بعد أن توارى عن الأنظار : مع اللواء د. "الطيب سيخة" في خلوته..!
يتساءل الناس أين الدكتور “الطيب إبراهيم محمد خير”؟! أين اختفى هذا الرجل بلا خبر ولا أثر؟!
وفي هذه الظروف الغامضة للغياب تكثر الإشاعات وتحاك القصص، وتتداعى الأساطير كأننا في عالم (أرسين لوبين)، ولكني كنت أتابع مسيرة الرجل على البعد، وأعجب بذلك الانقلاب الروحي الهائل الذي حدث في حياته، إنه كاشتعال القناديل في دُجى شاتٍ وليل بهيم..!
كان آخر لقاء لي معه قبل سبع سنوات في أحد مؤتمراتنا السياسية، وكان وقتئذ فتى الإنقاذ القوي، الذي تتجسد فيه إرادتها الغلابة وعنفوانها الموار، وألقها الوضييء الذي يوحي بالأمل لتطبيق تجربة إسلامية معاصرة، تتجدد فيها مقاصد الدين، ومناهج التفكير والاجتهاد والنظر، ويصاغ من خلالها أنموذج رائد وغير مسبوق لدولة حديثة.
لقد ملأ الرجل كل الساحات، وأتقن تنفيذ جميع المهام التي أوكلت إليه، وتدانى إلى الجماهير واقترب من وجدانها، فأحبته ووقرته وأطرته شعراً ونثراً؛ وذلك لأنه يمتلك خصائص الكاريزما الجذابة المتمثلة في التواضع والبساطة والتلقائية والوضوح والأريحية والكرم وفوق ذلك وبعده حزم ومضاء ونفاذ.
جلسنا في ذلك المؤتمر بالقرب من بعضنا، وذلك بعد اتفاقية نيفاشا، وقد أعقب الاتفاقية تشكيل وزاري جديد، غاب عنه اللواء الطيب إبراهيم محمد خير، فسألته: لم لا أراك في هذه الحكومة الجديدة؟
فأجابني بغير ما كنت أتوقع.. قال لي: كم تقدر عمري الآن؟
فقلت: مازلت والحمد لله في شرخ الصبا، ومازلت في العمر بقية من عنفوان..
فقال لي: دعني أختصر لك الطريق، فإن عمري الآن (53) سنة.
ثم أردف يقول: كم بقي لي من الموت؟
قلت: الآجال بيد الله وحده.
قال: أعطني عمر النبي صلى الله عليه وسلم.. قلت له: أطال الله عمرك.
قال: إذن بقي لي من الموت عشر سنوات.. ثم قال: هب أن الله عز وجل أكرمني بعشر سنوات أخرى يكون بذلك قد بقي لي من الرحيل عشرون عاماً. ثم قال: هل يعقل لإمري كيس فطن تناقصت أيامه، وتصارمت أوقاته، أن يدع بقية عمره يفلت من بين يديه؟! لقد قررت يا إبراهيم أن انصرف للدعوة والقرآن.
ثم افترقنا في زحام الحياة، وشعب المدينة، واختفى الطيب إبراهيم محمد خير من مسرح الأحداث، وتوارى في سياج الزمن، يدلج المسير، ويحسن الفرار إلى الله، ويظعن إلى مولاه في خبب موجوع، وأشواق ملتاعة، كما علمت من أصدقائه، وكان بذلك يغالب رغبات الكثيرين من محبيه الذين يريدون له البقاء كما كان، غير أنه مضى غير آبهٍ ويرد عليهم بحديث طيب مستطاب.
وتحضرني هنا مغالبة الأئمة لأهلهم، مثل الإمام الزمخشري عندما قاومه أهله وزوجته “تماضر” فنظم قصيدته العظيمة التي خلدتها الأيام فلم تبْلَ على مرِّ الدهور، وكرِّ العصور، كأبلغ ما قيل في أدب الهجرة إلى الله حيث قال الزمخشري:
قامتْ لتمنعَنِي المسيرَ تماضرُ
أنَّي لها وقرار عزمي باترُ
شامت عقيقة عزمتي فحنينُها
رعدٌ وعيناها السحابُ الماطرُ
ولقد بقيت في نفسي حيرة، وبانت في أعماقي دهشة، لهذا القرار المفاجئ والانصراف السلس المبكر من مشهد السلطة الأخاذ، الذي تتقطع دونه الأعناق، ويتجالد فيه القوم وتتضاءل فيه الفرص والحظوظ، إلا لأمثال الطيب إبراهيم محمد خير، وحينها أدركت أن الرجل يمر بتجربة صحو روحية فارقة، ويقظة قلبية حارقة، برزت عندها حقائق الأشياء، واستبانت من خلالها خيوط من الاستبصار الدقيق، وأقدار من المعرفة الواثقة، نقلت الأخ الطيب إبراهيم محمد خير إلى مستوى معرفي أزهى، ترقَّت فيه أذواقه إلى معارج وضيئة، فانقدحت في قلبه أنوار الهداية والتوفيق والبركات، فتجافي بذلك عن هوى نفسه، وأقبل على ربه، فزج في متعة غير قابلة للوصف والبيان، وقد قال القوم من قبل: نحن في لذة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، وأمثلة الصحو في تاريخنا الإسلامي كثيرة وعديدة، أبرزها ظاهرة الإمام الغزالي في هجرته وعزلته التي امتدت لعشر سنوات، والأمير الصوفي إبراهيم بن أدهم ابن الملوك الذي آثر ما عند الله، وساح في البرايا مشتغلاً بخالقه، بل وفوق ذلك فإننا نجد أن ماضي الإشراق الروحي، والاستنارة المعرفية قديمة في مشهدنا الإسلامي، وقد كان سلفنا الصالح أمثلة الخلود لذلك الصحو والإشراق، وأمامك يقظة سيدنا حارثة.. فقد روى الطبراني والبزار بسنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحارثة: (كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: وما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي حجرها وذهبها، وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يتزاورون، وأهل النار في النار يتضاغون، وكأني بعرش ربي بارزاً، فقال صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم، عبد نور الله قلبه).
فلذلك؛ فإن من نعم الله عن الأخ الطيب إبراهيم محمد خير، وتوفيقه له أن نور بصيرته، وأيقظ فؤاده، فالتفت إلى بقية عمره يعمره بالصلاح والذكر، والإنابة إلى الله، روى البخاري في صحيحه بسنده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بلَّغه ستين سنة) أي لم يُبقِ له موضعاً للاعتذار إذ أمهله هذه المدة المديدة من العمر.
وإنَّ امرءاً قد سار ستين حِجَّة
إلى منهلٍ من وردِهِ لقريبُ
وكان أهل المدينة إذا بلغ أحدهم أربعين سنة، طوى فرشه، وأظمأ نهاره، وأقام ليله، وهكذا كان سلف هذه الأمة، يؤرقهم ضياع الوقت، وفوتُ الأعمار، فيقولون: (إضاعة الوقت من علامات المقت). قيل لنافع: ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما، وقال الحسن البصري: (أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم) وقال الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز: (إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما).
وأنا مشدود بتجربة الأخ الطيب إبراهيم محمد خير، ظللت أتسقَّط أخباره، وأتابع مسيرته الدعوية، وأوبته الروحية، فقد علمت أنه نال درجة الماجستير في إحدى قضايا علم الاجتماع التربوي، ثم اتجه من بعد ذلك بجهد دؤوب، وعزم رشيد وموفق نحو القرآن الكريم، فصمم لنفسه طريقة تطبيقية مبتكرة لحفظ القرآن الكريم – هو صاحب البراءة فيها – ومن ثم عكف على تطبيق نظريته في الحفظ على نفسه، فاستظهر القرآن الكريم في وقت وجيز إكراماً من الله وفضلاً، فصار الرجل من حَفظة القرآن الكريم وأشراف هذه الأمة، ثم واصل سيره المبروك، فتقدم لجامعة القرآن الكريم كطالب دراسات عليا لنيل درجة الدكتوراة في علوم القرآن، وكان موضوع بحثه هو (منهجية الاستظهار الميسر للقرآن الكريم)، وهو موضوع جديد، لم يطرقه باحث من قبل، ولا توجد له دراسات سابقة، أو مراجع بحثية، تعينه على تأسيس خطة البحث وإطاره النظري، ولكن الرجل مضى بإقدامه، وجهده، وذكائه، وعون أساتذته، في كتابة البحث، وتعزيز جانبه التطبيقي حتى وصل بحثه الآن إلى مراحله النهائية، حيث سيناقش قريباً.
وقبل يومين جاءني أخ كريم وقال لي: إنك تتابع أخبار الطيب إبراهيم محمد خير بشغف واهتمام قلت: أجل.. فقال لي: هل لك في زيارته؟ فقلت: هذا ما أرغب فيه وأتمناه، وهذا الأخ الكريم هو صديق عزيز للطيب إبراهيم، ومن أصفيائه الودودين، الذين ما وهنت علاقتهم به في يوم من الأيام، ذلكم هو الأستاذ عثمان محمد إبراهيم الحواشابي، ووفدنا إليه بداره العامرة، وكان كعادته متهللاً بشوشاً يضفي على زواره أريحية وبشرى، كأن الشاعر “زهير بن أبي سلمى” الذي مدح هرم بن سنان يعني الطيب إبراهيم عندما قال:
تراهُ إذا ما جئتَه متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائلُهْ
قضينا معه أربع ساعات، لم نتحدث فيها إلا عن القرآن الكريم وعلومه وأهله وإعجازه وفضله، فحلقنا في أجواء بعيدة ممتعة، وعرجنا إلى السموات العلا، تحت راية القرآن وفي ظلاله، فغاب عنا الزمان والمكان، ثم دلف الطيب إبراهيم يحدثنا عن أطروحته ومنهجه التطبيقي الميسر لحفظ القرآن الكريم، الذي يقوم على أربعة عشر مفتاحاً تطبيقياً، هي لُبُّ نظريته في الحفظ، وسنفرد حديثاً لاحقاً بمشيئة الله عن مفاتيح هذه النظرية، ثم ودعناه، وانصرفنا بعد تهنئته بحفظ القرآن الكريم، وبنظريته التطبيقية المبتكرة، وأن منَّ الله عليه فصار من أهل السبع الذين هم أهل الله وخاصته.