اغتيال الشهيد "بلندية" وصحبه .. دلالات الرسالة وواجبات المعنيين بها (2 – 2)
في الحلقة الأولى من هذا المقال أثبتنا بما ينفي أي قدر من الشك أن اغتيال الشهيد “إبراهيم محمد بلندية” وصحبه الكرام لم يكن عملاً معزولاً، بل إنفاذاً لسياسة منهجية ظلت الحركة الشعبية تتبعها بجبال النوبة منذ بداية عملياتها هناك عام 1985م. وقدمنا دليلاً على ذلك أمثلة تناهز العشرين من الاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي استهدفت الرموز السياسية والقيادات الأهلية والدعاة، وأوضحنا كذلك ارتباط سياسة الاغتيالات بأحد أهم الأهداف النهائية لمشروع الحركة الشعبية والجهات التي تقف خلفها في جبال النوبة، والمتمثل في إحداث تحول ثقافي وعقائدي جذري وسط أهل المنطقة، وتحديداً النوبة، على نحو يضعف ارتباطها بالسودان، وتسهيل بترها من جسد الوطن، وقدمنا على ذلك أدلة لا تقبل الدحض في ست نقاط؛ تشكل قوام سياسة التحول الثقافي والعقائدي في المنطقة في إطار مشروع تلعب فيه الحركة الشعبية دور مخلب القط من خلال حلقة ضيقة في قيادتها، وقلنا إن هذا الهدف بالنسبة للجهات التي تقف خلف الحركة الشعبية من الأهمية، بحيث تهون في سبيلها ويلات الحروب من قتل، وتدمير، وتشريد، وتصفية القيادات التي يمكن أن تشكل بمواقفها عائقاً أمام الهدف. وفي ختام الحلقة وعدنا بالإجابة في هذه الحلقة الثانية على السؤالين الأخيرين من جملة الأسئلة التي طرحناها في الحلقة الأولى؛ لتكتمل بذلك صورة التحدي الذي تشكله سياسة الحركة الشعبية في جبال النوبة، وكيفية الاستجابة لهذا التحدي من خلال واجبات الأطراف المعنية.
وأول السؤالين اللذين أرجأنا الإجابة عليهما لهذه الحلقة، هو كيف استطاعت قيادة الحركة الشعبية أن توظف النوبة للقتال والتضحية لأجندة الغير، وأكثر من ذلك استخدامهم في تصفية وقمع قياداتهم داخل وخارج الحركة؟!
الإجابة الوافية على هذا السؤال تتطلب تناول جملة من العوامل السياسية والنفسية والأخلاقية التي تضافرت لتفرز هذه الظاهرة الغريبة، ويأتي على رأس هذه العوامل جوهر مشروع الحركة الشعبية بمضمونه الفكري وأهدافه المرحلية والنهائية، ووسائل وأساليب العمل المعتمدة لتحقيق هذه الأهداف. ومعروف أن مشروع الحركة في بعده الفكري خليط مشوش من مفاهيم الشيوعية وتوجهات الأفريقانية؛ بهدف إقامة سودان إشتراكي علماني، كما يقول المانفستو؛ لإنهاء التهميش السياسي والاقتصادي والثقافي. بيد أن علمانية الحركة الشعبية لا تعني الحياد تجاه الأديان، كما يوحي ظاهر النص، بل في تقديرنا أن الحديث عن الحياد السياسي إزاء الأديان وهم كبير. فالحركة الشعبية بعلمانيتها حركة مسيحية في أساسها، باعتبار أن قاعدتها الأساسية هي الجنوب، وأن قيادتها العليا المتحكمة هي النخبة الجنوبية المسيحية. والواقع أن “جون قرنق” قد استلهم في مشروعه ضمن أشياء أخرى تجربة الأندلس، وأفصح عن ذلك في مقابلة مع صحيفة خليجية في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم. فعندما سُئل عن مدى واقعية مشروعه في السودان ذي الأغلبية المسلمة، كانت إجابته: (ألا ترى إسبانيا التي كانت يوماً ما مملكة إسلامية أين هي اليوم؟).
إذاً فقد كان من أهداف قيادة الحركة الشعبية على المدى البعيد إحداث تحول جذري عقائدي وثقافي في السودان، وهذا أمر لا يمكن التصريح به إلا في حدود ضيقة ومغلقة، وإنما يتم العمل له بتكتيك حاذق وفق مراحل بالاستقطاب والتحييد والاستغفال. وكذلك، فإن الحركة الشعبية برغم رايات الوطنية السودانية كانت حركة جنوبية في الأساس بتركيبتها القاعدية والقيادية. ثم إن الحركة كانت كذلك ذات أبعاد قبلية واضحة تهيمن على قيادتها قبيلة الدينكا، وتوجه مصالح هذه القبيلة سياستها لحد كبير، بالإضافة للطموحات الشخصية.
وفي المسار الطبيعي للأمور، فإن للإنتماءات الدينية والإثنية والجهوية وغيرها حضور وتأثير في أجندة أي كيان سياسي سواء أكان قائماً على فكر وضعي أو عقيدة دينية. وإنه من السذاجة بمكان الاعتقاد بحياد الحركة الشعبية، مثلاً بين المسيحية والإسلام أو مصالح الجنوب والشمال أو مصالح دينكا نقوك والنوبة.. إلخ. ولأن علمانية الحركة الشعبية تناهض على وجه الخصوص التوجه الإسلامي كان من الطبيعي أن ينشأ تحالف بينها وبين التيارات العلمانية، ولاسيما اليسارية في الشمال، فتجذب إليها كوادر من هذه التيارات. هذا العامل بالإضافة لتوجه الحركة المعبر عنها في المانفستو جعل من أساليب التعبئة السياسية ومناهج العمل الحركية متماهية لحد بعيد مع أساليب ومناهج الشيوعية الكلاسيكية. وظلت هذه الأساليب والمناهج مستمرة بالرغم من ارتماء الحركة بعد انهيار المعسكر الشرقي في أحضان الغرب بصورة كاملة، وتبعاً لذلك ازدادت الأجندة المشتركة بينها وبين المنظمات الكنسية.
إن قراءة كل ما تقدم مع معطيات جبال النوبة من حيث جغرافيتها السياسية وواقعها الإثني والاجتماعي والثقافي، تعطينا إضاءة واضحة وفهماً عميقاً للخطط والأساليب التي استخدمتها قيادة الحركة الشعبية الجنوبية المسيحية العلمانية المتحالفة مع التيار اليساري، وتحديداً سواقط الشيوعية، للسيطرة على النوبة وتوظيفهم لأجنداتها المزدوجة.
لقد كان انضمام طلائع من النوبة بقيادة المرحوم “يوسف كوة مكي” لصفوف الحركة الشعبية، انجذاباً بشعارات إنهاء الظلم والتهميش، فتحاً كبيراً لمشروعها، فقد كان انضمام أبناء النوبة يحقق للحركة الشعبية جملة من الأهداف القريبة والبعيدة، منها: إعطاء مؤشر قوي لقومية الحركة باعتبارها حركة القوى المهمشة في كل السودان، وليست مجرد حركة جنوبية.. رفد الحركة بقوة بشرية مشهود لها بالكفاءة القتالية.. توفير قاعدة في منطقة تداخل ثقافي وإثني ذات فائدة عظيمة في مخطط التحويل العقائدي والثقافي للسودان على المدى البعيد والتوظيف العسكري للموقع الجغرافي الإستراتيجي لنقل عمليات الحركة إلى الشمال. وهكذا قررت قيادة الحركة الشعبية منذ البداية إحكام قبضتها على قيادة النوبة التي انضمت لها وتوظيفها بكل الوسائل الخبيثة لبسط مشروعها بأبعاده السياسية والدينية والثقافية. ولم يمض كثير وقت ليكتشف عدد من قيادات النوبة تورطهم في مشروع ذي أجندة أبعد بكثير من مجرد رفع الظلم والتهميش. وهكذا جاء المرحوم “عوض الكريم كوكو” سراً لكادقلي عام 1988م ليجتمع مع قيادة (كمولو) التنظيم السري الذي قرر إلتحاق النوبة بالحركة الشعبية ليشرح لهم الانحرافات عن الهدف وحقيقة أجندة الجنوبيين. وبعد ذلك رجع إلى الغابة ليبدأ مع آخرين محاولة تصحيح المسار، ولكن اكتشف أمرهم بواسطة استخبارات الجيش الشعبي وقوامها الأساسي من الدينكا؛ لتتم على إثر ذلك تصفية عشرات الضباط والجنود من أبناء النوبة على رأسهم “عوض الكريم كوكو” نفسه و”يونس أبو صدر”.
وبعد تلك المحاولة أحكمت استخبارات الجيش الشعبي قبضتها الأمنية على النوبة، تحصي عليهم الأنفاس وتصفي كل من تحوم حوله الشبهة.. بل إن القيادة والتوجيه أصبحت في أيدي أبناء الدينكا في كثير من العمليات التي كانت تتم بجبال النوبة، وقد تم تشتيت مقاتلي النوبة وقياداتهم في جغرافيا واسعة في الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا ليصبح التواصل بينهم مستحيلاً، وبالتالي استحالة أي قرار جماعي. وبهذا الأسلوب الماكر الإنتهازي أمكن أن يكون أبناء النوبة وقوداً لأشرس معارك الحركة على مدى عشرين عاماً لصالح أجندة الجنوب، ليُتركوا في نيفاشا على قارعة الطريق ببرتكولهم البئيس.
ومن المدهش والمؤسف ألا يتعظ النوبة بتجربة ما قبل نيفاشا المريرة، ليقعوا في أحابيل الحركة الشعبية وبصورة أكبر هذه المرة، فما السبب؟!
الأمر يعود في تقديرنا إلى خصائص نفسية يتسم بها غالب النوبة استغلتها الحركة الشعبية بلا وازع من أخلاق، وساعدتها على ذلك تهاون المؤتمر الوطني في التعامل معها خلال الفترة الانتقالية. لقد استغل شيوعيو وعنصريو الحركة الشعبية بمكر تزول منه الجبال بعض خصال غالبية النوبة، مثل الإخلاص لما ينتمون إليه باندفاع أبشع استغلال، واستغلوا كذلك محدودية الوعي السياسي وقابلية استهلاك خطاب الإثارة بالشعارات الخواء بلا تثبت لدى قطاع واسع. وفي وقت انهارت فيه الشيوعية في موطنها، واندثر فكرها في مجتمعات الوعي وجد الانتهازيون في جبال النوبة أرضاً خصبة للتغرير بالسذج الذين يلوكون اليوم هناك عبارات مثل كمرد (الرفيق) والبرجوازية بصورة تثير التقزز والسخرية والشفقه في ذات الوقت. وبمنهج الشيوعيين في التعبئة وغسيل المخ اعتماداً على التدليس والكذب الصريح تم غرس أمراض خطيرة في عقول العامة خاصة الشباب، ومن ذلك بث الأحقاد العنصرية بصورة مخيفة بحيث اعتبر كل من يقف ضد الحركة الشعبية عميل للعرب الطرف الآخر فى الصراع. ومن ذلك أيضاً تعبئة الشباب باسم الثورية لازدراء القيم الفطرية مثل توقير الكبار وتقدير حرمة القرابة الرحمية وحرمة الدماء والممتلكات.. كل ذلك ليسهل تنفيذ الأوامر بلا سؤال وبلا تردد مهما تطلبت من ممارسات شاذة مثل قتل الأقربين ونهب أموالهم دعك عن الأبعدين.
ومن الأساليب التي اعتمدتها الحركة للاستقطاب والتعبئة إشاعة الانحلال والتفسخ الأخلاقي باسم الحرية ولاسيما حرية المرأة.. وقد يكون مناسباً هنا أن نشير إلى معلومة مفزعة وردت في تقرير أعدته منظمات دولية وأوردته الإذاعة السويدية مؤخراً، لنعطي إشارة لما يمكن أن يترتب على مفهوم الحركة الشعبية للحرية، فوفقاً لـ “كاثي جبو نيخيك” رئيس منظمة إغاثة أطفال مناطق النزاع، فقد قفز عدد المومسات في جوبا إلى 250.000 (مائتين وخمسين ألف) مومس، وأصبحت جوبا تحتل المركز الثاني أفريقياً في تجارة الدعارة.
ومهما يكن من الشيء، فقد نجحت الحركة الشعبية من خلال عمليات غسيل المخ لمحدودي الوعي في تحويلهم لأشخاص لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة في سبيل تحقيق مشروعها، وعلى رأس ذلك اغتيال القيادات المؤثرة التي يمكنها فضح هذا المشروع وهزيمته.
ولذا فإن إغتيال الشهيد “بلنديه” وصحبه، كما لم يكن الأول، إذ سبقته عشرات الإغتيالات، كما أوردنا نماذج لها في الحلقة الاولى، فلن يكون الأخير.
إذن ما العمل وما هي واجبات الأطراف المعنية بالتصدي لهذا المشروع؟
إن المنطلق الأساسي للتصدي لهذا المشروع هو الفهم السليم العميق له بأهدافه الحقيقية المغطاة بشعارات رفض التهميش ووسائله الخبيثة. وتبعاً لهذا نشير بإيجاز لواجبات الأطراف الرئيسية في ما يلي:
أول الأطراف في تقديرنا هي الحكومة باعتبارها المسؤولة عن مصائر البلاد، وعلى الحكومة قبل كل شيء أن تتلافى الأخطاء التي ساعدت الحركة في تمرير أجندتها. لقد تهاونت الحكومة وتركت الحبل على الغارب للحركة الشعبية، لا لتخرق الاتفاقية فحسب، بل أبجديات القانون. لقد سمحت لها أن تحتل مناطق واسعة أضعاف ما كانت تحتلها قبل الاتفاق، وتعتبرها مناطق محررة ومحرمة على الآخرين، بما ذلك الولاة ونواب الولاة والوزراء من غير الحركة. وسمحت لها أن تقيم أجهزة أمنية وإدارة أهلية موازية تصادر مهام الأجهزة والإدارات الحكومية.. وسمحت لها أن تجند الآلاف بعد الاتفاقية، في حين نصت الاتفاقية على تخفيض القوات.. بل تم تدليل الحركة الشعبية لحد تسييس الخدمة المدنية من أجلها خلافاً للقانون باستيعاب الآلاف في وظائف الولاية بقوائمها.. وقد سوقت الحركة هذه التنازلات باعتبارها نتاجاً لقوتها وخوف الحكومة منها.. هذا علاوة على عشرات الانتهاكات للقانون حتى داخل حاضرة الولاية من اعتقال وقتل وترويع.
إذن فإن أي تسوية قادمة يجب أن تلزم الحركة جادة القانون منذ البداية.. وفوق ذلك لا بد من رفض أي تسوية ثنائية لتدعي فيها الحركة زوراً تمثيل مصالح أهل المنطقة، فهي لا تملك الأهلية المعرفية، ولا الأخلاقية؛ لذلك فقد خبر الناس حكم عناصرها الذي كان نوعاً من الفضيحة.
والطرف الرئيس الثاني، هم أبناء الولاية من القوى الأخرى.. وهؤلاء لا بد من أن يعترفوا قبل كل شيء بتراخيهم وتقصيرهم في مواجهة مخطط الحركة الإجرامي.. فبالإضافة للإصرار على رفض التسوية الثنائية لا بد من استفراغ الوسع السياسي والإعلامي لفضح الحركة الشعبية وتحجيمها بعمل منسق.. حتى لا تصبح الولاية مرة أخرى تحت رحمة أزلام الحركة الذين أصبحوا يتصدرون واجهة الاحداث للتحدث باسم النوبة أمثال “عرمان” و”وليد حامد” كما تنقل الأخبار القادمة من أديس أبابا.
وأخيراً، فإن على سائر القيادات السياسية والإعلامية وقادة الرأي العام في البلاد إدراك ما تمثله أجندة الحركة الشعبية من أخطار على الوطن باعتبارها مخلب قط لمشروع تقف خلفه جهات أجنبية معادية لوحدة واستقرار السودان وعندئذٍ عليها بطبيعة الحال القيام بدورها في مواجهة هذه الأخطار.