(10) آلاف شرطي
في كل عام حينما يطل عيد الكريسماس ورأس السنة والاستقلال ويستعد غالب شباب هذا الشعب المحزون للبهجة والفرح بعيداً عن أحزانه وفواجعه ومواجعه وإحباطاته العامة والذاتية، تخرج علينا تصريحات لمسؤولين في الحكومة تهدد بوأد الأفراح وتخويف الناس من الأفراح ورسم صورة شائهة عن الواقع، وقد جاء في الصحف هذا الخبر الكارثة (أعلنت شرطة ولاية الخرطوم عن وضع خطة لتأمين العاصمة خلال أعياد المولد والكريسماس إضافة لرأس السنة والاستقلال، وتهدف الخطة لنشر (10) آلاف شرطي بجانب (5) آلاف شرطي كقوات احتياطية بالأقسام المختلفة ورئاسات المحليات. وكشف مدير شرطة الولاية اللواء “إبراهيم عثمان” عن خطط استباقية تم تنفيذها الأيام الماضية والتي أسفرت عن إزالة نحو (10) آلاف وحدة سكن اضطراري بجانب توقيف (500) متسول والقبض على (650) مشرداً، وإيداعهم معسكرات الرعاية الاجتماعية).. انتهى الخبر الذي لو كنت أجنبياً قادماً من بلاد تتجمد فيها الحياة في فصل الشتاء ويبحث الأوروبيون غالباً في مثل هذه الأيام عن البلدان الأفريقية والعربية المشمسة، فيما يعرف بسياحة فصل الشتاء، هل (ستفكر) مجرد (فكرة) في الاقتراب من بلدٍ يقول المسؤولون عن أمنه وحمايته إن احتفالات البهجة والفرح تحتاج لعدد عشرة آلاف جندي لحماية مدينة واحدة.. وعشرة آلاف شرطي يماثل عدد قوات الشرطة الأوروبية التي تم نشرها في كوسوفو وصربيا والبوسنة منذ تفكك يوغسلافيا وسقوط الشيوعية، وحينما دخلت بريطانيا حرب الفوكلاند وجهت فقط نصف قوة شرطة الخرطوم، أي خمسة آلاف جندي للقيام بعمليات عسكرية أدت لإسقاط رئيسة وزراء إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
للوهلة الأولى يبدو للمراقب أن الشعب السوداني (عنيف) جداً.. مثل المشاغبين الإنجليز في كرة القدم.. وحينما ينتقل فريق مثل مانشستر يونايتد أو ليفربول لإحدى العواصم الأوروبية تضطر الدولة المستضيفة للفريق الإنجليزي لتعزيز إجراءات السلامة بأكبر عدد من القوات الشرطية.. والافتراض الثاني أن الأوضاع في عاصمة البلاد غير مستقرة، ويمكن أن تنشب أحداث عنف أثناء هذه الاحتفالات، مما يتطلب حذراً أمنياً يوازي المتوقع من المتوقع.. وكلا الافتراضين خاطئين تماماً.. هذا الشعب لم يُعرف عنه ميل للعنف في تاريخه، حتى الثورات التي اقتلعت الأنظمة السابقة في (أكتوبر) و(أبريل) لم تشهد عنفاً مفرطاً ولا ضحايا باستثناء أحداث (سبتمبر)، قبل سنوات من الآن، وهي أحداث معزولة.. لا تمثل إلا ظروفاً بعينها.
لكن بعض المسؤولين في الحكومة يتحدثون من خلال مواقعهم فقط ولا ينظرون للفضاء الواسع وأثر مثل هذا الحديث على صورة البلاد الخارجية، وقد ظلت الحكومة تشكو مراراً من تعمد المعارضة والقوى المتربصة بها تشويه صورة البلاد.. لكن الحكومة هي أول من يشوه وجه السودان بسوء تقديرها.. وحينما يرفض المستثمر الأجنبي دعوات الحكومة فإنه لا يغامر بأمواله في بلدٍ إذا خرج شعبها لقضاء ساعات في الحدائق وصالات الغناء، فإن الحكومة تتكبد إنفاقاً مالياً لعدد عشرة آلاف شرطي لحراسة الأفراح والبهجة خوفاً من إراقة كل الدماء.. أو بعضها.. والعشرة آلاف من الشرطيين الخرطوميين تنفق عليهم خزينة الدولة مليارات الجنيهات أحق بها الأطفال الذين يبحثون عن جرعة مضادات حيوية لعلاج أمراض الشتاء، وأحق بها مرضى السرطان وغسيل الكلى.. ولو نشر سعادة اللواء هذه القوات باتجاه كاودة معقل التمرد لأراحنا من “ياسر عرمان” وقطاع الشمال، بدلاً عن نشر هذا العدد الكبير لحراسة الأفراح والبهجة التي تغشى السودان مرة واحدة في العام.