الاختصاصي النفسي الدكتور"علي بلدو" ، يبشر بأن العام القادم سيكون عام الطب النفسي
– الأساس في المرض النفسي (الجينات) وليس (الجنيات)
– جميع السودانيين(حكام ومحكومين)محتاجون لمراجعة الطبيب النفسي..!
– (المجانين في نعيم)… جملة تعبِّر عن جهل بالطب النفسي
– خوف (الوصمة) تجعلنا نقول: (بتنا ما جنّت لكن أدوها عين).
–
كثرت في الآونة الأخيرة الأمراض النفسية مثل القلق، الاكتئاب، الخوف الشديد، النسيان بسبب الحياة الحديثة بدوافعها وضغوطها وبما فيها من صعوبات في المعاملات تبدو في بعض الأحيان، كما لو كانت مصنعاً للقلق، وكذلك فقدان الأمن الفردي والجماعي في كل شيء أدى إلى تمزق أوضاع الأسرة، وفقدان الحب والعاطفة وعدم الطمأنينة وفقدان الانسجام بين الناس والمحيط، وكلها أصبحت من مشاكل هذا العصر، وحقيقة ثابتة وواقعاً لا بد من التعامل معه، والتعامل بالشكل السليم.
الاختصاصي النفسي الدكتور “علي بلدو” يكشف الكثير المثير في هذا الجانب في الحوار أدناه:
· الميلاد والنشأة؟
– اسمي “علي محمد علي محمد السنجك” ، الشهير بـ (علي بلدو) تنحدر أسرتنا من جزيرة تنقاسي بالشمالية.. وأصولها ترجع إلى أسرة “الحاج حمد الخواجة” عمدة البديرية الدهمشية..
أسرتي الكبيرة نزحت بسبب ضيق المواعين الزراعية بالشمالية إلى أم درمان ومنها توزعت إلى مدني والأبيض.
أنا الابن الوحيد لوالدتي وليس لدي إخوة أو أخوات.. ولدت بمنطقة ود نوباوي بأم درمان – حي الهجرة.
· المراحل التعليمية؟
– تلقيت تعليمي الأولي والأساسي بمدرسة ود نوباوي ومنها انطلقت إلى مدرسة الأهلية الوسطى بأم درمان ومن ثم إلى مدرسة المؤتمر الثانوية العليا.
أما المرحلة الجامعية فقد تقسمت ما بين جامعة الخرطوم وجامعة النيلين وجامعة القاهرة وكردفان وجامعة ليون بفرنسا حيث حصلت وفي وقت واحد على بكلاريوس الطب والجراحة وبكلاريوس القانون وليسانس حقوق وبكلاريوس اقتصاد وعلوم سياسية… ودراسات عليا في طب الأعصاب، والدكتوراة الإكلينيكة في الطب العصبي، والمعادلة في القانون إضافة إلى الدبلوم العالي في القانون الجنائي (الفقه المقارن) حول إثبات جريمة القتل في الفقه الحنفي والقانون الفرنسي ودبلوم عالي في اللغة الفرنسية.
· الحالة الاجتماعية؟
– متزوج من الدكتورة “أمل ناصر أحمد الحاج” وأب لولدين “أحمد – آرام” وبنت “آزر” وأقيم بالثورة الحارة العاشرة.
· في دراستك الجامعية لم تدرس علم النفس…ما سر عملك الآن بالطب النفسي؟
– العمل بالطب النفسي كان رغبتي منذ أيام دراستي بكلية الطب جامعة الخرطوم، حيث كنت أشعر أن الطب النفسي عبارة عن وعاء جامع لكل التخصصات الطبية والعلمية، ويعكس الإلمام العلمي والعملي والثقافة المحلية مدعمة بالدراسة النظرية، وبالتالي هو تخصص صعب ويحتاج إلى أشخاص ذوي قدرات معينة للتعامل مع المشكلة الطبية ويمثل ذروة سنام التخصصات الطبية وآخر تخصص تم إضافته إلى الأقسام الطبية، وهو الآن في حالة نمو مضطرد وتقدم متسارع، ويكاد يكون العام القادم عام الطب النفسي دون منازع.
· هناك مفهوم سائد أن الأطباء النفسيين هم أيضا مصابون نفسياً؟
– هذه واحدة من الكثير من المفاهيم المغلوطة حول الطب النفسي (نفسه) وحول مرضاه الذين يتم وصفهم بأوصاف غير لائقة، أحصيت منها أكثر من (70) وصفاً يتم تداولها في المجتمع مثل: ( فاكة منو- مجنتر- ورقو زائد- ضارب فيوز،…).
ويساعد على ذلك الإعلام السالب مثل ( القبض على معتوه يهاجم فتاة- القبض على معتوه).
كما ساهمت أيضا في ذلك الأغاني(إن شاء الله أجن وأزيد في الجن).
وامتد الوصف السالب إلى الأطباء النفسيين وفق مقولة : (من عاشر قوما أربعين يوما صار مثلهم)، والتعامل مع المرضى النفسانيين يؤدي للإصابة بالمرض النفسي، هذه كلها خرافات، يطلقها البعض لحث الناس لعدم التعامل مع الطبيب النفسي، والرد عليهم بكل بساطة أن زملاءنا أطباء النساء والتوليد، يتعاملون مع النساء لسنوات طويلة، لم نجد منهم من عانى من الحمل أو الحيض، كذلك أطباء الأطفال لم نجد طبيباً عانى من ألعاب الطفولة وأصبح يلوك مضاغة أو يركض خلف بالونة..كل هذه أوهام ووصمة لوقف التعامل مع الطبيب النفسي، بل مع أي شخص يتعامل في المجال النفسي.
· (المجانين في نعيم) هل هم كذلك؟
– (المجانين في نعيم).. جملة تعبِّر عن جهل بالطب النفسي والمرضى النفسيين، وعبارة تهكمية وحاجز ووصمة كبيرة، وهي تشبه نكات الواتساب (واحد مسطول…واحدة في مستشفى التجاني الماحي…)…وهي نكات تجد شعبية كبيرة وتتداول على نطاق واسع، كلها تعمق الشعور بالوصمة وعدم الإلمام بثقافة الطب النفسي.
· هل هناك تزايد كبير في أعداد المرضى النفسيين في السودان؟
– وفق تقرير منظمة الصحة العالمية الذي صدر بعنوان ( الوقاية من الانتحار ضرورة عالمية).. سجل السودان أعلى معدل انتحار في الدول العربية تلته جيبوتي (10.7) وجزر القمر (10.5) ، فإن المملكة العربية السعودية سجلت أقل نسب الانتحار على مستوى الوطن العربي والعالم، بنسبة(0.3) لكل (100) ألف نسمة تلتها سوريا ولبنان.
تصنيف السودان هذا مع ما نراه من أعداد كبيرة تتردد على العيادات والمراكز الطبية النفسية، في ظل عدم كسر هذه البرمة الوهمية للتعامل مع الطب النفسي، أتوقع أن لن تكون هناك صينية في تقاطعات طرق الخرطوم خالية من مريض نفسي.
· هل للوصمة دور كبير في تدهور الكثير من الحالات؟
– بعض الأسر خوفاً من الوصمة تقوم بإخفاء المريض النفسي أو اللجوء إلى العلاجات الشعبية مثل القرض والمحريب، مما يؤدي إلى إطالة المرض أو تدهور الحالة، وأذكر هنا حالتين، الأولى لفتاة قامت بشنق نفسها داخل منزلها بعد إصابتها باكتئاب نفسي حاد تجاوز العام دون علاج، وعندما تحرينا مع والدها قال: (يا جماعة بتي ما عرست.. كمان يقولوا عليها بايرة ومجنونة؟!).
والحالة الثانية لشخص أصيب بمرض الفصام تم حبسه مقيدًا بالسلاسل والجنازير بالمنزل ولكنه قام في لحظة هياج باقتلاع هذه الجنازير وحمل ساطورًا وقتل به والده وأمه وزوجته وطفليه… فراحت هذه الأسرة ضحية للتستر وعدم إحضار المريض للعلاج.
· التستر وإخفاء المريض النفسي، هل هناك قانون يعاقب عليه؟
– نعم… كل مريض نفسي تم إخفاؤه أو التستر عليه بمثابة قنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة.
وفي المادة (118) من قانون الإجراءات الجنائية للعام 1991م هناك إلزام بتسليم المريض النفسي إلى المراكز العلاجية منعاً للإخلال بالسلامة العامة.
الآن توجد مساعٍ حثيثة لإجازة قانون الصحة النفسية بشكله النهائي بعد تجاوزه الإجراءات الأولية وخروجه من مجلس الوزراء إلى المجلس الوطني.
المرض النفسي هو أكثر الأمراض تحسناً بعد بدء العلاج، وهناك حالات فاق معدل شفائها(80%) ولدي تجربة مع أحد الأشخاص تم إحضاره لي من الكوشة مباشرة ،وكان لا يرتدي أي ملابس (كما ولدته أمه) وكان في حالة مزرية للغاية وقال لي أهله 🙁 قنعوا منه ورموه).. بتوفيق من الله سبحانه وتعالى أكمل دراسته الجامعية وتزوج.. والآن في أحسن حال.
· متى يزور الشخص الطبيب النفسي؟
كل الشعب السوداني حكاماً ومحكومين، في حاجة إلى مراجعة الطبيب النفسي وفي أسرع فرصة نتيجة الضغوط المعيشية والحياتية والحروب وعدم الاستقرار الأمني والمشاحنات والخلافات الأسرية وتنامي موضوع إدمان المخدرات والهجرة والنزوح والشعور بالاحتياج العاطفي وتنامي الزواج المبكر وزواج القصر.. كل تلك الأسباب تقود إلى حالات نفسية تحتاج إلى مراجعة الطبيب.
· ما هي العلاقة بين المرض النفسي والمس الشيطاني؟
المس الشيطاني يمثل شعوراً نفسياً يؤدي إلى اضطرابات نفسية باعتباره سبباً إيحائياً ويتم التعامل مع الحالة وما بها من أعراض وعلامات وتشخيصها وعلاجها …والحقيقة ليس كل مريض نفسي متلبس بالجن وليس كل مريض نفسي ضحية للسحر وصريع للعين هذه حقيقة.
فالجانب الأساسي في المرض النفسي هو الجانب الوراثي فالإشكال في الجينات وليس الجنيات.
· هل تعتبر المرض النفسي وراثياً؟
الوراثة تلعب دورًا مهماً للغاية في التهيئة للمرض النفسي وتشكل قابلية ما بين(50-70%) لذلك ننصح بعدم زواج الأقارب والفحص ما قبل الزواج للتعرُّف على هذه الخلفيات الوراثية المهمة، ومن الطرائف أنه عندما طالبت بعمل الفحص الطبي والنفسي قبل عقد القران، قال لي أحد أولياء الأمور: ( يا دكتور، هو في عرسان عشان نقول ليهم اعملوا فحص!)…
· لماذا يتجه الكثيرون لمعالجة مرضاهم النفسيين إلى الشيوخ؟
– ارتبط الطب في السودان بـ (الحكيم).. والحكيم هذا في الغالب رجل كبير السن يتمتع بخبرة واسعة ولديه دراية دينية، وغالباً يأتي القرية في شكل زيارات، مما أدى إلى وجود فكرة الحكيم الغريب.
ودفع الشعور بالوصمة والخوف من المجتمع وضعف مراكز الطب النفسي وارتفاع تكلفة العلاج تدفع الأهالي إلى اللجوء إلى المعالجين والشيوخ لعلاج المرضى النفسيين.. وزاد من رسوخ فكرة العلاج عند الشيوخ قرب الشيخ للأهالي، كما أن التداوي عنده لا يحتاج إلى كشف وعلاجات وفحوصات، كما أن اللجوء إلى الأشياء الروحانية يمثل حماية من المجتمع ( ولدنا ما جنّا لكن أدوه عين- بتنا ما فكّت منها لكن سحروها)…
· لماذا يهيم الكثير من المرضى النفسيين في الطرقات؟
– المريض النفسي يعاني من الهلاوس والضلالات وبأنه مطارد.. وهذا يؤدي إلى خروجه من المنزل ويكون (خرج ولم يعد)وأغلب هؤلاء يكون عيونه عسلية ويرتدي سفنجة…وهناك مرضى خرجوا منذ أربعين عاما ولم يعودوا.
· ما بين الحب والهوس عند الشباب.. أين الحقيقة؟
– نتيجة للعولمة والانفتاح أصبحت هناك ثورة حب وعشق اجتاحت جميع الشباب لتنتهي بهم إلى مجاعة عاطفية، وبسبب الركلسة والترطيبة واللجوء إلى وسائط التواصل الاجتماعي، اتجهوا للتعبير عن الحب بأشياء لم تكن مألوفة في السابق مثل أن يهدي محبوبته دموعه في فنجان أو أن يكتب لها رسالة بدمه.
· في الآونة الأخيرة تزايد أعداد الشباب من الجنسين في تناول أدوية المرضى النفسيين، وأصبحوا يزورون الروشتات للحصول عليها.. ما تعليقكم؟
– بعض الشباب بسبب العطالة والفراغ وضياع الهدف، ودخول عالم الإنترنت والفضائيات التي أصبح الحديث فيها عن المخدرات والثراء منها، اتجه بعضهم لتعاطيها أو الاتجار فيها وجر غيرهم لتعاطيها، ولجأ الكثير منهم للأدوية النفسية لتعاطيها عبر روشتات مزورة مثل (أب نجمة والخرشة).
· مواقف…
– أجمل ما مر بي من طرائف هو عندما دخلت إحدى المريضات لي في العيادة وسألتني: اسمك منو؟ وذكرت لها أن اسمي “علي” وما كان منها إلا أن صفعتني بمنتهى القوة وقالت: (أحي اسمك زي اسم راجلي).
– اقتحم معتوه عيادتي وأشهر في وجهي سلاحاً نارياً وقال لي : (أنت جورج بوش وأنا أريد قتلك)، فاستأذنته لأخرج له بطاقتي الشخصية، وبعد أن اطلع عليها وفهم بأني طبيب ولا علاقة لي بجورج بوش رئيس الولاية المتحدة السابق، اعتذر لي وبذلك هدأت من روعه وتمكنت من السيطرة عليه وإخضاعه للعلاج وحجزه بمستشفى للأمراض النفسية.
– ودخل علي في عيادتي شاب أخبرني أنه المهديُّ المنتظر،وأنه نزل في أرض الشام إلا أنه وجدها كلها حروب ودمار فأتى إلى أرض السودان وبين يديه رسالة مهمَّة للمسؤولين، فمن أين ينطلق بها؟… فوجهته إلى مستشفى التجاني الماحي.
– ==