تقارير

هل بدأت الضغوط الأمريكية على السودان؟

“دونالد بوث” وإحياء مفاوضات السلام الفاشلة
الحركة الشعبية في دولة الجنوب وقصة موت معلن
حديث السبت
يوسف عبد المنان
 
هل انتهت الحركة الشعبية في الجنوب إلى التلاشي والاندثار في ثياب الجيش الشعبي وأصبحت شيئاً من الماضي و(منديل) ورق استخدمه العسكر لمرحلة ورمى به “سلفاكير” في سلة المهملات!! وقد تفرق شمل الحركة الشعبية وذهبت ريحها.. وضعفت وأصبحت كائناً خرافياً.. وتلك ثمرة لنظرية قديمة عرفت بنظرية تحالف (العميان والكسيح)، ويقال والعهدة على النظرية: إن العسكريين يتحالفون مع الأحزاب من أجل الوصول إلى السلطة.. فالأحزاب الكسيحة القعيدة التي لا تملك رصيداً في بنك الجماهير يؤهلها لبلوغ غايتها تتخذ من العسكريين سلماً للصعود.. باتفاق غير مكتوب يقضي بأن تحمل المؤسسات العسكرية الأحزاب الكسيحة على ظهرها.. لتبصر المؤسسة العسكرية بعيون الأحزاب الكسيحة.. وعند المسير قليلاً يعتقد العسكريون بأنهم قد أبصروا الطريق وبالتالي لا حاجة لهم بحزب يثقل عليهم الحمل فيرمون بالحزب في قارعة الطريق.. ويسقط على الأرض باكياً شاكياً يندب حظه العاثر، بينما يمضي العسكريون يمتعون أنفسهم بسلطة مطلقة بلا رقابة.. وهذا ما حدث في كل البلدان التي تحالفت فيها الأحزاب العقائدية مع العسكريين الانقلابيين، وبعد مقتل “جون قرنق” بدأت تصفية الحركة الشعبية الجناح السياسي للدولة.. واستطاع العسكر إحكام قبضتهم على الحكم في جوبا.. واختار “سلفاكير ميارديت” تقريب (الراد يكاليين) الجنوبيين قبل أن يصبح حكمه عبارة عن (عصبة) لقبيلة الدينكا تفعل بالجنوب ما تشاء لها.. ووضع “سلفاكير” الحركة الشعبية في ثلاجة كبيرة للقضاء عليها.. قبل أن يضع قادتها في السجون.. وإفراغ محتواها من القيادات الذين يؤمنون بنظرية “جون قرنق” التي هي مزيج من اشتراكية “باتريس لوممبا”.. والاشتراكية الأفريقية “لكوامي نكروما” والثورية العرقية لـ”جوليوس نايريري” الذي على يده تمت تصفية الوجود العربي الإسلامي ببطش في تنزانيا.. حتى قال “نايريري” في أحد خطبه الحماسية: إن الوجود الأجنبي في تنزانيا وروسيا الجنوبية سيان، و”جون قرنق” مزيج بين الاشتراكية الأفريقية ونظرية صراع الهامش والمركز، و(اختط) لحركته أدبيات في سياق وطن كبير به اختلالات جوهرية في تركيبة السلطة وتوزيع الثروة.. بيد أن الجنوب مركزه هو سلطة قبيلة “جون قرنق” نفسه، وبالتالي أي حديث عن صراع بين الهامش والمركز يهدد وجود الحركة الشعبية نفسها بعد أن أصبحت مركزاً في الدولة الجديدة.. في هذا المناخ يرحل “جون قرنق” ويترك الجنوب في (السهلة) كما قال الرئيس “البشير” يوم انفضاض تحالفه مع الإسلاميين بقيادة “الترابي”، فقال: أصبحنا في (السهلة) تعبيراً صادقاً عن وصف الحال.. لكن “البشير” كان ذكياً جداً هو يحتضن كل تلاميذ “الترابي” وشيوخ الحركة الإسلامية ويجعلهم بالقرب منه لخوض معركته مع زعيم الحركة حتى انتصر عليه وورث التنظيم والحزب.. لكن ضابط المظلات “سلفاكير ميارديت”.. فشل في استمالة حتى ابن عمه “نيال دينق نيال” ليقف معه.. عوضاً عن وضعه لأبناء “قرنق” في السجون، ولولا روابط الدم والخوف من غضبة الدينكا لوضع “ربيكا قرنق” في السجن حالها حال “باقان أموم” الذي تم طرده – الآن – من الجنوب وبات لاجئاً في الولايات المتحدة الأمريكية وناشطاً في منظمات المجتمع المدني يقود المظاهرات الداعية لفرض عقوبات على الجنوب ووضع بلاده تحت الوصاية الدولية، وبالقرب من “باقان أموم”. أصبح د.”لوكا بيونق” الذي كان كاتماً لأسرار “جون قرنق” ومديراً لمكتبه ، وقد أصبح لاجئاً سياسياً هناك.. بعد أن أمرت الحكومة جامعة جوبا بفصله وحرمانه من حق التدريس.. وهكذا دفن “سلفاكير ميارديت” الحركة الشعبية وقادتها.. وأصبح “دينق ألور” مطروداً من رحمة السلطان.. وفر “لام أكول أجاوين” أستاذ الهندسة حاد الذكاء ، لاجئاً في نيروبي يبحث عن طوق نجاة بعد أن حدثته نفسه بأن بقاءه في داخل وطنه يمثل خطراً على روحه.. وحتى حلفاء قيادات الشعبية من القادمين إليها بعد الانفصال من المؤتمر الوطني في الشمال أصبح الموت هو مصيرهم.. قتل في الأحداث الأخيرة “محمد شول الأحمر” السياسي الذي ظل وفياً للقوات المسلحة السودانية طوال سنوات الحرب.. قاتل إلى صفها من خلال حركة الأنانيا (2)، وقتل “حاتم شواي دينق”.. وأصبح الحكم في جوبا لعصبة الدينكا من أولي البأس والشدة والغلظة.. ولا حاجة لـ”سلفاكير” لحزب سياسي وهو الذي تربى في كنف المؤسسة العسكرية.. وقد استطاع بضربة سياسية شق صف خصومه من النوير بتعيين “تعبان دينق” نائباً أول له خلفاً لـ”رياك مشار”.. وهو مطمئن جداً له، لأن “تعبان” لا تتقمصه روح زعامة ولا طموحات كبيرة لحكم الجنوب مثل “رياك مشار”.. وقد أسدى “تعبان” خدمة كبيرة جداً لـ”سلفاكير” الذي يبحث عن شرعية وسط النوير.. وكانت الاختراقات التي أحدثها “تعبان” لها أثرها على “مشار” وقواته التي تعرضت لضربات موجعة.. حتى كادت أن تتلاشى.. وفي ذات الوقت فقد د.”مشار” حلفاء (مهمين) جداً في الجنوب مثل: (بيتر قديت) الذي يملك قوة عسكرية ضاربة في أعالي النيل.. وإذا كان “سلفاكير” قد وجه ضربة موجعة لـ”رياك مشار” الذي أخطأ التقدير حينما حارب “سلفا” في داخل جوبا.. وهو لا يملك بيده أدوات لحسم المعركة، وأخطأ التقدير -أيضاً- حينما عاد من الخارج دون ضمانات حقيقية.. والآن أصبح “سلفاكير” هو الحاكم الأوحد لجنوب السودان، لن تنازعه مجموعات مدنية برغم (أفضلية) الانتماء للحركة الشعبية، وقد حسم معركته مع خصومه النوير على الأقل في الوقت الراهن.. لأن “تعبان” دينق” الذي منح صلاحيات واسعة يستطيع فعل الكثير.. خاصة على الصعيد الخارجي، وما يتصل بالشأن السوداني الذي تعهد فيه “تعبان” بطرد الحركات المسلحة التي تمثل واحداً من أسباب تعثر خطى العلاقات وعدم استقرار الدولتين، ولكن الأنباء التي رشحت من الجنوب لا تبشر بخير، حيث تردد أن مجلس الدينكا قد رفض ما أعلنه “تعبان” هنا.. في الخرطوم، وإذا كانت حركات دارفور تقاتل إلى صف حكومة الجنوب خاصة في بحر الغزال وبصفة خاصة حركة العدل والمساواة، فإن “تعبان” إذا وجدت جهوده الدعم والسند من “سلفاكير” يمكن أن تحقق مقاصدها بطرد حركة العدل والمساواة.. إلا أن فك الارتباط بين الحركة الشعبية قطاع الشمال وحكومة الجنوب أمر في غاية التعقيد الشديد، لأن أبناء النوبة بصفة خاصة في الفرقتين التاسعة والعاشرة هم من يحمون ظهر “سلفاكير” اليوم، وإذا تخلى عنهم لوجد نفسه مكشوف الظهر، لأن عشيرته من الدينكا هم قادة عسكريون وقادة سياسيون، بينما المقاتلون في الميدان هم النوير والنوبة وبقية القبائل الجنوبية، لذلك من الصعب أن تتخلى (العصبة) العسكرية الحاكمة في الجنوب – الآن – عن أبناء النوبة لا حباً فيهم، ولكنها في حاجة لمن يقاتل نيابة عنها.. وقد دفعت جوبا ثمناً باهظاً لقتال القوات اليوغندية إلى صف “سلفاكير” خاصة معركة الدبابات التي حصدت الآلاف من الجيش الأبيض الذي جاء من مناطق (أيود وكنقر) لمساندة “رياك مشار” في معركته مع “سلفاكير”.
صحيح أن “رياك مشار” يحتاج لوقت وسند دولي لاستعادة وضعيته التي فقدها، وقد أعلن السودان -علناً- استقباله لـ”مشار ” لأسباب إنسانية، وفي ذلك تأكيد لدور السودان الفاعل والجوهري والرئيس في معالجة الأزمة بالجنوب.. إلا أن أزمة ذلك البلد (أعمق) بكثير من الصراع العسكري، وثمة أزمة سياسية خانقة بسبب غياب العقل السياسي وسيطرة استخبارات الجيش الشعبي على الجنوب.
المبعوث الأمريكي وإحياء الموتى
أخذ المبعوث الأمريكي “دونالد بوث” على عاتقه إعادة إحياء مسار التفاوض والحل السلمي من جديد بعد أن وصلت المفاوضات السابقة للطريق المسدود وفشلت محاولات إحداث اختراق في جدار الأزمة بالتوقيع على اتفاق لوقف العدائيات للتمهيد لاتفاق وقف إطلاق نار شامل قبل التسوية السياسية التي اتفق الجميع على أن مؤتمر الحوار الوطني بالخرطوم من يضع أسس وقواعد السلام القادم.. ولكن تبخرت كل تلك الأحلام وفشلت وعادت وفود التفاوض تلعن بعضها البعض.. وتبدد حلم الاستقرار ولاحت في الأفق بوادر حرب قادمة.. ولكن المبعوثين الأجانب توافدوا على الخرطوم مرة أخرى في الأسبوع الماضي، كانت زيارة مبعوث الأمم المتحدة “نيكولاس هيسيثم” الجنوب أفريقي البالغ من العمر نحو (70) سنة.. وقد أجرى مباحثات وصفت بالمهمة مع القيادات السودانية.. وقبل أن يعود إلى أديس أبابا التي يتخذها المبعوث الأممي مقراً لممارسة نشاطه.. وصل البلاد المبعوث الأمريكي للسودان “دونالد بوث” الذي استهل زيارته للبلاد بالنيل الأزرق التي عقد فيها لقاءات بالمسؤولين في الحكومة المحلية والمجتمعات التي تأثرت بالحرب، وشملت لقاءات المبعوث الأمريكي بعض أطراف المعارضة مثل: تحالف قوى المستقبل، ثم عقد يوم (الثلاثاء) الماضي مباحثات مع رئيس وفد التفاوض الحكومي المهندس “إبراهيم محمود حامد” الذي قال في تصريحات صحافية: إن الفصائل المسلحة هي المسؤول الأول عن فشل مفاوضات الجولة الماضية.. وأن حكومته مستعدة للتوقيع على اتفاق وقف العدائيات إذا كان الطرف الآخر يرغب في ذلك.. وقد أثمرت من قبل الضغوط الأمريكية على حمل متمردي حركات دارفور والحركة الشعبية -قطاع الشمال وحزب الأمة القومي على التوقيع على خارطة الطريق التي فتحت الباب الموارب لتسوية سياسية شاملة، إلا أن الفرقاء السودانيين فشلوا في التوافق على حلول الحد الأدنى، وهي وقف العدائيات في انتظار التفاوض حول قضايا شائكة جداً وطريق طويل ليس سهلاً عبوره في الوقت القريب.. والضغوط الأمريكية في القضية السودانية أثبتت فشلها الذريع سواءً أكان ذلك في مفاوضات نيفاشا أو مشاورات ما قبل توقيع المعارضة على اتفاق خارطة الطريق.. لأن السلام الذي يأتي بالضغوط لن يصمد كثيراً، وبدا واضحاً أن الضغوط أخذت تنهال على الحكومة من جهة الوسطاء الأجانب، وتنهال بذات القدر على الحركات المسلحة.. وما يصدر من أقوال عما يجري في غرف المشاورات الصامتة لا يعبِّر بدقة عما قيل.. ولكن المسافة بين الفرقاء بعيدة جداً.. وكل الجولات التي انتهت للفشل لم تبلغ نصف الطريق والقضايا الخلافية الحقيقية مسكوت عنها حتى اليوم،  وهي قضايا قسمة السلطة.. ووضعية قوات الحركة الشعبية والانتخابات الماضية أو القادمة . وكل طرف يضع  أسلحته في (دولاب) خاص.. وبعد (5) سنوات من التفاوض لم يتفق الطرفان على أية قضية وحتى اتفاق “نافع -عقار” كان مجرد إعلان مبادئ (إطاري) في داخله شياطين بعدد الحصى يمكنها نسفه والقضاء عليه.. وما يعرف بمسودة الاتفاق الإطاري المختلف حوله أكثر من المتفق عليه ، ولم يوقع عليها الطرفان حتى اليوم.. والقضايا الخلافية الحقيقية حول الحكم الذاتي الذي تطالب به الحركة الشعبية وترفضه الحكومة بزعم أن الحكم الذاتي هو الذي شجع الجنوبيين على الانفصال من خلال أنموذج 1972م، وترفض الحكومة من حيث المبدأ الحديث عن حكم ذاتي، وهي التي أخذت خطوات متتالية للتراجع عن الحكم الفيدرالي  الذي ورد في الدستور من خلال سلب الولايات حق الانتخابات والسيطرة على الولايات بالتعيين.. وتطالب الحركة الشعبية باستيعاب قواتها في الجيش القومي ولا يعرف عدد قوات الحركة الشعبية، وتسعى للاحتفاظ بتلك القوات طوال الفترة الانتقالية ، بزعم أن الاتفاقية يجب حراستها بقوة خاصة بالحركة.. ولكن الحكومة تضع أولى شروط السلام أن تسلم الحركة الشعبية أسلحتها فور الاتفاق على وقف إطلاق النار قبل تنفيذ الاتفاق السياسي، وتتعهد مقابل ذلك باستيعاب من هم أهل للانضمام للجيش،  وتسريح ما تبقى وفق سياسات مفوضية نزع السلاح والدمج القائمة الآن.. وترفض الحكومة أيِّ شراكة مركزية مع الحركة الشعبية، ولكنها لا تبدي ممانعة في شراكة مع الحركة الشعبية في (المنطقتين)، وقبيل المفاوضات الأخيرة قالت الحكومة على لسان عضو المفاوضات “الهادي عثمان أندو”: إن المؤتمر الوطني مستعد للتنازل عن حكم جنوب كردفان للحركة الشعبية إن رشحت أحد أبناء النوبة، وهي إشارة من “الهادي أندو” لرفضهم تعيين “عبد العزيز الحلو”.. وتبحث الحركة في ذات الوقت عن شراكة في الحكومة الاتحادية على غرار شراكة ما بعد نيفاشا.. وقبل ذلك فإن العقبة الكؤود التي حالت دون توقيع الاتفاق لوقف العدائيات هي وصول الإغاثة للمتضررين من الحرب.. والحركة تفترض أن هناك مواطنين في المناطق التي تسيطر عليها في حاجة لمعونات غذائية.. وحاولت استغلال تلك الحاجة بفتح مسارات للإغاثة من خلال دول أثيوبيا وكينيا وجنوب السودان، وتنازلت عن الأخيرة، ولكنها تمسكت بأن تأتي (20%) من المعونات الغذائية من أثيوبيا فقط، والحكومة ترفض دخول جوال واحد من الذرة عبر الحدود براً أو جواً.. وهي التي تذوَّقت مرارة اتفاق شريان الحياة الذي استغلته الحركة الشعبية (الأم) في السودان القديم لتشوين قواتها في الفترة من 89 وحتى 2005م، وكيف ساهم ذلك الاتفاق في إطالة أمد الحرب . والضغوط الأمريكية التي تنهال اليوم على المفاوضين في الفرقتين قد تحملها على توقيع اتفاقية دون قناعات حقيقية، ومثل هذه الاتفاقيات لن تصمد كثيراً في وجه العواصف والأنواء، وقد تم تجريب ذلك عام 2005م، وانتهت تلك الاتفاقية للفشل، والولايات المتحدة التي دفعت بالدبلوماسي “دونالد  بوث” تبحث هي الأخرى عن مصالحها وتجميل وجهها ومخاطبة الناخبين الأمريكيين المقبلين الصيف القادم على انتخابات رئاسية، وأي نجاح تحققه الإدارة الأمريكية الراهنة في ملف إيقاف الحرب في السودان أو جنوب السودان،  يدعم موقف المرشحة الأقوى “هيلاري كلنتون” التي هي في حاجة حقيقية لدعم الكتلة الأمريكية السوداء ، والتي تهتم كثيراً بقضايا الحرب والسلام في القارة الأفريقية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية