رأي

بعد.. ومسافة

لماذا لم يتحد السودان مع مصر..؟
مصطفى أبو العزائم
 
عندما اتفقت حكومة الثورة المصرية ممثلة في اللواء “محمد نجيب” مع الحكومة البريطانية على منح السودان الحكم الذاتي وتم التوقيع على ذلك في الثاني عشر من فبراير 1953م، بالقاهرة، كانت الحكومة البريطانية ممثلة في سفير بريطانيا بمصر “السير رالف ستفينسون” وقد نصت تلك الاتفاقية على تمكين الشعب السوداني من تقرير مصيره، وفي ممارسته له ممارسة فعلية في الوقت المناسب وبالضمانات اللازمة والكافية، وهي اتفاقية قامت على (15) مادة تنظم شكل تنفيذ محتوى الاتفاقية، وتعطي الجمعية التأسيسية المنتخبة في السودان الحق في اختيار الاستقلال التام، أو ارتباط السودان بمصر على أية صورة، مع تعهد الحكومتين المصرية والبريطانية باحترام الجمعية التأسيسية فيما يتعلق بمستقبل السودان.
لم نعش تلك الفترة كما لم يعشها كثيرون من الجيل الذي ولد بعد الاستقلال في أول يناير عام 1956م، لكننا عشنا وعايشنا، واقتربنا وسألنا من عايشوا تلك الفترة، وبعض الذين أسهموا في صناعة أحداثها، بحكم المهنة والبحث عن الحقائق، وخرجنا بنتائج لا تختلف كثيراً عن النتائج التي خرج بها الساسة والباحثون في تاريخ السودان المعاصر، أهمها باختصار شديد، هو أن الصحافة السودانية لعبت دوراً مهماً ورئيسياً في تحويل وجهة الزعيم الراحل “إسماعيل الأزهري” ووجهة الحزب الوطني الاتحادي من الاتحاد مع مصر إلى الاستقلال، وقد قاد تلك الحملة الصحفية المؤثرة أحد آباء الصحافة السودانية الحديثة، وهو الراحل المقيم الأستاذ “بشير محمد سعيد”.
كثير من الساسة يبترون قصة الاستقلال بالمقترح من داخل البرلمان وتثنية النائب “عبد الرحمن دبكة” له من داخل البرلمان في التاسع عشر من ديسمبر عام 1955م،
تشرفت بأن شاهدت بعض صناع الاستقلال من آبائنا الكرام، واستمعت إلى قصص متفرقة لكنها لا تختلف كثيراً عن بعضها، لذلك رأيت أن نخاطب رئاسة البرلمان السوداني الحالي – المجلس الوطني – والمجلس التشريعي لولاية الخرطوم، الذي تم إعلان الاستقلال من داخله، خاصة وأن موعد الاحتفال بذكرى الاستقلال قد اقتربت، بحيث لا نقصر الاحتفال على تلك الرواية المحفوظة، إذ أن ما حدث يوم تقديم اقتراح الاستقلال سبقته خطوات وخطوات، من بينها ما طالب به أستاذنا الجليل الراحل “بشير محمد سعيد” من خلال صحيفة (الأيام) التي أحدثت تغييراً كبيراً وثورة عظيمة في تاريخ الصحافة السودانية من حيث الحداثة والتطور والطباعة، ثم كان هناك رجال آخرون لعبوا أدواراً مهمة أسهمت في أن ينال السودان استقلاله دون (شق أو طق).. أو كما قال الزعيم الراحل “إسماعيل الأزهري” وذلك النفر يجب أن يتم تكريمه والاحتفاء بما قدموه لأبنائهم.
روى لنا السيد الوالد الأستاذ “محمود أبو العزائم” – رحمه الله – أنه عندما اقترب موعد الاستفتاء على الاستقلال أو الاتحاد مع مصر، اجتمع النواب المغفور لهم بإذن الله “حسن محمد زكي” و”الوسيلة الشيخ السماني” و”محمد كرار كجر” وأخذوا يتداولون في أمر الاتحاد مع مصر، وانتهوا إلى أن ليس من حقهم أن يقرروا مصير السودان بالنيابة عن الأجيال القادمة، وعليهم أولاً الحصول على الاستقلال ليقرر السودانيون بعد ذلك الاتحاد مع مصر أو غير ذلك، وبدأوا نشاطهم وسط أعضاء الهيئة البرلمانية فكسبوا شخصاً نشطاً ومؤثراً هو الأستاذ الراحل “محمد جبارة العوض” وقد بدأت اتصالاتهم السرية جداً مع بعض زملائهم نواب الحزب الوطني الاتحادي، وقد سمح لهم البروفيسور “محمد عبد الله نور” – رحمه الله – عميد كلية الزراعة بجامعة الخرطوم بعقد اجتماعاتهم بالكلية أو منزله – لا أذكر – وقد سمح بذلك المرحومان الأستاذ “مبارك زروق” الذي شجعهم على المضي في طريقهم ذاك، والأستاذ “يحيى الفضلي” الذي فعل ما فعله “زروق” وسمع بالأمر الأستاذ “بشير محمد سعيد” الذي التقط الفكرة وتبنى الدعوة من خلال بابه الأشهر في تاريخ الصحافة السودانية (متنوعات أخبار وأفكار)، لينتهي الأمر عند المجتمعين بتحرير مذكرة إلى رئيس الحزب – الزعيم “الأزهري” – يدعونه فيها إلى تغيير موقفه، وسلموه المذكرة، إلا أن الزعيم احتفظ بالمذكرة دون أن يرد عليهم، فاتبعوها بثانية طالبوا من خلالها بدعوة الهيئة البرلمانية للحزب لتقرر بشأن مصير السودان (استقلال أم وحدة مع مصر) وتأثر الشارع بمقالات الأستاذ “بشير محمد سعيد”، فكانت الجماهير تذهب جماعات ووحدانا إلى منزل الزعيم “الأزهري” تحمل ذات الطلب حتى أصدر رئيس الحزب قراراً بأن هذا الشأن تملكه جماهير الحزب في السودان، ورأى أن يقوم بجولة يطوف فيها أرجاء البلاد، وقد جاء تفويض من جماهير الحزب بدعوة الهيئة البرلمانية، وقد تبين أن الجماهير أرادت الاستقلال، فكان ذلك مقدمة لأخطر خطاب لـ”الأزهري” من داخل البرلمان وهو رئيس للوزراء عندما قال في معرض رده على مسألتين مستعجلتين إحداهما لنائب جنوبي والأخرى لنائب حزب الأمة “يعقوب حامد بابكر” – رحمه الله – جاء في الأولى تساؤل حول اتفاق سري تم بين الحكومة وجهات أجنبية لإنشاء قواعد في السودان، وقالت الثانية إن طائرات أجنبية تحلق في أجواء السودان بتصريح من الحكومة، فكان رد “الأزهري” بأنه لا يعلم شيئاً عما قال به النائبان وأنه ليس حقيقياً إلى أن قال إن حكومتي مهمتها تنفيذ اتفاقية السودان عام 1953م، أن تسودن وظائف البريطانيين وأن تحقق الجلاء فتمت السودنة بحمد الله، وتم الجلاء بحمد الله، وسوف أعلن الاستقلال من داخل هذه القاعة يوم (الاثنين) القادم… وقد كان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية