رأي

بعد.. ومسافة

مصطفى أبو العزائم
قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) صدق الله العظيم.
انتقل إلى الرفيق الأعلى الأسبوع الماضي بعد سنوات حافلة بالبذل والعطاء في مختلف ميادين العمل التنفيذي والسياسي المغفور له بإذن الله المستشار والسفير “عباس إبراهيم النور” –  والرجل بدأت معرفتي به في سبتمبر 1990م، حينما حط بي رحال العمل في السفارة السودانية بطرابلس نائباً لرئيس البعثة، فوجدته أمامي رئيساً للبعثة.. ولم أكن أعرف عنه شيئاً سوى أنه أحد رموز الساحة السياسية والقانونية في السودان..                                                                                                              استقبلني الرجل بكل حرارة وفتح لي قلبه ومنحني كامل الثقة ومطلق الحرية في أداء مهامي في إدارة شؤون البعثة.. فبدأت مسيرة عملي بالبعثة وتواصلت بكل السهولة واليسر إلى أن انقضت بعون الله وتوفيقه السنوات الأربع المقررة بكل الود والتقدير الساند                                        في أوصال أسرة السفارة بقيادة ربانها الأخ “عباس” وغادرت طرابلس محملاً بأطيب الذكريات.
سأحاول أن أتحدث عن الأخ “عباس” فقط بما عرفته وعايشته كسفير للسودان حكومة وشعباً خلال السنوات الأربع التي قضيتها معه في رحاب طرابلس.. وقد كفاني الأخ الأستاذ “مصطفى أبو العزائم” مشقة الخوض في ما يتمتع به من صفات أهلته لتبؤ منصب السفير في ليبيا.. كان التواضع من أميز ما يتمتع به من صفات.. وبحكم تكوين شخصيته السياسية كان شعبياً بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، انفتح على الجميع وفي مقدمتهم رعاياه من الموظفين والعمال، تبادل معهم مشاعر المودة والإخاء عبر الزيارات التفقدية واهتمامه وتبنيه لمشاكلهم الخاصة، وكانت النتيجة أن سرت روح فريق العمل الواحد في أوصال أسرة السفارة وظلوا يؤدون مهامهم دون رقيب بكل الكفاءة والمسؤولية.. وكان التشاور وتبادل الرأي ديدنه في كل خطواته قبل اتخاذ القرار.. كان عظيم الاهتمام بشؤون الجالية السودانية والتي كانت حينها تعيش أقصى الظروف، فكان يسخر كل علاقاته بالمسؤولين الليبيين على مختلف مستوياتهم لتخفيف المعاناة وحل المشاكل المستعصية التي تواجه أفراد الجالية، خاصة في ظل العقوبات الدولية التي تعرضت لها ليبيا.. وقد كان حريصاً على متابعة المشاكل القنصلية، فكان يبدأ يوم عمله بزيارة القسم القنصلي وبالتحديد يقضي يوماً في استقبال القسم متجاذباً الحديث مع المواطنين ومراقباً للأداء ومعالجة الكثير من المشاكل.. وكان يصدر توجيهاته لكل العاملين بالقنصلية بحسن معاملة المواطن السوداني والسعي لإنجاز معاملاته ومعالجة مشاكله، وكان لا يمل استقبال والاستماع لذوي الحاجات والمشاكل في مكتبه، بل كان كثيراً ما يتحرك ميدانياً متفقداً لأفراد الجالية إلى الأسواق والأحياء.. حيث كانت تكثر المشاكل متفقداً ومضمداً لجراحهم واجتماعياً، تميز المرحوم بمشاركته لأسرة السفارة وتجمعت الجالية في كل أنحاء ليبيا الأفراح والأتراح ومختلف المناسبات، وعلى صعيد العمل التنفيذي بالسفارة كان حريصاً على انتهاج الأسلوب العلمي وسرعة الأداء والإنجاز والبعد عن البيروقراطية والأنكلية، فكان كثيراً ما يباشر بعض الأعمال التنفيذية الصغيرة بنفسه عند اللزوم وخاصة في الشؤون القنصلية.. وكان لا يتردد في إنفاذ القرارات التي تهدف لتحقيق المصلحة العامة للمواطن أو الوطن.. كان يعطي كل ذي حق حقه، وكان يعامل كل مرؤوسيه بكل التقدير والاحترام والطيبة ويحرص على تحسين بيئة العمل ومساعدة المحتاجين والاهتمام بمختلف شؤونهم.
الفترة التي عملت معه وهي 1990م، إلى 1994م، كانت حافلة بالأعباء والهموم السياسية والاقتصادية والقنصلية، حيث تم خلالها توقيع اتفاق التكامل بين البلدين.. وكانت أزمة الوقود طاحنة في السودان وكانت ليبيا تمثل أحد أهم الدول في تأمين الإمدادات النفطية.. وكان مشروع طريق العيلفون (الذي كان يسمى حينها طريق القذافي).. في مرحلة التنفيذ.. وتعرضت ليبيا بسبب قضية لوكربي إلى عقوبات دولية بحظر الطيران أدت إلى لجوء غالبية المغتربين السودانيين إلى السفر للسودان عن طريق الكفرة مليط أو حمرة الشيخ وهو طريق يبلغ طوله أكثر من (1500) كيلو خالي من أي مقومات الحياة.. وعلى رأسها الماء.. أو عن طريق الطريق البري عبر مصر والذي كان كثيراً ما يقفل في وجه العابرين السودانيين بسبب تقلبات علاقاتنا مع مصر، وكان هناك طريق بحري إلى مالطا.. حيث تهبط طائرة سودانير القادمة من لندن لنقل ركاب ليبيا.. كل هذه الأعباء بتنوعها كانت ملقاة على عاتق السفير وأعضاء السفارة.. وأشهد بأنه كان يواجهها جميعاً بكل الهدوء ورباطة الجاش والتأني، وأسوق على سبيل المثال لا الحصر بعض الأمثلة المتنوعة في كيفية معالجة بعض المشاكل والعقبات.. في سبيل استلام وإرسال جرارات زراعية ليبية للبنك الزراعي وجهني للسفر إلى مدينة “مصراتة” التي يقع فيها المصنع.. للمتابعة اللصيقة.. حيث بقيت هناك أكثر من أسبوع حتى تم شحن الجرارات – ولتأمين شحن بعض مواد ومعدات مشروع طريق “القذافي”.. استقدم سفينة سودانية (الأبيض) واستأجر أسطولاً من الشاحنات لعملية الشحن لاختصار زمن الشحن.. (وكان ذلك بسبب تلكؤ الجهات الليبية المختصة).. وجند كل طاقات السفارة وأموالها لهذا الغرض.. وفي محيط الإمدادات النفطية كان لا يهدأ له بال إلا عندما تغادر حاملة النفط الموانئ الليبية متوجهة إلى بورتسودان.. وكانت المشقة التي يعانيها السودانيون المسافرون عبر طريق الكفرة الصحراوي، تؤرقه كثيراً، فسعى بكل قوة إلى تخفيف تلك المعاناة، فكان له فضل المبادرة بإنشاء محطة واحة الملتقى في منطقة كرب النوم (حوالي 200 كيلو متر من الحدود السودانية)، لتعين إمدادات المياه وغيرها من الخدمات الضرورية للمسافرين والشاحنات.. ولتقدير مدى المعاناة والمخاطر نشير إلى أن المسافر الواحد على ذلك الطريق كان يجب أن يحمل معه في الشاحنة لاستخدامه حوالي (40) لتراً من المياه.
لقد كانت الفترة التي عملت فيها مع المرحوم “عباس” من أميز فترات عملي الدبلوماسية.. حيث كنا نعمل كفريق واحد لخدمة المواطن السوداني، وكنا نحس بالسعادة عند تحقيق أي إنجاز، فقد كان لشخصيته أثر كبير بث روح التعاون والتكاتف والهمة من خلال تواصله الاجتماعي الذي شكل له رصيداً كبيراً من القبول لدى الجميع.
ألا رحم الله الأخ السفير “عباس” وأسكنه فسيح الجنان وجعل البركة والخير في عقبة وأحسن عزاء ابنه “محمد” وأخواته وزوجته السيدة الفاضلة “نوال” وكل أفراد الأسرة بجزيرة الفيل.. وجمهور أصدقائه العريض.. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)
السفير/ بشرى الشيخ دفع الله

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية