بعد.. ومسافة
صراعات لا تُورِث إلا الدم والندم!
مصطفى أبو العزائم
هي صراعاتنا على السلطة، وكنا قد بدأنا أمس في فتح ملف محاولة الجبهة الوطنية للاستيلاء على السلطة، واقتلاعها من يد الرئيس الراحل “جعفر محمد نميري” وزمرته الحاكمة آنذاك في يوليو 1976م، وأشرنا إلى ردود أفعال خارجية وأجنبية نتيجة لذلك الحدث الغريب، الذي لم يشهد مثله السودان من قبل، إذ أن معارضة خارجية مسلحة ومدعومة من إحدى دول الجوار (ليبيا) حاولت الاستيلاء على السلطة، وأرسلت بذلك سلوكاً جديداً ومؤسفاً حاول غيرها تكراره لاحقاً، من خلال الهجوم على المدن، مثلما يحدث في بعض مناطق دارفور، أو من خلال محاولة الاستيلاء على العاصمة مثلما حاولت أن تفعل ذلك حركة العدل والمساواة بقيادة مؤسسها الدكتور “خليل إبراهيم” قبل عدة سنوات. ولا نحسب أن المحاولات ستتوقف بعد أن أرست الجبهة الوطنية ذلك السلوك الغريب. من أول ردود الأفعال الأجنبية على ذلك الحدث، كانت ردود أفعال كل من سكرتير منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك “وليام أتيكي” و”حسني مبارك” نائب رئيس جمهورية مصر العربية، و”تقري بتي” رئيس المجلس العسكري المؤقت في إثيوبيا، وعدد من الزعماء والرؤساء الأفارقة الذين شاركوا في مؤتمر القمة الأفريقي بموريشوس يوم (الاثنين) السادس من يوليو 1976م. وقد هدد مندوب ليبيا في ذلك المؤتمر بنسف القمة بعد أن وجد خطاب الرئيس “نميري” مساندة أفريقية قوية.. وكانت إحدى أقوى رسائل المساندة للرئيس “نميري” وقتها تهنئة خاصة بعث بها جلال الملك “خالد بن عبد العزيز آل سعود” وأخرى بعث بها الشيخ “زايد بن سلطان آل نهيان” رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
يوم (الثلاثاء) السابع من يوليو أعلن الرئيس “نميري” عن قطع كامل للعلاقات مع ليبيا وسحب كل الدبلوماسيين وطرد البعثة الدبلوماسية الليبية ووقف جميع رحلات الطيران بين البلدين، وإلغاء أي مؤسسات ثنائية واقتصادية وإغلاق الحدود بين البلدين.
وكشف الرئيس “نميري” في ذات اليوم من “جوبا” عاصمة الإقليم الجنوبي عن أسماء الضالعين في تلك المحاولة الفاشلة، وقال إنهم “محمد نور سعد” و”الصادق المهدي” و”عمر نور الدائم” و”الشريف حسين الهندي” و”معمر القذافي” على اعتبار أنهم قواد لتلك العملية الفاشلة.
يوم (الأربعاء) التالي عقد الرئيس “نميري” اجتماعاً موسعاً ضم الوزراء وأعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي السوداني، واستقبل أيضاً السيد “محمد حسني مبارك” نائب الرئيس المصري بحضور اللواء أركان حرب “محمد الباقر أحمد” النائب الأول لرئيس الجمهورية.. ونشرت أجهزة الإعلام اعترافات بعض المشاركين في عملية الغزو تلك بضلوع ليبيا في التخطيط والتمويل.
وفي يوم (الخميس) الثامن من يوليو يعلن الرئيس “نميري” مجدداً عن ثقته وفخره بالقوات المسلحة السودانية ويكشف تفاصيل جديدة عن الوسائل التي اتبعها الغزاة، وكيف أن العقيد “القذافي” أخبره قبل ذلك بأنه يدربهم لتحرير فلسطين.
قام الرئيس “نميري” بالطواف على كل قيادات وأفرع القوات المسلحة، وتم إلقاء القبض على قائد العملية “محمد نور سعد” وقام مجلس الشعب الإقليمي في “جوبا”، بشجب تلك المحاولة وندد بها مطالباً بتسليم “الصادق المهدي” و”الشريف حسين” للسودان وتقديمهما للمحاكمة.
أما كيف تمت العملية وما هي الخطة التي اتبعها منفذوها سنحاول استعراضها بإيجاز في مقال آخر، لكن الأهم من كل ذلك هو أن المحاولة الفاشلة لاحتلال العاصمة فتحت شهية كل معارض يريد إسقاط نظام الحكم ليعمل على (غزو) “الخرطوم” ولا يهم من الذي يدفع الثمن، ولا يهم الثمن نفسه، فالسلطة والحكم عند هؤلاء وأولئك أعظم وأغلى من دماء المواطن السوداني.. لا حول ولا قوة إلا بالله.