(المجهر) تقلب أوراق العمر مع البروفيسور "عبد الله أحمد عبد الله" رئيس مفوضية الانتخابات
بروفيسور “عبد الله أحمد عبد الله” يعدّ من الخبراء القلائل في المجال الزراعي، وهو من أبكار المزارعين في السودان، يمتاز بعمق التفكير ورجاحة العقل وسعة الأفق، هادئ الطباع، بسيط في حياته رغم تقلده العديد من المناصب إبان الحكم المايوي، فقد كان مديراً لجامعة الخرطوم، ووزيراً للزراعة، وحاكماً للإقليم الشمالي مكلفاً ومعيناً ومنتخباً، لم تشغله السياسة كثيراً بقدر ما كان يهتم بعمله الأكاديمي في جامعة الخرطوم، كما شغل منصب نائب رئيس المفوضية القومية للانتخابات، ثم حل رئيساً لها بعد انفصال الجنوب وذهاب مولانا “أبيل ألير” إلى الجنوب.
حاولنا أن نقلب معه أوراق العمر منذ المولد والنشـأة والدراسة وعلاقته بالرئيس “نميري”.. كيف اختير وزيراً للزراعة؟ ثم كيف تم اختياره حاكماً للإقليم الشمالي؟ وكيف أصبح مديراً لجامعة الخرطوم؟.. نترك القارئ ليطلع على الجزء الأول من هذا الحوار الذي امتد لأكثر من ساعتين ونصف الساعة.. وسألناه في بداية الحوار:
{ من أنت؟
– “عبد الله أحمد عبد الله عبد القادر”.. من مواليد جزيرة (مقرات) بالقرب من مدينة (أبو حمد) في ديار الرباطاب، فيها ميلادي وفيها كانت نشأتي الأولى.. جئت من والد كان يكسب من عرق جبينه وعمل يده، يسافر ويعود بما يكسب، يقضي معنا إجازته، “شهر أو شهران” ومن ثم يعود إلى مكان عمله.
{ في أي المهن كان يعمل الوالد؟
– كان مقاولاً صغيراً.
{ والوالدة؟
– والدتي “النعمة بت عبد القادر”، صلتها بوالدي هو يعدّ عمها ابن عم أبيها.
{ وأين كانت بدايات دراستك؟
– درست المرحلة الأولية بمدرسة (مقرات الأولية)، ووقتها كان السلم التعليمي مقسماً (أربع سنوات) لكل مرحلة، بمعنى أن المرحلة الأولية أربع سنوات، والوسطى أربع سنوات، والثانوي أربع.
مدرسة (مقرات) كانت أولى المدارس التي أنشئت بمنطقتنا، وقام بإنشائها راعي تعليم البنات آنذاك “بابكر بدري”، حيث حرص على قيام المدرسة بديار أهله بالرباطاب، ولما رفض أهالي المنطقة قيام المدرسة وافق أهلنا بالسنجراب على قيامها بمنطقتهم.
{ وما هو سبب الرفض؟
– الأهالي كانوا يعتقدون أن قيام مدرسة كأنما هو عمل كنسي أو نصراني، وعندما أنشئت بمنطقتنا كان يطلق عليها (كنيسة السنجراب)، ظناً منهم أن كل من يلتحق بالمدرسة سيُنصّر.
{ هل تذكر بعضاً من زملاء الدراسة بها؟
– أذكر “بابكر النافع” وكان من الضباط الإداريين، تولى منصب مساعد محافظ الخرطوم، والمرحوم “تاج السر الطيب”، عمل بالنشر وأسس مطبعة (دينا)، والمرحوم “الأمين مصطفى”، و”سليمان محمد أحمد”.
{ كيف كان نظام المدرسة؟
– المدرسة كانت بها داخلية تحتضن كل التلاميذ الذين يأتون إليها من منطقة الرباطاب، أما التلاميذ الذين يسكنون بالقرب منها فهؤلاء يعدّون من تلاميذ الخارج.
{ بعد أن أكملت الأولية إلى أين انتقلت بعد ذلك؟
– وقتها كانت هناك مدرستان للمرحلة الوسطى، (بربر الوسطى) و(عطبرة الوسطى)، أنا التحقت بمدرسة (عطبرة الأميرية الوسطى).
{ والسبب؟
– كان عمي يعمل خراطاً بالسكة الحديد عطبرة، لذلك اخترت الدراسة بمدرسة عطبرة.
{ كم كان ترتيبك في الامتحان؟
– الامتحان كان قومياً، وكان عدد الجالسين لامتحان المرحلة الأولية (أربعمائة وخمسين) طالباً، وقد حصلت على المركز الرابع من بين الـ(أربعمائة وخمسين)، وأذكر أننا (عشرة) طلاب امتحنا من مدرسة (مقرات الأولية)، (ستة) منا كانوا ضمن الـ(40) الأوائل، و(عطبرة الوسطى) كانت تقبل (أربعين) طالباً فقط من جملة الممتحنين الـ(أربعمائة وخمسين).
{ كيف كانت (عطبرة) وما مدى تأثيرها عليك؟
– (عطبرة) كانت مدينة عمالية اشتهرت بالكفاح العمالي، وكان لها أثر كبير في نفوسنا خاصة ونحن طلبة بالمرحلة الوسطى، وكان عمي الذي أقطن معه بالمنزل من قادة العمال، ورغم تعليمه الأولي لكنه كان محباً للقراءة والاطلاع، كان يسعى إلى تثقيف نفسه فأتاح لي فرصة الاطلاع على مجلة (الرسالة) التي كان مشتركاً فيها، وشهدنا وقتها أول إضراب شهير يقوم به العمال بـ(عطبرة)، كما شاركنا في التظاهرات ضد الجمعية التشريعية.
{ هل كان لك انتماء سياسي؟
– أبداً، بل كنا نشجع حركة التحرير.
{ ما الذي لفت نظرك في (عطبرة)؟
– (عطبرة) كانت بالنسبة لنا نقلة كبيرة نحن أبناء القرية، فشاهدنا لأول مرة العجلات، وأول مرة نشاهد (الباسطة) ونأكلها، إذ إن أكلنا في القرية كان يعتمد على (الكِسرة) و(القراصة). ولفت نظري أيضاً الفول المصري، فقد كان هناك عدد من (اليمانية) يجيدون صناعته.
{ والمرحلة الثانية بعد (عطبرة)؟
– امتحنت للمرحلة الثانوية، ووقتها الامتحان كان أيضا قومياً فدخلت (وادي سيدنا الثانوية)، امتحنا من (عطبرة الوسطى) أربعين طالباً، تم قبول (ثمانية وعشرين) طالباً منا بـ(وادي سيدنا) وهذا يدل على تفوق مدرسة (عطبرة الوسطى).
{ تذكر كم كان ترتيبك بين الناجحين؟
– كنت (الثاني عشر) على مستوى السودان.
{ هل تذكر بعضاً من الزملاء في تلك المرحلة؟
– أذكر المرحوم “عبد العظيم الحسن” طبيب العيون، والدكتور “أبو القاسم سعد” الطبيب النفسي، و”عثمان عبد الرحيم جميل” و”هاشم سوركتي” و”يحيى عطا”..
{ هل تذكر بعض الأساتذة؟
– في (عطبرة الوسطى) أذكر الأستاذ “حسين حمد” أستاذ اللغة الإنجليزية والرياضيات، والأستاذ “محمد محيي الدين، أستاذ اللغة الإنجليزية والشيخ “أبو زيد محمد الأمين الجعلي” من أهالي كدباس كان يدرسنا اللغة العربية والدين، وكان يعدّنا من تلاميذه المفضلين نظراً لتميزنا.
{ وأنت قادم من (عطبرة) إلى (العاصمة) ما الذي لفت انتباهك؟
– اذكر عندما وصلنا إلى محطة السكة الحديد بـ(بحري)، نقلتنا حافلات كبيرة إلى مدينة (أم درمان) وفي محطة (مكي) بأم درمان لفت نظري (الطرماج)، تعجبنا كيف يأتي القطار إلى (أم درمان). ومعروف أن القطار يصل (بحري) ومنها إلى (الخرطوم)، ولكن بعض الزملاء الذين سبق أن زاروا (أم درمان) أخبرونا أن الذي نراه ليس قطاراً وإنما (طرماج).
من (أم درمان) اتجهنا صوب (وادي سيدنا الثانوية) وقتها (أم درمان) معظمها كان فضاءً عدا بعض القرى الصغيرة التي صادفتنا ونحن في طريقنا إلى (وادي سيدنا).. عند وصولنا المدرسة استقبلنا بواسطة رؤساء الداخليات الخمسة، (وادي سيدنا) كانت بها خمس داخليات تسمى بالأسماء الإنجليزية، واختيار الطلاب للداخليات كان برغبة الطالب، بمعنى أن يسكن الطلبة في كل داخلية حسب معرفتهم ببعضهم البعض، فكانت الداخليات تميزها المناطق، أولاد الشمالية يسكنون بداخلية (أبو قرجة)، وأولاد الخرطوم بداخلية (كتشنر)، وأولاد بحري (كري)، وأولاد أم درمان يسكنون بداخلية (استاك)، لكن هذا التوزيع جعل هناك عصبيات، لذلك عندما جئنا صار الاختيار بواسطة رؤساء الداخليات وليس حراً، فتحولت الأسماء الإنجليزية إلى العربية، فداخلية (نيوبولد) أصبحت (أبو قرجة)، و(كتشنر) أصبحت (المختار)، و(استاك) أصبحت (جماع)، و(كري) أصبحت (ود البدري) و(ونجت) أصبحت (عبد الرحمن الداخل).
{ وفي أي الداخليات سكنت؟
– سكنت بداخلية (عبد الرحمن الداخل).. وكان لكل داخلية أربعة رؤساء، رئيس أول وثلاثة مساعدين يتم انتخابهم بواسطة الطلاب.
{ هل انتُخبت رئيساً للداخلية؟
– انتُخبت رئيساً لداخلية (الداخل)، وحصلت على كل أصوات الطلاب البالغ عددهم (104) أصوات.
{ ما الذي ميزك؟
– وقتها بدأت تظهر التنظيمات السياسية مثل الشيوعيين والإخوان، إلا أنني كنت أميل للوسط، وهذا ما جعلني أحصل على كل أصوات الطلبة.
{ هل كانت لك هوايات؟
– وأنا طالب بالسنة الأولى لم اكتشف أنني سبّاح ماهر، ففي الفترة الصباحية ونحن بالمدرسة كان لابد من ممارسة أي نوع من أنواع الرياضة، وفي حوض السباحة وقف “محمد إبراهيم أبو سليم” وبعض الزملاء على حافته للقفز إلى داخله بحكم ممارستهم للسباحة، فوقفت إلى جانبهم وعندما قفزوا قفزت ووصلت إلى نهاية الحوض قبلهم. “محمد إبراهيم أبو سليم” قال لي: أنت قفزت من النص، قلت ليه: خلاص نمشي (نتعاوم)، بمعنى (منو البعوم أحسن من الثاني)، وبالفعل أعدناه وسبقته وجئت الأول، ورغم ذلك “أبو سليم” كان مبسوط لأنني كنت من داخليته، وهذا يعني أن الداخلية ستحرز سنوياً كأس المنافسة في السباحة.
{ وهل كنت تحصل على الكأس فعلاً؟
– بعد أن تخرج “أبو سليم” حللت محله، وكنت دائماً أحرز كأس السباحة لداخلية (الداخل) إلى أن تخرجت.
{ وفي الجانب السياسي؟
– لم أتحزب، لكن كنت ضمن طلاب مؤتمر الطلبة الذي كان يُرمز له بـ(م.ط) وهو يعمل على تجمع طلاب الوسطى غير المقيدين بتنظيمات أخرى، وكان أثر الشيوعيين على (م.ط) أكبر، ولكن ليس كل طالب في مؤتمر الطلبة شيوعياً، فالطلبة الشيوعيون كانوا يعرفون بعضهم البعض دون أن يعرفهم أحد.
{ هل تذكر بعضاً من الأسماء؟
– كان فيها “عيسى حسين عيسى”، و”عثمان سيد أحمد” تركهم فيما بعد، و”عثمان عبد الرحيم جميل”، و”فاروق محمد إبراهيم”.
{ هل كان لك أي نوع من التعاطف معهم؟
– أبداً، فأنا نشأتي كانت دينية، لذلك كنت مقبولاً لدى الطرفين، وظهر هذا عند انتخابي رئيساً لداخلية (الداخل).
{ ودخولك إلى الجامعة؟
– امتحنا لـ(كامبردج) والامتحان كان يأتي من لندن، وهو الذي يؤهل للالتحاق بجامعة الخرطوم، وقتها الامتحان كانت شهر (ديسمبر) وتظهر النتيجة في (يناير)، لكن هذا النظام تعدّل، قبول الالتحاق بالجامعة أصبح في (يوليو) بدلاً عن (يناير).
{ ما هو السبب؟
– السبب أن السنة المالية تعدلت من (يناير) إلى (يوليو).
{ وماذا فعلت؟
– وقتها والدي كان قد توفي، فرأيت أن استفيد من فترة الستة أشهر، فذهبت إلى ناظر المدرسة “عوض ساتي” وطلبت منه إيجاد وظيفة مؤقتة في سلك التعليم إلى حين افتتاح الجامعة، إذ إنني لا استطيع أن أكون عاطلاً لستة أشهر بعد أن فقدت والدي. وافق على ذلك، وبعد أن رجعت إلى الداخلية وجدت الزميلين “عبد العظيم الحسن” و”حسن هارون” فأخبرتهما أنني طلبت من الناظر البحث لي عن وظيفة إلى حين افتتاح الجامعة، وطلبي هذا شجعهما، فذهبا إلى الناظر لضمهما معي إن كانت هناك وظائف مؤقتة.. وعندما ذهب الناظر “عوض ساتي” إلى (الخرطوم) وجد أن هناك ثلاث وظائف لمعلمين بالمدارس الوسطى، وعند عودته جمعنا الثلاثة وأخبرنا أنه وجد ثلاث وظائف لمعلمين في كل من (الخرطوم) و(بحري) و(بورتسودان)، والخيار الأول كان للعبد لله، فاخترت (بورتسودان) ولم يتوقع مني ذلك.
{ ولماذا احترت (بورتسودان)؟
– لأنني كنت أعرف أن “حسن هارون” أهله من (الخرطوم) و”عبد العظيم” له خال في (بحري)، وأنا لديّ أقارب بـ(بورتسودان)، فإذا عملت بـ(الخرطوم) سأسكن (عزابي)، وأفضل أن أسكن (عزابي) في (بورتسودان)، ومن حسن حظي أن مدارس (الخرطوم) أغلقت بعد ثلاثة أشهر، فيما تمتعت بالستة أشهر بـ(بورتسودان).
{ وكيف ذهبت إلى (بورتسودان)؟
– كان لي عم في (كسلا) ذهبت إليه قبل أن أذهب إلى (بورتسودان)، وأذكر أنه اشترى لي (عنقريب ولحاف) وشحنهما معي في القطار، وأذكر وأنا في القطار وجدت مجموعة من الطلبة سألت عنهم وعرفت أنهم طلبة مدرسة (بورتسودان الوسطى)، وهي نفس المدرسة التي عُينت لأكون معلماً بها. الطلبة لم ينتبهوا لي، لكني لاحظت كل شقاوتهم داخل القطار وعندما وصلنا (بورتسودان) تفاجأ أحدهم عندما رآني بالفصل فبدأ يبحلق فيّ فسألته من اسمه فقال لي: “أبو آمنة حامد”. فقلت: (يا أبو آمنة أنا كنت راكب في القطر بالدرجة الثالثة من كسلا إلى بورتسودان)، وقتها كنت أدرسهم (العربي)، وفي مادة الإنشاء لفت نظري “أبو آمنة” في الموضوع الذي كتبه، فتنبأت له بمستقبل باهر وبالفعل صار شاعراً مرموقاً.
{ ومن الطلاب الآخرين الذين لفتوا نظرك؟
– الطالب “محمد عثمان حامد كرار” الذي أُعدم ضمن المجموعة الانقلابية في بداية الإنقاذ، أذكر أن هذا الطالب فجأة اختفى من المدرسة، سألت عنه قالوا لي ترك المدرسة، سألت عن السبب، لم أجد الإجابة، سألت عن مكان سكنه قالوا لي في ديم عرب، والده كان ناظر البشاريين، اصطحبت تلميذاً ومشينا ليه وقابلته، سألته عن سبب تركه الدراسة فقال لي: يا أفندي اشتهيت الجمال، أقنعته فعاد معي وكان من الطلبة المبرزين، والتحق بـ(حنتوب الثانوية) ومن ثم أصبح طياراً ماهراً، ثم أصبح حاكماً لـ(كسلا)، ولم تنقطع صلتي به، وكان عندما يريد الذهاب إلى (كسلا) يأتيني باكراً ويشرب معي شاي الصباح ثم يسافر.
{ كم كنت تتقاضى مرتباً؟
– اثني عشر جنيهاً.
{ وماذا فعلت بها؟
– في بورتسودان كان هناك ترزي يطلق عليه (ترزي المقص) فصّلت عدداً من الأردية والقمصان، وكنت أرسل مصاريف لأهلي، وخلال الستة أشهر التي عملت بها وفرت (قروش كويسة) لأن ناظر المدرسة كان قد طلب مني أن أكون ضابطاً للداخلية، حاولت أن أتحجج بصغر سني لكنه أصرّ، فقبلت العمل لكن بشرط أن أتناول وجباتي الغذائية مجاناً، قال لي: لكن إذا جاء المفتش؟ قلت له: سوف آكل من بره وهو يوم واحد، فوافق على ذلك، وكنت أتناول وجباتي الثلاث مجاناً، وهذا أتاح لي أن أوفر (مبلغ كويس) من المال.