ما أشبه الليلة بالبارحة ما بين مؤتمر المائدة المستديرة ومؤتمر الحوار الوطني
هل أصبحنا مثل قوم البربون لا ننسى ولا نتعلم
لماذا تبحث الأحزاب المدعاة بالقومية عن مصالحها في السلطة فقط
حديث السبت
يوسف عبد المنان
منذ قديم الزمان أصبح عجز بيت الشعر القديم (كلهم أرع من ثعلب) ما أشبه الليلة بالبارحة مثلاً يضرب، وقد أورد “أبو الفضل الميداني” في مجمع أمثال العرب أن ما أشبه الليلة البارحة ذاع صيتها وشاعت في البوادي والحضر، حينما رددها سيدنا “الحسن بن علي بن أبي طالب” كرم الله وجهه وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ومعه “سعد” و”سعيد” و”عبد الرحمن بن عوف” و”أبو عبيدة عامر بن الجراح” والحسين” شهيد كربلاء الذي قتل مع أصحابه ببشاعة جعلت الشيعة يفضلون الملابس السوداء إمعاناً في الحزن والأسى على “الحسين بن علي”، ولكن “الحسن” نظر وقدر ودبر حينما خذله الناس وفر منه من عدهم أصدقاء محنة.. وفرسان يوم كريهة وضرب كفاً بأخرى وقال: (ما أشبه الليلة الليلة) ولكن الشعر العربي لا يستسيغ التكرار فأبدلت الليلة بالبارحة، ذلك ما كان بالأمس البعيد والتاريخ الموغل في القدم والذي منه العبر والدروس ونتعلم من صفحاته المشرقات والمعتمات ما يعين على حل قضايا الحاضر. ومن يقرأ في تاريخ السودان بعد الاستقلال والمصاعب والمشكلات التي واجهته يجد أن ذات القضايا التي أثيرت في عام 1952م، مع اتفاقية الحكم الذاتي وقبل أن تنال البلاد استقلالها ظلت هذه القضية تراوح مكانها، وتتمترس النخب الحاكمة من أحزاب طائفية وعقائدية ومؤسسة عسكرية بسطت سيطرتها على حكم السودان منذ 1958م، وحتى 1964م، ومن 69 وحتى 1985م، ثم عادت عام 1989م، وحتى الآن.. كل هذه الحكومات أصابها عجز القادرين على حل مشكلات البلاد.. ومع بزوغ فجر الاستقلال وانفجار أحداث التمرد العسكري في جنوب السودان، دعا الجنوبيون ممثلين في أحزابهم وتكويناتهم القبلية إلى تأطير حل مشكلة جنوب السودان دستورياً من خلال قيام نظام فيدرالي يمنح الجنوب حق حكم وفق مقتضيات الفيدرالية وشروطها.. ولكن القوى الشمالية مانعت ورفضت.. وتمسكنت بمركزية السلطة ظناً منها أن القضية المركزية الحديدية وكتم أنفاس الجنوبيين وحرمانهم من حقوقهم سيجعلهم يزعنون لسلطة المركز. وإذا كان الأب “سترنيو لوهوري” رئيس الكتلة البرلمانية لنواب الجنوب، قد قال بعبارات قاطعة كما جاءت في كتاب مولانا “أبيل ألير” (جنوب السودان التمادي في نقض العهود والمواثيق).. إن الجنوب لا يكن أبداً نوايا سيئة نحو الشمال وإنه يطالب فقط بإدارة شؤونه المحلية في إطار السودان الموحد، كما أنه ليست للجنوب نية للانفصال عن الشمال، لأنه كان ذلك هو الحال لن تستطيع قوة في الأرض منعه من المطالبة بالانفصال، فالجنوب يطالب بإقامة علاقة فيدرالية مع الشمال وهذا بلا ريب حق يستحقه الجنوب بمقتضى حق تقرير المصير الذي يمنحه المنطق والديمقراطية للشعب الحر، وسوف ينفصل الجنوب في أي وقت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة متى ما أراد الشمال ذلك من خلال سيطرة الشمال على الجنوب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكان رد النخبة الشمالية المتنفذة في حكم الخرطوم ذلك الزمان.. وكانت ردة فعل النخب الشمالية من خلال البرلمان حينما رفض “محمد أحمد المحجوب” رئيس الوزراء توصيات لجنة الاثني عشر بشأن دستور البلاد. وقال “المحجوب” إن الحكومة أولت مطالب الجنوبيين للحكم الفيدرالي اعتباراً جاداً للغاية توصلت إلى أن الفيدرالية لن تكون مجدية أو ذات نفع للسودان. وهنا تعالت هتافات العامة الذين جاءوا منتخبين بجهلهم للبرلمان كنواب للشعب، (نوفدريشن فور ون نيشن) لا نظام فيدرالي لأمة واحدة لتتحطم آمال وتطلعات الجنوبيين في بواكير سنوات الاستقلال من أبناء جلدتهم من الشماليين الغارقين في أوهام القوة والعظمة والقدرة على فعل أي شيء.
إذا كانت تلك هي مطالب الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فإن الجنوب بسبب عجز القادرين على اقتراع حلول واقعية قد ذهب لسبيله دولة مستقلة تلعق جراحاتها اليوم بسبب مخاض الولادة العسير يحيط به الدم وهلاك الأرواح، فإن ما تبقى من السودان لا يزال يعاني من ذات المشكلات وتتطابق الأحداث والوقائع تطابق الحافر بالحافر.. أنظر إلى المطالب التي قدمها عضو وفد التفاوض عن الحركة الشعبية د.”أحمد عبد الرحمن” في مفاوضات “أديس أبابا” مارس 2015م، أننا في الحركة الشعبية أكثر يقيناً أن المنطقتين لا يمكن حل قضاياهما إلا من خلال حكم ذاتي تتمتع فيه تلك المناطق بحرية وخصوصية عن الحكم في المركز ومشاركة حقيقية لأصل المنطقتين في السلطة المركزية. وإذا كان “محمد أحمد المحجوب” رئيس الوزراء في الستينيات قد اعتبر الفيدرالية لا تناسب السودان.. وهو بذلك يختزل الرأي في شخصه وحكومته وحزبه ويجعل من نفسه (ألفة) فصل.. وحاكماً ذا بصيرة وعقل سديد، فإن البروفيسور “إبراهيم غندور” رئيس وفد الحكومة المفاوض … يرفع لاءات عديدة في وجه مطالب المتمردين حاملي السلاح لا لقسمة سلطة على خطى اتفاق (نيفاشا) السابق ولا للحكم الذاتي.. ولا لوجود جيشين في دولة واحدة ولا لاتفاقية جديدة.. ويحدد البروفيسور “إبراهيم غندور” سقوفات الاتفاق مع حاملي السلاح من متمردي قطاع الشمال بوضع سلاحهم وتسليمه للقوات المسلحة، مقابل العفو عنهم لارتكابهم جرائم بحق المواطنين في كادقلي، ثم تسريح قوات الحركة الشعبية لتنظر الحكومة في استيعاب البعض وفق شروطها، والسعي لإيجاد سبل كسب عيش أخرى لمن لم يحصل على وظيفة بسبب مؤهلاته.
وفي أكتوبر عام 1968م، قبل وصول “جعفر نميري” للحكم يقول رئيس مجلس الوزراء حينذاك “محمد أحمد المحجوب” أمام الجمعية التأسيسية مباهياً بما حققته القوات المسلحة من انتصارات على المتمردين!! (تمكن الجيش من إحلال القانون والنظام في مناطق واسعة من الجنوب وأقام نقاط تفتيش في المناطق التي طهرت من المتمردين الإرهابيين، وساعدت عودة الإدارة السليمة من زعماء القبائل على استعادة سلطاتهم كممثلين للحكومة وتمكنت السلطات الملحية مرة أخرى من جمع الضرائب ولا تفاوض مع الإرهابيين المتمردين، بل علينا إعداد القوة وحسم التمرد بالقانون والقوات المسلحة). كان ذلك المشهد في عام 1968م، وبعد أكثر من أربعين عاماً على مرور ذلك الحديث لرئيس وزراء السودان “محمد أحمد المحجوب” في البرلمان، تقول الحكومة في خطابها الرسمي عام 2016م، أمام ذات البرلمان الذي تغير موقعه من الخرطوم إلى أم درمان ولم يتغير منهجه ولا دوره في الشأن التشريعي، وقبل كل ذلك رؤيته لمشاكل البلاد.. ولا تزال كلمات رئيس الجمهورية شاخصة وهو يقول إن القوات المسلحة خلال عمليات الصيف تستطيع القضاء على التمرد في المنطقتين وتفرض السلام بعد أن رفض المتمردون خيار السلام، وعلى التمرد وضع سلاحه مقابل أن نعفو عنه.
بين مؤتمرين
حينما وصلت حكومة الجنرال “إبراهيم عبود” إلى طريق مسدود بشأن الحرب في جنوب السودان، وقد اتخذت تلك الحكومة العسكرية قرارات أقرب إلى الانتحار السياسي وأسهمت بقدر في مآلات الأوضاع الحالية أي بعد ما يقرب من نصف قرن من الزمان.. وجنرالات “عبود” يتخذون قرارات بطرد المبشرين الأجانب وإلغاء تدريس اللغة الإنجليزية واعتبار اللغة العربية هي لغة الدولة الوحيدة.. وفرض الطوارئ وتشجيع بناء الخلاوي والمساجد، وقد طُرد المعارضون الجنوبيون إلى دول الجوار زائير ويوغندا التي ظلت تحتضن المعارضين للحكومة السودانية منذ ذلك الزمان البعيد وحتى اليوم، ولما وصلت حكومة ديمقراطية إلى السلطة في البلاد على أنقاض النظام العسكري.. فإن أولى محاولات حل مشكلة الجنوب تمثلت في عقد مؤتمر المائدة المستديرة وتم تكوين لجنة من اثنى عشر من السياسيين جنوبيين وشماليين، وضمت اللجنة “بونا ملوال” و”أتون داك” و”غردون آبي” من الجنوب و”أندروبويو” و”نيكارو أقوي” و”هيلري لوقاري” و”أوشالا” من حزب (سانو)، ومثل الأحزاب الشمالية “محمد أحمد المرضي” من الحزب الاتحادي و”محمد داؤود الخليفة” حزب الأمة و”الفاتح عبود” من حزب الشعب ود.”حسن الترابي” من جبهة الميثاق الإسلامي، و”محمد إبراهيم نقد” من الحزب الشيوعي و”سيد عبد الله السيد” من جبهة الهيئات، وأكبر معضلة واجهت المؤتمر هي عدم تمثيل الحركات المسلحة في المؤتمر. وقد تجاهلت الحكومة هذه الحركات على اعتبار أنها حركات ومنظمات متمردة على القانون والنظام العام ولا مكان لها في طاولة المفاوضات.. اليوم ينعقد مؤتمر الحوار الوطني كاعتراف من الحكومة بأن الأزمة التي جعلت الحكومة في عام 1966م، تعقد مؤتمراً عن حل مشكلة الجنوب والصحيح هي مشكلة السودان لذات السبب ينعقد مؤتمر الحوار الوطني اليوم.
وإذا كانت عدم مشاركة الحركات التي تحمل السلاح قد أجهض مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، فإن عدم حضور ومشاركة القوى التي تحمل السلاح اليوم أي بعد أكثر من ثمانية وأربعين عاماً من الزمان تهدد أيضاً بفشل مؤتمر الحوار الوطني.. صحيح أن الحكومة اليوم أكثر وعياً وتقدماً في رؤيتها بشأن مشاركة القوى التي تحمل السلاح من الحكومة المدنية التي جاءت كثمرة لانتخابات عام 1965م، وظلت الحكومة اليوم وحزب المؤتمر الوطني يطالبان بدخول المعارضة مؤتمر الحوار بدون شروط. ومن المفارقات الغريبة وتطابق حالة الأمس البعيد باليوم الحاضر، أن الخلاف الذي نشب حول مكان انعقاد المؤتمر بين الحكومة والحركة المسلحة أي الأنانيا (1) ومعها حزب “سانو” وجبهة الجنوب التي قالت إن الخرطوم ليس هو المكان المناسب لعقد المؤتمر، واعتبرت أن عقد المؤتمر في كينيا أو يوغندا من شأنه توفير مناخ من الحرية والديمقراطية يسمح لهم بطرح رؤيتهم السياسية لحل مشكلات البلاد.
واليوم أيضاً كان الخلاف في بدايات إعلان الحكومة عن عقد مؤتمر الحوار الوطني بالداخل قد واجهته الحركة الشعبية وحركتا “مناوي” و”جبريل” الدارفورية بالرفض، بحجة أن الخرطوم ليست مكاناً مناسباً لعقد المؤتمر الذي يجب عقده خارج الحدود.. وبعد أن تمسكت الحكومة بموقفها باعتبار أن فلسفة عقد مؤتمر الحوار تنهض على نقل العملية السياسية من الخارج للداخل بضمانات رئيس الجمهورية الذي أعلن العفو عن حاملي السلاح، فاستجاب البعض ورفض البعض الآخر.
وإزاء إصرار الحكومة على عقد المؤتمر بالداخل وعدم تنازلها حتى لو أدى ذلك لغياب حاملي السلاح عن المؤتمر، تنازلت الحركة الشعبية وحركات دارفور عن مواقفهما وطالبتا بعقد لقاء تشاوري في الخارج يجمعهما مع آخرين والحكومة لتحديد أجندة المؤتمر.. لكن الحكومة رفضت ذلك وتمسكت بموقفها الداعم لنقل العملية السياسية إلى الداخل. وفي ستينيات القرن الماضي رفضت القوى التي تحمل السلاح الحضور للخرطوم، ولكنها انتدبت في آخر الأمر من يمثلها حتى في لجنة الاثني عشر. ويكشف كتاب “يوسف محمد علي” الذي عمل رئيساً للجنة الاثني عشر (السودان والوحدة الوطنية الغائبة)، عن استخفاف جميع القوى الشمالية بالجنوبية وعدم حرصها على متابعة أعمال اللجنة وحضور اجتماعاتها. وتقول المعلومات التي وردت في الكتاب، إن حزب الشعب الديمقراطي حضر أربعة اجتماعات من جملة ثمانية اجتماعات قبل أن ينسحب من اللجنة، بينما حضر الحزب الشيوعي سبعة اجتماعات من جملة (12) اجتماعاً قبل أن ينسحب هو الآخر، بينما بلغت جملة اجتماعات لجنة الاثني عشر (48) اجتماعاً تغيب حزب الأمة عن (10) منها.. وتغيبت جبهة الميثاق الإسلامي عن (14) اجتماعاً وجبهة الهيئات عن ثمانية اجتماعات، والحزب الوطني الاتحادي عن ثلاثة اجتماعات. في الوقت الذي حرصت فيه القوى الجنوبية على حضور كل الاجتماعات وهم حزب جبهة الجنوب و”سانو” لأن هؤلاء يبحثون عن حل لمشكلاتهم.. واليوم في قاعة الصداقة حينما انعقد مؤتمر الحوار الوطني، فإن الأحزاب التي تسمى قومية قد آثرت الانسحاب غير المبرر بدءاً من حزب الأمة القومي والمؤتمر الشعبي وحركة الإصلاح الآن، والمؤتمر الوطني وحده كان حاضراً في كل الجلسات، لأنه هو صاحب الدعوة، ووالد العريس إن لم يكن العريس نفسه. ولم نحصل على أرقام عن مشاركات القوى التي كانت تحمل السلاح وآثرت الانخراط في الاجتماعات بحثاً عن الحل السلمي، لأن لجان الحوار ربما لا تهتم كثيراً بمثل هذه التفاصيل.. إلا أن وجود الحركات التي تحمل السلاح كان طاغياً في المؤتمر ولجانه.. لأن هؤلاء هم أصحاب المشكلة الحقيقية.. ويمثل غياب القوى الشمالية وعدم جديتها في الستينيات لأعمال وأنشطة لجنة الاثني عشر دليلاً على عدم الجدية في حل مشاكل البلاد، وهو ذات الاتهام الذي يطال القوى التي تسمي نفسها قومية ولا تشارك بفاعلية وبرؤية حول كيف السبيل لوقف الحرب، بقدر حرصها على نصيبها في السلطة ولهثها وراء تشكيل حكومة قومية، يكون لها فيها نصيب من السلطة. فما بين الأمس واليوم ألا يحق لنا أن نتساءل كما تساءل الإمام “الحسن بن علي” في حربه ورؤية الرجال الذين كانوا معه، قد اختفوا عن الأنظار ما أشبه الليلة بالبارحة ذات القضايا التي طرحت في خمسينيات القرن الماضي هي القضايا التي تطرح اليوم.. وذات الأسباب التي عطلت مؤتمر المائدة المستديرة هي التي أدت لتعطيل مؤتمر الحوار الوطني، وذات القضايا المختلف حولها في ستينيات القرن الماضي هي القضايا المختلف حولها اليوم.. فهل نحن مثل قوم البربون لا ينسون شيئاً ولا يتعلمون من درس الأمس القريب والبعيد.