المشهد السياسي
نار القبلية في جوبا إلى متى..؟
موسى يعقوب
ثقافة رأب الصدع وتجاوز سلبيات القبلية في شمال السودان قبل الاستقلال وبعده كانت ثقافة إيجابية وعملية حققت الاستقلال وتجاوزت بالبلاد كل السلبيات والمعوقات تقريباً. فالغناء بأشكاله والكتابة بأنواعها وألوانها كان لهما دورهما الكبير في ذلك، فأشعار السفير “التني” ورصفائه وأغاني أبطال ورموز الحقيبة وكتابات “حسن نجيلة” وغيرهم كان لها دورها الكبير في الاستقرار وتحقيق الاستقلال والاستقرار، والجمع بين الأطراف وهي تواجه المستعمر ثم تعمل من أجل (التعمير من بعد التحرير)، الشعار الذي أطلقه جيل الحركة الوطنية.
بل إن السيد إمام الأنصار “عبد الرحمن المهدي” كان يقول ويردد (لا قبائل ولا أحزاب ديننا الإسلام ووطنا السودان)، وهي العبارة الخالدة التي جمعت بين السيدين “المهدي” و”الميرغني” وخلقت التحالف والعمل المشترك بين أحزابهما في الحكم والسياسة.
وهذا ما لم يكن موجوداً في قيادات ورموز جنوب السودان الذي عملت الدولة الاستعمارية ما وسعها في عزله عن شماله ثقافة ولغة وأسلوب نضال، فقد عرف جنوب السودان رسمياً يومئذ بـ(Closed District) أي المنطقة المغلقة والمعزولة.
فانعكس ذلك سلباً على المجتمع ورموزه وقياداته، إذ لم تكن هناك ثمة علاقة أو رابط مجتمعي بين أبناء الجنوب والقبائل.
وقد بدأ ذلك سياسياً بشكل أكبر عندما أعطيت ولايات وإدارات جنوب السودان حكماً لا مركزياً في عهد نظام الرئيس “نميري” وما بعده، غير أن القبلية طغت على ذلك في عهد حكم الدكتور القاضي والمحامي “أبيل ألير” وهو من “الدينكا” الذي جعل لهم حظاً كبيراً من إدارته في مستوياتها المختلفة مما أثار غضب البعض من رموز القبائل، فأعاد “النميري” تقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق كل منطقة كان لها واليها وإدارتها تجنباً للمشاكل والخلافات في الدولة التي تم فيها التوقيع على اتفاق سلام في 1973م، استمر لعشر سنوات حتى كان نشوء تمرد جديد.
الخلافات السياسية ثم العسكرية التي استمرت حتى بعد اتفاق السلام في 2005م، ونشوء الانفصال ودولة الجنوب الحالية في عام 2011م، وزاد حماها مؤخراً لذات الأسباب، فمحاولات جمع الصف بين القبائل ولا سيما “الدينكا” و”النوير” بقيادة الرئيس “سلفاكير” ونائبه الدكتور “مشار” لم تحقق أغراضها، والمطلوب جنوبياً وعالمياً، فالحروب في جنوب السودان لم تتوقف رغم كل شيء.
لقد كان اللقاء السياسي بين الرئيس “سلفا” والزعيم “مشار” مؤخراً أطروحة أمل كبيرة في أن تستقر دولة الجنوب وتحقق أهدافها التنموية والاقتصادية والمجتمعية التي ظلت بعيدة منذ أمد بعيد، غير أن العكس هو الذي حدث. فالحرب والصدامات بتفاصيلها المزعجة كانت من طرفي رجال القصر “سلفا” و”مشار” حسب ما أفادت أجهزة الإعلام المحلية والأجنبية، والأسباب فيما يبدو هي ذات الأسباب التقليدية.
وأثار ذلك فزع وقلق دول الجوار والدول والمنظمات العالمية، وفي هذه الحالة وكعادته بادر السيد الرئيس “البشير”، رئيس جمهورية السودان، بمهاتفة الرئيس “سلفا” ونائبة الدكتور “مشار” طالباً منهما إعمال العقل والحكمة وتهدئة الأوضاع، وكذا فعلت الدول والمنظمات العالمية التي انشغلت هي الأخرى بما حدث.
ونحن نسأل اليوم عن (نار القبلية في جنوب السودان) في تحليلنا السياسي (المشهد السياسي) هذا الصباح، نقول إنها لن تنتهي إلا بإنزال برنامج شمال السودان الذي أشرنا إليه إلى أرض الواقع.
فأين (التعليم الأهلي) وحملات محو الأمية التي قام بها قادة (التحرر الوطني) من المستعمر إبان الحقبة الاستعمارية في جنوب السودان قبل الانفصال وبعده؟ وأين ثقافة جمع الصف الوطني والعمل على تحريكه إيجابياً؟!
إنها– بتقديرنا– حالة كان أولى بها القادة والرموز في دولة الجنوب، بل أن يتشبعوا بها هم أنفسهم قبل البدء في ترجمتها لبرامج عمل.. تنهي مضار القبلية وآثارها السالبة.