبدعون الوطنيون من أهل السودان يحثون على رفع وتيرة الإحساس الوطني لدى الجماهير بإنشادهم الوطني عالي المقام. ورويداً رويداً، تكونت الجمعيات ومؤتمرات الخريجين وتشكلت التكوينات الأولى للأحزاب السودانية، فالنقابات المهنية، حتى تحقق استقلال السودان في 1/1/1956م فأتى الاستقلال سالما تماماً والذي جاء (كالصحن الصيني.. من غير شق أو طق) كما قالها الزعيم “الأزهري” في خطاب الاستقلال.
وكل عام وأهل السودان في الدنيا كلها بألف خير وعافية وأمان.