حوارات

(المجهر) تحاول سبر أغوار التاريخ حول انقلاب نوفمبر مع نجل "عبد الله خليل"

كان الاتفاق بين “خليل” و”عبود” أن يبقى الجيش في السلطة ستة أشهر فقط
سفيرنا بـ”القاهرة” أرسل برقية بأن الاتحاديين يتآمرون لقلب النظام والاتحاد مع مصر
مباركة (السيدين) تنفي تهمة أن “عبد الله خليل” اتخذ القرار منفرداً ولولاه لأصبح السودان جزءاً من مصر
“الصادق” يقول (العايز يقولو)..ورجل يصف أسرة “المهدي” بالكذابين لا داعي لأن أناقشه
والدي رفض كتابة مذكراته وقال (لو كتبت مذكراتي ستؤذي أناساً أبطالاً في نظر الشعب فليظلوا أبطالاً)
“الصادق” ما بيعتذر لكن ممكن يزورك في البيت (عشان يرقد شعرة جلدك)
الوالد قال لي(ما بكره المصريين لكن أنا بعرفهم كويس)
انقلاب الفريق “إبراهيم عبود” في السابع عشر من نوفمبر 1958م كان حدثاً فارقاً في تاريخ السودان، إذ أنه أدخل (العسكر) لأول مرة إلى السلطة وأجهض التجربة الديمقراطية الأولى ..لا زالت الروايات تختلف وتشتجر والتفسيرات تتناقض حول موقف رئيس الوزراء حينها ووزير الدفاع وسكرتير عام حزب الأمة الراحل الأميرلاي “عبد الله خليل” الذي قضى بتسليم السلطة حينها للقوات المسلحة، فالبعض يحمل المسؤولية للأميرلاي ويتهمه بأنه اتخذ القرار منفرداً، بينما طائفة أخرى تستميت في درء أذى (ظلم التاريخ) عن الرجل وتستدل بمباركة السيدين “عبد الرحمن” و”علي” لانقلاب نوفمبر.. بين هذا وذاك جلست (المجهر) إلى نجل “عبد الله خليل” الدكتور “أمير” لتقف على المشهد من داخل بيت (آل خليل) ..وجدناه داخل مكتبه بمستشفى أم درمان الذي يتقلد فيه منصب رئيس مجلس الإدارة..الرجل يأتي من بيته وهو يحمل معه أوعية الشاي والقهوة وقوارير الماء والعصائر حتى لا يصرف من مال المستشفى..وتصادف أن دخل علينا أثناء إجراء الحوار صهر الزعيم الأزهري البروفيسور “برعي”، وهو نائب رئيس مجلس الإدارة..ليجري الحوار مع ابن زعيم وفي حضور وتعليقات وقفشات صهر زعيم آخر.. فكانت هذه الإفادات التي ربما لا تحسم الجدل حول الانقلاب الأول في تاريخ السودان لكنها قد تضيء بعض النقاط المظلمة.
حوار – عقيل أحمد ناعم
{بدايةً دعنا نعرف القارئ بـ”أمير عبد الله خليل”
– أنا “أمير عبد الله خليل عوض”.. أم درماني حتى النخاع، مولود في أم درمان ونشأت فيها ودرست في مدرسة الموردة الأولية، والأهلية، ثم درست في الأبيض الأميرية، ثم مدرسة وادي سيدنا الثانوية، وسافرت إلى جامعة (شارلز) درست فيها الماجستير والدكتوراة . وفي ذاك الوقت 1967 لم يُعترف بالدكتوراة من جامعات شرق أوربا فيتم فقط منح درجة الماجستير رغم نيلك للدكتوراة، لكن فعلياً تكون حاصلاً على الدكتوراة، ولكن الوضع تغير الآن.
{ ما هو تخصصك الجامعي تحديداً؟
– درست اقتصاداً زراعياً وميكنة.. والدراسات العليا كانت في (زراعة القطن في السودان).
{ وأنت ابن رمز وزعيم سياسي وقائد عسكري ورئيس وزراء، هل عشت طفولة عادية مثل كل أبناء أم درمان؟
– بالصدق والأمانة عشت طفولة أكثر من عادية، فرغم السيارات التي كانت موجودة في البيت كنت بمشي من بيتنا في حي السيد المكي حتى مدرسة الموردة على أقدامي. الوالد رحمه الله لم يدلل أبناءه أبداً .وكنت مثلي مثل أي طالب ألبس (الدمورية) وأحمل حقيبة الدمورية، فالسودان هو بلد التواضع و(ماكنت فارز نفسي من أولاد الحي).
{ ألم تكونوا تركبون سيارات الحكومة ..والتي كانت واحدة من امتيازات المواقع التي تقلدها الوالد؟
– جيل (ناس عبد الله خليل) لم يكونوا هم أنفسهم يركبون سيارات الحكومة لغير العمل، دعك من أن يركبها أبناؤهم، كان السائق يأخذه إلى العمل ويعيده إلى البيت ثم يذهب ويوقف السيارة في (النقل الميكاني).هذا جيل لا يتكرر في السودان.
{ أين كنت عندما تقلد والدك منصب رئيس الوزراء؟
– كنت في وادي سيدنا الثانوية.
{ وأين كنت عندما وقع انقلاب “عبُود”؟
– كنت حينها لا زلت في وادي سيدنا.
{ من خلال معايشتك وأنت في منزل رئيس الوزراء..أطلعنا على الظروف السياسية التي سبقت انقلاب نوفمبر؟
– موضوع انقلاب نوفمبر فيه نقاش ونزاع كثير، ولا يخفى على أحد أن المصريين سعوا لقتل شخصية “عبد الله خليل” عبر إعلامهم، لأنه كان واقفاً ضدهم في كثير من القضايا المتعلقة بالسودان.
{ حدثنا عن دور المصريين في ملابسات الانقلاب.
 { جاءت برقية سرية إلى “عبد الله خليل” من سفيرنا في “القاهرة” المرحوم “يوسف أحمد التني”، وقال فيها (إن الاتحاديين يتآمرون لقلب نظام الحكم في السودان) وإعلان الإتحاد مع مصر، فشعر “عبد الله خليل” بأنه ليس هناك حل سوى تسليم الحكم للقوات المسلحة.
{ هل كان تسليماً مفتوحاً أم كان هناك اتفاق محدد؟
– كان الاتفاق  أن يبقى الجيش في السلطة لمدة ستة أشهر فقط ويعيدوا بعدها السلطة.
{ بين من ومن كان الاتفاق؟
– الاتفاق كان بين القوات المسلحة ممثلة في “إبراهيم عبود” وقيادة الجيش وبين “عبدا لله خليل” كرئيس للوزراء.
{ هذا يعني أن “عبد الله خليل” وحده من اتخذ القرار بتسليم السلطة للجيش وهو الوحيد الذي كان مقتنعاً بالخطوة؟
– لا أبداً.. الانقلاب باركه السيدان (السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني) وأصدرا بيانات شديدة اللهجة أيدا فيها الانقلاب، وهذا ينفي الاتهام بأن “عبد الله خليل” اتخذ القرار منفرداً.
{ أين حزب الأمة كمؤسسة من المشهد وما هو دوره في اتخاذ القرار؟
– “عبد الله خليل” هو سكرتير عام حزب الأمة، وأول سكرتير عام منتخب للحزب.
{ لكن هناك رواية بأن قيادة الحزب لم تكن موافقة على تسليم السلطة للقوات المسلحة.
– أنا أقول لك إن هذا هو سكرتير عام حزب الأمة -، وأيد السيد “عبد الرحمن” راعي الحزب الانقلاب، وكذلك فعل السيد “علي الميرغني” ، وهذا يعني أن “عبد الله خليل” أجرى مشاورات قبل اتخاذ القرار جعلت السيدين مستعدين للتأييد.
{ ولكن “الصادق المهدي” له رأي آخر بأن ثلاثة عشر من خمسة عشر من مجلس إدارة الحزب كانوا ضد القرار.
* يا أخي “سيد صادق” يقول (العايزو)، ولدي مقالات أوضحت وردت على “الصادق”.
{ عفواً ..دعنا نسمع رأيك في ما قاله تحيداً.
– “الصادق” وصل إلى مرحلة  أنه عندما جاءنا بيت “المهدي” في وفد شمل كل عائلة “المهدي” وبنات السيد “عبد الرحمن” وكل الأسرة واعتذروا عن ما ورد في مقابلة “الصادق” في برنامج (شاهد على العصر) التي بثتها (قناة الجزيرة)، وصف كل هؤلاء بأنهم لا يمثلون عائلة “المهدي”.. بعد هذا الكلام الغريب ليس لدي ما أقوله، ولا كلمة. شخص ينكر كل هؤلاء ويقول إنهم ليسوا من عائلة “المهدي” ويصفهم بأنهم كذابون، لا داعي لأن أدخل معه في نقاش أصلاً. ولعلمك أنا كنت نشطاً في حزب الأمة وعُرضت علي العديد من المناصب ولكني رفضت.
{ ولماذا رفضت؟
– لأني كنت خارج السودان منذ 1970م ولم أمارس العمل السياسي فعلياً في السودان، ولأخذ أي منصب داخل الحزب لابد أن تكون عملت داخله وعرفت كل التكتلات الموجودة فيه وما يجري داخله.
{ إذاً أنت لا تملك تجارب سياسية؟
– لا، العمل داخل حزب الأمة لم يكن تجربتي الأولى في السياسة، فأنا عملت سكرتير الحزب الشيوعي في اللجنة الاقتصادية العليا، ولم يكن هناك يعلم أني أنتمي للحزب الشيوعي، وقد استهواني العمل السري آنذاك بعدها خرجت من الشيوعي وعدت لحزب الأمة.
{ بالعودة لانقلاب نوفمبر..هل كانت هناك مخاطر تحيق بالبلد لدرجة إقدام رئيس وزراء منتخب على تسليم السلطة للجيش؟
– نعم كان هناك خطر محيق بالبلد عامة، لذلك كان قرار السيد “عبد الله خليل” بتسليم السلطة للقوات المسلحة قراراً شجاعاً جداً وصحيحاً، لأن أية دولة ليس هناك من يحميها غير قواتها المسلحة، والأمر تم تسليمه للقوات المسلحة وليس لقوات خارجية ولا لحزب، فهي جسم وكيان محايد.
{ ولكن يا دكتور يبدو أن هذا الجسم المحايد خان تعهداته مع رئيس الوزراء ولم يعد السلطة بعد الستة أشهر المتفق عليها، واستمر ست سنوات ولم يذهب إلا بعد أن ثار عليه الشعب.
{ نعم قيادة الجيش لم تفِ بتعهداتها، وألقت القبض على “عبد الله خليل” نفسه ومن معه وأبعدوهم إلى “نواكشوط” .
{ لماذا في رأيك وصل التعسف ضد “عبد الله خليل” لدرجة إبعاده من البلاد؟
-لأن “عبد الله خليل” في مرحلة اقترح أن تكون هناك مقاومة مسلحة للانقلاب، لكن حزب الأمة لم يوافق عليها، فقبضوا عليه وأرسلوه إلى “نواكشوط”.
{ هل ندم بعد ذلك “عبد الله خليل” على أنه سلم السلطة للجيش؟
– صمت قليلاً ـ وأجاب باقتضاب :يعني .. ما بقدر أحكم على الأمر.
{ تحدثت عن حياد الجيش في ذلك الوقت..ولكن هناك تأكيدات بأن أغلب قادته لهم انتماءات سياسية ..وأن “عبود” نفسه كان مائلاً نحو الاتحاديين ما يفسر تأييد السيد “علي” للانقلاب.
* في السودان ليس هناك شخص ليس لديه انتماء، من يقول إنه ليس لديه انتماء فهو كاذب. فهناك من كان ينتمي للختمية ومن كان ينتمي للأنصار، والبعض ينتمي للوحدويين، وآخرون ينتمون للجمهوريين، لكن في القوات المسلحة لا يكون الانتماء صارخاً ولا ظاهراً خاصة في  ذلك الزمن، فقد كانت القوات المسلحة محايدة تماماً.
{ لكنها فقدت الحياد باستمرارها في الانقلاب ورفضها تسليم السلطة؟
*- (يا عقيل ياخي الكرسي ده بعد الزول يقعد فيه بتبقى القومة صعبة جداً) هو مثل كرسي الحلاق، في كل الأحوال ستقوم منه ولكن (بتكون ماسك بيديك وكرعينك وبتكنكش).
{ لماذا كان للمصريين موقف من السيد “عبد الله خليل”؟
– المصريون حدثت منهم خيانة عندما تحركت مجموعة “علي عبد اللطيف” في (اللواء الأبيض) جعلت “عبد الله خليل” يغير رأيه تماماً في المصريين ويأخذ موقفاً واضحاً تجاههم. وأنا سألته شخصياً (لماذا تكره المصريين) فقال لي (أنا ما بكره المصريين لكن أنا بعرف المصريين كويس). ومعلوم أن “عبد الله خليل” في ثورة 24 كان هو المتولي أمر الأسر والمصريون خانوا السودانيين في ثورة 24 فقد كانوا متفقين أن يخرجوا معهم ولم يخرجوا وخذلوهم، ومنذ ذلك الحين أصبح لعبد الله خليل رأي واضح في المصريين. ثم جاء موضوع (حلايب) وزاد الطين بلة.
{ أين مذكرات “عبد الله خليل” ..لماذا لم ترَ النور حتى الآن؟
– الوالد “عبد الله خليل” ليس لديه أي مذكرات، بل هو رفض رفضاً باتاً أن يكتب مذكراته. وقال بالحرف الواحد (لو كتبت مذكراتي حيتأذى منها ناس كتار أبطال في نظر الشعب السوداني فليظلوا أبطالاً). وقال (لو كتبت مذكراتي فسأتحدث عن إخواني وأصدقائي). وجيل “عبد الله خليل” كله لم يكتب أحدهم مذكراته. وللعلم كل هذا الجيل ماتوا مطلوبين (أزهري مات مطلوب وعبد الله خليل مات مطلوب، وبيت عبد الله خليل كان مرهوناً، وكذلك أزهري بيته كان مرهوناً)ـ وهنا تدخل صهر “الأزهري” بحماس (أي والله أي والله).
ويواصل دكتور “أمير”: وأيضاً بيت السيد “الصديق” كان مرهوناً، كلها رهنت للانتخابات.
{ هل ترى أن التاريخ ظلم السيد الأميرلاي “خليل”؟
– ظلمه جداً، ظلمه جداً، ظلمه ظلم “الحسن” و”الحسين”. الآن سموا شارع الجزار في “الرياض” باسم “عبد الله خليل”، كان الأجدر أن يسموا باسمه شارعاً في أم درمان لأنه نشأ وعاش ومات في أم درمان .
{ وهل حزب الأمة نفسه ظلم أول سكرتير عام له؟ 
– حزب الأمة (شكر منو) منذ أن تولى القيادة فيه “الصادق المهدي” وحتى يومنا هذا؟؟ و(أكرم منو)؟ كرموا “أمين التوم” وبعدها شتموه، وأبناؤه حتى اليوم (زعلانين) وخرجوا من حزب الأمة. ولكن “عبد الله خليل” كرمه السيد “عبد الرحمن” وأهداه مصحفاً وسيفاً من الذهب. وقال له (أهديك مصحفاً رمزاً للحق، وسيفاً رمزاً للقوة) . وحزب الأمة الآن لم تتبقَّ فيه قيادات، و”الصادق” من فرط أنانيته يتولى الآن منصب الزعيم الديني والزعيم السياسي، في حين أن عمه “أحمد المهدي” موجود وهو أولى بقيادة الأنصار وهو أكبر منه سناً، لكن “الصادق” لا يحترم أحداً.
{ ألم يحاول “الصادق المهدي” أن يعتذر لأسرة “عبد الله خليل” حتى يزيل هذه الجفوة؟
– “الصادق” (ما بيعتذر)، لكن يمكن أن يزورك في البيت (عشان شوية يبرد شعرة جلدك) لكن كما قلت لك جاءتنا اعتذارات من كل أسرة “المهدي”، واعتذروا في لوحة موجودة الآن، ولم يتبقَّ منهم أحد لم يعتذر لنا إلا “الصادق” وأبناؤه.
{ ولكن يا دكتور ..”الصادق” يرى أن ما حدث في نوفمبر كان وأداً لأول تجربة ديمقراطية في تاريخ السودان.
– البلد كانت في خطر ومهددة وسيحدث فيها انقلاب وتؤول إلى مصر ـ والآن ألا يطالب المصريون في صحفهم وقنواتهم الفضائية بالسودان؟ هم يعتبرون السودان واحدة من مستعمراتهم.
{ يا دكتور يبدو أنك ورثت  نفس موقف الوالد ضد مصر؟
– أنا (ما عندي شيء تجاه مصر)، لكنك تكون مضطراً للوقوف ضد المصريين. فالشعب السوداني محترم في كل العالم، وفي الخليج يسبحون باسمهم، ولم يتعرض السودانيون لذلة إلا في مصر.
{ كلمة أخيرة حول انقلاب نوفمبر
– أرى أن “عبد الله خليل” اتخذ القرار الصحيح بالتشاور مع السيدين، وهو كان سكرتير عام حزب الأمة، ولأن أي تهديد للسودان تتصدى له القوات المسلحة فهي المسؤولة عن حماية البلد.وإن لم يتم تسليم السلطة للقوات المسلحة كان السودان سيكون جزءاً من مصر، وهذا حلم المصريين.
{ما هي العظات والعبر التي يمكن الخروج بها من ذلك الانقلاب ومن علاقة الجيش بالسياسة والسلطة؟
– عموماً ليس هناك من يؤيد حكم العسكر ولا من يطالب به، لأنه يصبح حكماً دكتاتورياً يتسلط على الناس، لذلك أرى أن أنسب حكم للسودان هو الديمقراطية أياً كانت عيوبها، فهي أفضل مليون مرة من أي حكم عسكري مهما كانت إنجازاته. “عبود” أنجز، وما أنجزه لم ينجزه أي نظام آخر، ولكنه في النهاية نظام عسكري.

مصحح- أحمد

 

 

 

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية