قضبان ترقد في وحشة وقاطرات ينعق فيها البوم: السكة الحديد.. متي يصحو المارد؟!
(لا بديل للسكة الحديد إلا السكة الحديد).. عبارة ظللنا نسمعها دون أن نرى على الواقع شيئاً.. ما أكثر الحديث في بلادي وما أسهله!! لا بديل للسكة الحديد، وهي الغائبة تماماً، لا ضجيج لها ولا طحين.. حتى عبارة “إنت شلتو جيبو يا القطار” لم تعد ترن في الآذان كسابق عهدها، ولم يعد بمقدور القطار إعادة الأشياء الآن!! عانت السكة الحديد الإهمال إلى أن لقيت حتفها.. خرجت ولم تعد منذ سنوات مضت بعد أن كانت الناقل الأول هنا في بلادي بلا منازع، ووريده الذي يمده بالغذاء.. أضحت الآن مجرد قضبان- فلنكات- وخشب على التراب! وظل القطار يحمل كل صفات أهل السودان وملامحهم الطيبة إلى أن توقف نبضه.. تغنت له أجيال من الفنانين، وكان شاهداً على مخاض العديد من القصائد، وقصص الحب والزواج، اختفت معه العديد من المصطلحات التي لا يعرفها إلا (السككيون) مثل: (العطشقي)، (المحولجي) (الترولي)، ( السنطور)، (التابلوت)، (عربة الفرملة) و(عمال الدريسة).
تغيرت معالم السكة الحديد إلا مدينة عطبرة، بلد الحديد والنار، وما زالت تحتفظ بأحقيتها في السكة الحديد، وما يذكر القطار إلا وتذكر معه مدينة عطبرة.. تطورت سبل المواصلات، وظل القطار في المؤخرة بعد أن كان في مقدمة الركب!
متى تعود السكة الحديد إلى سيرتها الأولى؟ سؤال طرحناه عبر (المجهر) على القائمين على أمر السكة الحديد متى تعود؟..
} ماضٍ تليد
تعد هيئة سكك حديد السودان من أطول الشبكات الحديدية بأفريقيا، إذ يبلغ طول خطوطها خمسة آلاف وثمانمائة كيلومتر، منها حوالي (4578) كيلومتراً خطوط رئيسة، وهي من الشبكات ذات الخط المفرد باتساع (3) قدم و(6) بوصات، أي ما يعادل (1067) مليمتراً.
بدأ إنشاء الخطوط في عام 1897م مع بداية حملة الاحتلال الإنجليزي المصري للسودان، واكتمل معظمها قبل العام 1930م. ويمتد الخط من مدينة وادي حلفا في شمال السودان إلى الخرطوم جنوباً، مروراً بمدينة عطبرة التي تمثل عاصمة السكة الحديد، ويتفرع منها الخط إلى مدينة بورتسودان. ويعدّ خط بورتسودان/ الخرطوم هو الممر الرئيس لحركة النقل بالسودان لارتباطه المباشر بحركة الصادرات والواردات بالبلاد. ويوجد خط إستراتيجي مناوب يربط ميناء بورتسودان بالعاصمة الخرطوم عن طريق مدينتي كسلا وسنار في شرق وأواسط البلاد.
تتمدد الشبكة نحو الشمال عبر خطوط فرعية تربط بين كريمة ووادي حلفا. وباتجاه الغرب تصل الشبكة مدينة الأبيض من تقاطع مدينة الرهد التي امتدت منها غرباً إلى تقاطع مدينة بابنوسة، ومنها اتجهت إلى مدينة نيالا في العام 1959م. ومن تقاطع بابنوسة اتجهت إلى مدينة واو في جنوب البلاد في العام 1962م.
أما آخر الامتدادات الحديثة للشبكة، فقد ربطت في العام 1995م بين المجلد وطابو جابرة بطول (52) كيلومتراً لخدمة نقل خام البترول السوداني. كما شُيد في عام 1996م خط ربط بين مصفاة بترول الأبيض بجبل أبو حراز ومحطة الأبيض بطول (10) كيلومترات. وفي ذات العام تم إنشاء خط لنقل الحاويات من محطة سوبا إلى مستودعات الجمارك. وفي العام 2000م تم إنشاء خط مصفاة الخرطوم الذي يبلغ طوله (12) كيلومتراً إلى الجنوب من محطة “الرويان”. وفي العام 2002م اكتمل إنشاء خط لربط سد مروي بمحطة “البان” بطول (16) كيلومتراً.
تمتلك الهيئة حالياً (130) وابوراً سفرياً، و(54) وابور مناورة، وحوالي (4187) عربة بضاعة، و(910) فنطاسات زيوت، و(167) عربة ركاب.
تتمركز الورش الرئيسية لصيانة القوتين الساحبة والناقلة، وورش معدات الإشارات والاتصالات بعطبرة، بالإضافة إلى مصنع الأوكسجين والاستالين والمسبك ومصنع الفلنكة، والمنتجات الخراسانية، كما توجد ورش مساعدة بكل من الخرطوم وبورتسودان.
أما نظم الإشارات بالهيئة، فقد تطورت وأصبحت معياراً للتقدم الفعلي، وتلعب دوراً حيوياً في حركة مسير القطارات، وتأكيد السلامة والأمان في حركة النقل.
ظلت هيئة السكة الحديد منذ نشأتها تعمل وفقاً لدورها الحيوي في تقديم خدمة النقل وخلق الترابط الاجتماعي وترسيخ الوحدة بين أجزاء الوطن كافة.
وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي أُعيد النظر في أسس تشغيل السكة الحديد، وتقرر أن تُدار وفقاً لرؤى جديدة، في ضوء المتغيرات الاقتصادية العالمية. وأطلقت يد الهيئة لتقوم بأداء أدوارها الموكلة إليها بكفاءة وفقاً لحسابات التكلفة، وتحقيق عوائد هامشية تمكنها من الاستمرار في سوق النقل وتساعدها في ترقية وتطوير خدماتها.
تتمتع هيئة سكك حديد السودان بعضوية الاتحاد العالمي للسكك الحديدية (UIC)، كما أنها من الأعضاء المؤسسين لاتحاد سكك حديد أفريقيا (UAR). كما لديها روابط جيدة مع الشبكات الحديدية العالمية، وتربطها بروتوكولات تعاون مع العديد منها.
} خطة إسعافية
مدير عام هيئة سكك حديد السودان مهندس “مكاوي محمد عوض”، أكد أن نهضة السكة الحديد لا تتأتى إلا عن طريق مصادر خارجية، واستقطاب قروض، وتحديث أسطولها الناقل والساحب لكي تستطيع مواكبة التطور العالمي، لأن صناعة السكة الحديد مكلفة جداً. وكشف الرجل عن خطته في التأهيل التي تتمثل في ثلاث مراحل، مرحلة إسعافية تشمل تأهيل الخطوط الموجودة وتأهيل القوى الساحبة والناقلة، إضافة إلى تدريب الكوادر وإعادة الهيكلة، وتحتاج هذه المرحلة إلى ثلاث سنوات.. أما المرحلة الثانية أو الإنعاشية، فيقول “مكاوي” إنها تشمل بناء خطوط جديدة بالاتساع القياسي، بحيث تزيد مساهمة السكة الحديد في النقل، وتحتاج إلى خمسة أعوام.. ومن بعد ذلك تأتي الخطة التوسعية والأخيرة التي تستمر إلى العام 2026م، وهي مرحلة لربط المدن التي ليست لديها سكة حديد بدول الجوار، وأضاف: التأهيل يتطلب التمويل والتدريب لجيل جديد. وعن توظيف علاقاته بدولة الصين للتأهيل قال “مكاوي”: (أنا معجب بنهضة الصين التي كان لها الدور الكبير في نهضة الكهرباء).
} مليارات الدولارات
أكد “مكاوي” أنه يوظف علاقاته معها لكي ينهض مرة أخرى بالسكة الحديد، والدليل على ذلك إنشاء مصنع الفلنكات الخراسانية بواسطة شركة صينية، وقال: الآن تبذل الشركات الأخرى جهداً في صيانة واستجلاب وحدات ناقلة وساحبة من الصين. وتعمد “مكاوي” عدم الكشف عن التكلفة الكاملة لإعادة تأهيل السكة الحديد، ولا المبلغ الذي دعمتهم به وزارة المالية، واكتفى بقوله لـ(المجهر): ليس لديّ رقم خاص، كل ما يمكن قوله هو أن التأهيل يحتاج إلى مليارات الدولارات، وإذا عادت السكة الحديد يمكن للدولة أن تسترجع ما دفعته. وكشف عن توقيع اتفاقية لتأهيل خط عطبرة- بورتسودان، وخط نيالا- أبو جابرة، وقال: انتهينا من تأهيل خط بابنوسة- أبو جابرة، وبدأنا تأهيل خط عطبرة- الخرطوم.
} تدهور سياسي
وفي ذات السياق، أرجع “مكاوي” أسباب تدهور السكة الحديد إلى عدة عوامل فنية وإدارية، وقال: يدخل الحصار الأمريكي ضمن عوامل التدهور، لكن العامل السياسي يلعب الدور الأكبر، إذ إن نقابة السكة الحديد كانت من أقوى النقابات، وحدوث أي إضراب داخلها يعمل على هزّ كيان الدولة التي أصبحت تبحث عن بدائل لهزّ كيان هذه النقابة، وكان البديل الطرق البرية والشاحنات، وأصبحت الدولة تشتت مواردها بإنشاء الطرق البرية، وبعد أن كانت السكة الحديد هي الناقل الأول وجدت الإهمال وبدأ التدهور، وأصبحت غير مؤهلة وغير مواكبة لتقنيات العصر، إلى أن تآكلت البنية التحتية وتآكلت البنى الناقلة والساحبة. وختم مكاوي بقوله: سوف نبدأ بآخر ما توصلت إليه السكة الحديد من تقنيات.
} خبير اقتصادي
“بابكر محمد التوم” رئيس اللجنة الاقتصادية السابق بالبرلمان والخبير الاقتصادي أشار في إفادته لـ(المجهر) إلى الاستفادة من علاقات السودان الإقليمية والدولية من أجل تطوير ونهضة السكة الحديد، لكي ينتعش الاقتصاد السوداني مرة أخرى باعتبارها الناقل الأرخص، موضحاً أن إعادة التأهيل تحتاج إلى إستراتيجية وخطة معينة بالاتفاق مع إحدى الدول أو الشركات المنتجة للقاطرات والسيارات، وقال: (بدون عون خارجي وتعاون وشراكة ذكية مع منتجي العربات والقاطرات ودولة راعية لن تقوم للسكة الحديد قائمة)، وزاد: السكة الحديد تحتاج إلى موارد ضخمة وخبرة دولة ناجحة في هذا المجال، مثل الهند والصين، وعزا انهيار السكة الحديد إلى إهمالها من قبل الدولة في الوقت الذي كانت فيه الناقل الرئيس لصادراتنا ووارداتنا، وألمح إلى أن الحصار الأمريكي ضمن أسباب التدهور، ولكنه ليس السبب الأساسي- على حد قوله.
} لجنة النقل
من جهته، ناشد رئيس لجنة الطرق والاتصالات والأراضي بالمجلس الوطني “أوشيك محمد أحمد” وزارة المالية عبر (المجهر) الوقوف إلى جانب الخطط المطروحة من أجل إعادة تأهيل السكة الحديد ومدها بالمال الكافي لكي يتسنى لها الوقوف مرة أخرى على أقدامها، مشيداً بالجهود المبذولة من قبل المهندس “مكاوي” ومن معه، وقال: باعتبارنا جهة رقابية سجلنا زيارة إلى مدينة عطبرة، ووقفنا على عمل الورش التي تم استجلابها، فوجدناها ورشاً حديثة تعمل بمعدلات عالية، وعد “أوشيك” (الفلنكات الأسمنتية) إضافة حقيقية للسكة الحديد، بالإضافة إلى الطريق المزدوج، الذي يبدأ من بورتسودان إلى الخرطوم، وقد أُعدت دراسته وفي انتظار التمويل، مشيراً إلى أن العمل يسير على قدم وساق من أجل إعادة التأهيل.