هل انتقلت أمراض الأزمة الدارفورية لكردفان الجنوبية
مجلس الأمن يحرض على إشعال النزاع حول “أبيي” بين “الخرطوم” و”جوبا”
حديث (السبت)
يوسف عبد المنان
من يدفع ثمن شروط النهضة الماليزية في بلادنا
واقعة مقتل شخصين وإصابة امرأة حبلى بجراح إثر هجوم أربعة مسلحين ملثمين على الأسرة المكلومة المنكوبة من أجل نهب دراجة هوائية لا يزيد سعرها عن الـ(15) ألف جنيه بقرية “السنجكاية” الواقعة شمال مدينة الدلنج، لا تمثل حدثاً معزولاً ولا سابقة تحدث لأول مرة في كردفان الجنوبية، حيث أصبحت حوادث القتل والنهب وقطع الطرق والاعتداء على أموال المواطنين هي الأصل في الحياة. والاستثناء أن تسود الطمأنينة في تلك الأنحاء من البلاد.. ومع كل حادث نهب واعتداء على قرية تحمل عشرة من الأسر حملها على البصات السفرية وترحل عن تلك الديار وتنضم قسراً وقهراً لسكان ولاية الخرطوم، حتى شكا واليها الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” من كثافة النازحين من الأطراف لعاصمة البلاد القومية.
وحادثة قرية “السنجكاية” لن تكون الأخيرة وقد تدحرجت المنطقة التي تعرف سابقاً بمجلس شمال جبال النوبة.. أي الدلنج والقوز (الشريط الرملي) المحاذي لشمال كردفان نحو هاوية سحيقة وانحدرت لمستنقع أشبه بما حل بدارفور من لعنة.. قبل أسبوعين فقط اختارت عصابات النهب الهجوم على منجم للذهب بمنطقة (نور الهدى) التي كانت تعرف سابقاً بالضليمة.. وتزامن الهجوم على المنجم مع زيارة الجنرال “عيسى آدم أبكر” والي جنوب كردفان لذات المنطقة.. ثم نهب منجم الذهب.. وقتل أفراد الشرطة.. وتم فتح بلاغ على الورق ضد مجهولين، وفي الواقع هم افراد عصابات نهب معروفون يتخذون من المناطق التي لا تبلغها يد الدولة ملاذات لهم.. وفي شهر أكتوبر الماضي.. هاجمت عصابة أخرى مشروعا خاصا بالمواطن “عبد الله” نائب مدير بنك النيلين بالدبيبات وانهالت بالرصاص على العمال.. وفشلت الشرطة في تعقب الجناة والقبض عليهم.. بل إن منطقة (قليصة) الواقعة في محلية أبو زيد شهدت الأسبوع الماضي هجوماً غامضاً من قبل جماعة مسلحة نهبت الوقود.. واتجهت جنوباً.. وانتشرت شائعات عن هجمات يقودها المتمرد “أبو كيعان” على المنطقة.. وقد ظل يهدد طريق الأبيض الفولة.. وفي شهر سبتمبر الماضي هاجمت عصابة نهب سيارة تجارية على طريق الدبيبات البتقلتي.. وحوادث القتل والنهب.. والسلب التي تشهدها المناطق الشمالية من جنوب كردفان لا تحصى ولا تعد.. بل إن عادات وقيماً دخيلة على المنطقة أخذت تتغلغل باغتيال بعض الأشخاص (انتقائياً) كما حدث داخل مدينة الدلنج الشهر الماضي.. وهذه الأحداث تعزز صدق تقرير للأمم المتحدة نشرته في عام 2009م، بأن كردفان الجنوبية قد تنتقل إليها أحداث دارفور ومشكلاتها بسبب التداخل السكاني.. وتشابه النشاط الاقتصادي والاجتماعي.. ولكن السلطات الحكومية نفت بشدة واعتبرت تقرير الأمم المتحدة عدائياً.. وكان ذلك قبل نشوب الحرب الأخيرة.. وكل الصرخات التي يطلقها الحادبون على أمن البلاد واستقرارها تجد من الحكومة التجاهل والانزواء والتشكيك في النوايا.
وحده الدكتور “جاد السيد الحاج” مدير جهاز الأمن الوطني بولاية جنوب كردفان حينذاك.. فكر وقدر ونفذ مشروعاً للأمن الإيجابي بالعفو عن المجرمين المطلوبين للعدالة وهم في مناطق لا تستطيع الحكومة الوصول إليها.. وتقديم (معونات) للتائبين منهم.. وحقق ذلك المشروع نجاحاً كبيراً في منطقة وادي أبو حبل.. لكن الحكومات الولائية المتعاقبة لم تهتم كثيراً بالمخاطر الكبيرة على الأمن في تلك المنطقة.. بل جعلت تأمين المدن من التمرد هو كل حلمها ومبتغاها.. وعصابات النهب التي تنشط الآن أصبحت جزءاً من التمرد.. تتبادل معه المصالح وتمده بالغذاء والوقود والمعلومات مقابل أن تصبح مناطق التمرد (ملاذات آمنة) لعصابات النهب المسلح.. وقد تعقب المواطنون وشرطة محلية “السنجكاية” يوم (الثلاثاء) الماضي حتى مشارف جبل الكدر الواقع على بعد حوالي (7) كلم من الدلنج والذي تسيطر عليه الحركة الشعبية قطاع الشمال.. وعاد الفزع الأهلي لأن المواطنين العزل وقوة الشرطة التي لا تملك العدة والعتاد لمواجهة التمرد من الحمق أن تتقدم نحو معسكرات التمرد.
والذين يمارسون النهب والسلب والقتل ينتشرون في منطقة خور أبو حبل وجميعهم من العرب البقارة والعرب الأبالة، ولكنهم على اتصال بالتمرد.. وتنسيق لشن الهجمات على المواطنين بدواعي الحصول على الدراجات البخارية التي أصبحت من أدوات الجريمة في كردفان ودارفور مما اضطر حكومات ولايات جنوب دارفور وشرق دارفور وغرب كردفان لاتخاذ قرارات صارمة بمنع (المواتر)، واضطرت محلية القوز بولاية جنوب كردفان لاتخاذ قرار بمنع الدراجات البخارية وفرضت عقوبات مالية على من يقود الدراجة البخارية.. ولكن محلية الدلنج اتخذت قراراً بحظر سير الدراجات البخارية بعد السادسة مساءً وحتى السادسة صباحاً خاصة وقد استخدمت هذه الدراجات في اغتيال أحد أفراد القوات النظامية داخل أحياء مدينة الدلنج.. بينما تسمح السلطات باستخدام الدراجات البخارية في بقية أنحاء ولاية جنوب كردفان، وفي ذلك تناقض كبير.. إما منعها بقرار ولائي مثلما فعلت غرب كردفان ونجحت في القضاء على التفلت والاضطراب الأمني، وإما أن تترك تصول وتجول وتعتدي على المواطنين بهذه (الآلية) التي أصبحت (عسكرية) مثل سيارة اللاندكروزر، فلماذا لا تتخذ السلطات المركزية قرارات بحظر تملك المواطنين لسيارات اللاندكروزر.. وكذلك حظر تملك المواطنين على الأقل في الولايات التي تشهد اضطرابات أمنية مثل كردفان ودارفور للدراجات البخارية.
في ليبيا أثناء سنوات حكم “القذافي” تم منع تملك الأهالي لسيارات الدفع الرباعي.. وفي دولة مثل الأردن يمنع تماماً تملك المواطنين للدراجات البخارية لأسباب صحية وأمنية، ولا يمتطي الدراجات البخارية إلا تشريفة الملك.. أما السودان فقد أصبحت الدراجات البخارية من أدوات الجريمة وأسلحة المتمردين الفاعلة.. ولكن ما يحدث في كردفان الجنوبية من إصابة بأمراض دارفور من السهل جداً الانتقال شرقاً إلى النيل الأبيض والجزيرة وسنار وشمالاً إلى الأبيض وسودري والتي لولا وجود والي مثل “أحمد هارون” لتفشى فيها مرض دارفور القاتل.. كما تفشى في جنوب كردفان منذ سنوات والآن جنوب كردفان يقودها ضابط كبير برتبة لواء في جهاز الأمن والمخابرات، وتشهد مدنها مثل هذه الأحداث، فكيف لها إن كانت تحت قيادة شخصية مدنية؟؟ التمرد في دارفور انتهى عسكرياً، ولكن ما هو أخطر من التمرد قد تفشى في المدن اغتيالات وسلب ونهب.. وأهدرت مواد مالية كانت كفيلة بجعل دارفور جنة في أرض السودان لولا التمرد وتبعات التمرد.. والآن في جنوب كردفان تتفشى أمراض التمرد الذي انحسر نسبياً وتعرض الصيف الماضي لضربات موجعة أفقدته القدرة على المبادرة، ولكن ما هو أخطر من التمرد قد حل بكردفان الجنوبية فكيف السبيل.
{ تفجير الأوضاع بـ”أبيي”
على نحو مفاجئ دعا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة دولتي السودان وجنوب السودان إلى الدخول في مفاوضات مباشرة بشأن المنطقة المتنازع عليها “أبيي”، وقال المجلس يوم (الأربعاء) الماضي إن الوضع الحالي يشكل تهديداً خطيراً للسلم الدولي. وفي ذات الجلسة اتخذ مجلس الأمن قراراً بتمديد ولاية قوات حفظ السلام الأممية وصوت المجلس بالإجماع على تمديد ولاية قوات (يونسفا) وكلفها باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين الذين يتعرضون للتهديد الوشيك بالعنف الجسدي، وأكد قرار المجلس أن الوضع المستقبلي لمنطقة “أبيي” يجب أن يحل سلمياً عبر مفاوضات وليس من خلال إجراءات أحادية الجانب من الطرفين، معرباً عن قلقه إزاء التأخير والجهود المتعثرة لتفعيل آلية الرصد والتحقق من الحدود المشتركة. وكان مجلس الأمن قد أصدر في 27 يونيو 2011م، قراره بالرقم (1990) بإنشاء قوة الأمن المتحدة المؤقتة في “أبيي” جراء أعمال العنف وتصاعد التوترات وتشريد السكان، وجاء إنشاء قوات (يونسفا) عقب توصل الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان لاتفاق “أديس أبابا” الذي ينص على نزع السلاح من منطقة “أبيي”، والسماح للقوات الإثيوبية بمراقبة المنطقة. وتأتي دعوات مجلس الأمن في هذا التوقيت والعلاقات بين الخرطوم وجوبا في أسوأ حالاتها.. وكل أسباب التوتر والشحناء والبغضاء بين الدولتين شاخصة مما يتعذر معه إجراء أية مفاوضات بشأن منطقة “أبيي” التي أصبح النزاع حولها بين دولتي السودان وجنوب السودان بعد أن كان النزاع محدود جداً بين مكونات المنطقة المسيرية ودينكا نقوك.. ومجلس الأمن الذي فشل في فرض الأمن والاستقرار بجنوب السودان وخابت خطته في حماية المدنيين وبات هو نفسه جزءاً من مشكلة جنوب السودان، كان حرياً به قبل الالتفات إلى قضية “أبيي” أن يعمل على وقف الحرب الأهلية التي نشبت في جنوب السودان، لأن “أبيي” ليست جزءاً من تلك المشكلة وهناك استحالة في الوصول لتفاهمات بين “الخرطوم” و”جوبا” حول “أبيي”، إذا كان جنوب السودان يحترق في حرب داحس والغبراء، بل إن ما يحدث هناك مأساة إنسانية حيث المذابح العرقية التي لم يشهد التاريخ الإنساني مثيلاً لها، وقد قدر عدد ضحايا الحرب منذ اندلاعها بنحو (2) مليون نسمة ماتوا في صمت ولم يشعر بهم أحد.. وحينما يتحدث مجلس الأمن الدولي عن مفاوضات بين الخرطوم وجوبا فإنه يبعث برسالة أخرى تفهمها الخرطوم بالضرورة وتستوعبها جوبا.. وقضية “أبيي” واحدة من القضايا التي انتقلت من السودان القديم إلى وضعيتها الراهنة لقضية حدودية ضمن (20%) من الحدود المختلف عليها بين الدولتين، حيث تم من قبل ترسيم (80%) من الحدود وتبقت فقط الـ(20%)، ولكن حكومة جنوب السودان حينما شعرت بفقدانها للقاعدة الجنوبية التي حصدت شعارات التحرير والانفصال حسرة وندماً وخيبة أمل في التنمية والرفاهية، بحثت عن عدو خارجي ظناً منها أن ذلك من شأنه المساهمة في توحيد الجبهة الداخلية.. فأشعلت حرب المنطقتين أولاً حتى تقعد السودان عن التنمية لصالح شعبه.. ثم جمعت كل حامل سلاح في وجه الخرطوم واحتضنتهم ولم تحصد جوبا إلا حريق الداخل بتمرد النوير في أعالي النيل والمنداري والتبوسا واللاتوكا والأشولي.. بل انشق عن “سلفاكير” أبناء عمومته من الدينكا.. وأصبحت حكومة “سلفاكير” الحالية غير مؤهلة لحكم الجنوب وتوحيد شعبه، دعك من حسم القضايا الحدودية مع دولة السودان، وهي قضايا أساس حلها الثقة بين الدولتين والإرادة السياسية والرغبة في التعايش، وكل ذلك لا يتوفر في الوقت الراهن، وبالتالي يصبح الحديث عن قضية “أبيي” ترفاً من قبل مجلس الأمن أو مؤامرة جديدة لإحياء حرب بين الخرطوم وجوبا من أجل توحيد الجنوبيين، لأن العامل الوحيد الذي ظل يلعب دوراً هاماً في توحيد الجنوبيين هو كراهية الشمال والشماليين.
ومجلس الأمن الدولي الذي جدد لقوات (اليونسفا) الإثيوبية كان حرياً به السعي نحو استقرار جنوب السودان بإرغام حكومة “سلفاكير” على تطبيق اتفاقية السلام التي وقعتها مع المنشق “رياك مشار”، من خلال الوكيل المحلي لمجلس الأمن الدولي (مجلس السلم والأمن الأفريقي) وأصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.. وقد فشل مشروع التسوية ولم يجد مجلس الأمن إلا قضية “أبيي” لإحيائها من جديد وفي هذه الظروف لن تحقق أي مفاوضات بين الدولتين نجاحاً يذكر، لأن شروط النجاح غير متوفرة في الوقت الراهن.
{ التجربة الماليزية
انعقد بالخرطوم من (الخميس) وحتى اليوم (السبت) منتدى (كوالالمبور) الثالث حول الحكم الرشيد وأثره في تحقيق النهوض الحضاري وسط حضور كبير لقيادات سياسية وفكرية ومثقفين عرب وأفارقة.. وأساتذة جامعات من كل دول العالم الإسلامي، وقد لمع نجم صانع النهضة الماليزية “مهاتير محمد” رئيس الوزراء الأسبق في الدولة (النموذج) وهو يتحدث عن حصاد تجربته التي قال أساسها الحكم الرشيد الذي نهض على قواعد الديمقراطية والشفافية ومحاربة الفساد.. وإذا كان المنتدى في مؤتمره الثالث قد انتقل للخرطوم التي كم أعجب قادتها ورموزها في الحكم والمعارضة بما حققه الماليزيون من نهضة حضارية وعمرانية وتطوراً تقنياً جعل الغرب يقف مقدراً ومثمناً لدور ماليزيا الدولة الإسلامية غير العربية، وهي تضع أساساً لتجربة يمكن الآخرون حذوها لمصلحة شعوبهم التي إذا امتلكت الثروات أقعدتها العزائم. والخرطوم حينما تحتضن مثل هذا المؤتمر الهام وتسعى للسير على خطى ماليزيا في النهضة والحضارة، فإن ثمة شروط ومطلوبات لا بد من تحقيقها قبل التطلع إلى التطور العمراني والرقم المالي والنهضة المادية، فإن ماليزيا لم تنهض إلا بعد أن سلكت دروب النظام الديمقراطي ودفعت استحقاقاته.. وصانت حقوق شعبها الكريم في حق التعبير وحق إبداء الرأي دون خوف من تبعات ذلك وجففت منابع الصراعات بالحسنى لا القوة.. وبسطت سلطة الدولة بالعدل والحرية والمساواة.. ثم كان “مهاتير محمد” هو القدوة والمثال والرائد الذي وجد تأييداً من شعبه وانتخب عبر صناديق الانتخابات، الشيء الذي جعله رئيساً متفقاً عليه.. والسودان يملك من قواعد النهضة ما لا تملكه ماليزيا.. وحصل الرئيس “البشير” على تفويض من الشعب والتفاف لم يحصل عليه “مهاتير محمد” في ماليزيا، لكن شروط النهضة الأخرى عجز السودان في مجرد الاقتراب منها.. ويشكو السودانيون من تفشي الظلم.. والمحاباة وغياب الشفافية والمحاسبة.. وقبل كل ذلك هل تنهض الأمم والشعب في مناخات الحروب الداخلية وقد أصبح غاية وأمنيات وزير المالية أن تسدد الحكومة رواتب الموظفين ولا تسقط بإنتفاضة في الصيف أو الشتاء.. ماليزيا التي هي اليوم من أقوى الدول اقتصادياً في آسيا.. لا يمكن مقارنة مواردها الشحيحة مع موارد السودان، ولكن الإستقرار والسلام والديمقراطية هي كلمة سر نهضة تلك الدولة الآسيوية العملاقة.. وإذا لم يتحقق السلام في السودان وتجف ينابيع الدم في وطننا.. لن تنهض بلادنا.