أخبار

خربشات (الجمعة)

{ قذف “عمر كافي” بجواز سفره بعيداً عنه ورمى به في قلب الصحراء نظر إلى أوراقه تحملها الرياح.. وتذكر أن صديقاً عابراً التقيا في طريق الهجرة للمجهول قال له إن جواز السفر الأخضر يمكن بيعه بمائة دولار في مصر وليبيا حيث يستخدمه مزورون من بعض الدول الأفريقية.. كاد يحدِّث سائق العربة بالتوقف من أجل جواز سفره لكنه تذكر تعليمات سائق العربة بأن التوقف في الصحراء قد يؤدي لهلاك الجميع ومن يسقط سهواً أو يغالبه النوم يعتبر في عداد خسائر الرحلة.. دع عنك جواز سفر.. أصبحت المسافة بين المواطن الذي يحمله والدولة التي ينتمي إليها بعيدة جداً..
{ وضع “عمر كافي” حقيبته الصغيرة تحت أرجله.. أخرج من جيب البنطال الخلفي (كيس التمباك) الذي تبقى منه القليل جداً.. نظر لزرقة مياه البحر الأبيض المتوسط.. والنجوم التي تتلألأ في السماء.. وأنوار تنبعث من السفن التي تمخر عباب البحر الدافئ والرياح الخفيفة التي تهب على القارب الذي يقوده شاب لا يعرف الدولة التي ينتمي إليها.. لكنه أبيض البشرة.. لا يتحدث مطلقاً مع المهاجرين إلى دنيا أخرى وعالم الأحلام.. والنجاة من جحيم الأوطان الأفريقية.. تساءل “عمر كافي”: لماذا بلاد الإفرنج الكفرة الذين كنا ندعو في صلواتنا بأن يبدد الله شملهم ويهلك حرثهم ونسلهم ونحن اليوم نهفوا إلى بلادهم.. نستجير بها من ظلم قادتنا لنا.. نتنفس في بلادهم بحرية.. نتعلم القراءة والكتابة.. لا ينزع طمأنيتنا في هجعة الليل زائر يشهر السلاح في وجوه الأطفال وينتزع الرجل من حضن زوجته ويرمي به في غياهب السجن ليمضي عام وعامان ويطلق سراحه دون أن يمنحه القانون حق التعويض عما حاق به.. كان يجلس إلى جوار “عمر كافي” شاب من دولة سيراليون وآخر من إثيوبيا وإلى شماله فتاة من أريتريا.. وأخرى من الصومال وشاب يمني يرتدي (بردلوبة) تكشف عن هويته العربية وثلاثة سودانيين “عمر كافي” من جبال النوبة و”هارون أبكر” من ضواحي الفاشر و”سيد أحمد” من تنقاسي السوق بأقاصي شمال السودان.. ثلاثتهم فرقت بينهم جغرافية الوطن وجمعتهم مركبة الخلاص إلى دنيا غير (دنياي بنحلم) كما يقول مغني الطمبور.. أخذ المركب تتقاذفه أمواج البحر العاتية والصمت يخيم على المكان.. وتتسرب قليل من المياه إلى الداخل.. ويتوجع المركب ويئن من شدة الرياح.. والسماء الصافية قد تلبدت بالسحب السوداء.. وطافت بمخيلة “عمر كافي” أمطار يوليو في بلاده والبرق والرعد والصواعق التي كثيراً ما تؤدي لمقتل بعض الناس.. وأخذت الأمطار تهطل في عرض البحر.. والجوع يتسرب إلى البطون.. والليل العاصف يهدد بغرق المركب.. وأخذت قصص الضحايا الذين سقطوا من قبل هي القاسم المشترك.. “سيد أحمد” الشايقي كان ثالث اثنين كتب الله لهما النجاة من غرق مركب قبل ثلاثة أشهر بالقرب من سواحل مالطا.. في تلك الحادثة لقي سبعة من أبناء السودان مصرعهم غرقوا في البحر ولم يتركوا حتى وصية لذويهم.. ولا يزال أثر الحادث يدغدغ مخيلة “سيد أحمد” الشايقي.. لكنه متمسك بالعودة لأوروبا.. أخذ يروي كيفية غرق المركب والأمطار التي تهاطلت على المركب في البحر.. وكيف فقد المصري الذي يقود المركب الصغيرة القدرة على مقاومة شدة الرياح وأمواج البحر.. وكيف كتب النجاة لأربعة فقط من المهاجرين.. أنقذتهم سفينة صيد مالطية.. وتم إيداعهم السجن بعد تلقيهم العلاج.. وقد استطاعوا الهروب من السجن ليلاً إلى سفينة حملتهم إلى ليبيا..
(2)
في الأفق البعيد أنوار مشعة.. وقد هدأت أنفاس البحر.. ولكن رحلة الأيام الثلاثة قد أنهكت جسده.. ونفد (السعوط).. وتقاسم شركاء الرحلة آخر سبع رغيفات.. هي أنوار مدينة نابولي في الجنوب الإيطالي تذكر “عمر كافي” بمعرفته بالرياضة أن اللاعب الأرجنتيني الفذ ديغو ماردونا حينما سجل في فريق نابولي الإيطالي جعل الحياة الاقتصادية تزدهر.. ويتضاعف عدد السواح.. وينافس فريق الجنوب الإيطالي العمالقة الكبار (ميلان) والسيدة العجوز (جيفنتوس).. و(روما) الذي يمثل العاصمة الإيطالية.. تساءل “عمر” لماذا في بلادي السوداني تحتكر العاصمة كل شيء الفن وكرة القدم.. والثروة وكل الصحف تصدر من الخرطوم.. ولكن هنا في إيطاليا.. يعتبر فريق (جيفنتوس) فريق مدينة مثل الفاشر وكسلا ولكنه فريق عالمي.. مثل مانشستر يونايتد في بريطانيا وليفربول، وكلاهما فريقي ولايات ولكنها ولايات ليست مثل ولاياتنا.. أمر سائق المركب الجميع بالاستعداد للقفز على الشاطيء بعيداً عن أنظار خفر السواحل استجمع “عمر” كل قواه.. وتذكر أنه كان مصارعاً في وطنه.. وقادراً على الجري لساعات دون أن ينال منه التعب.. اقترب المركب من اليابسة لكن فجأة ظهرت دورية من خفر السواحل.. مترصدة بالقادمين عبر البحر.. قبل أن يبتعد المركب مجدداً هروباً من خفر السواحل قفز “سيد أحمد” إلى اليابسة.. سمع صوت ابن وطنه يصرخ “الله.. الله” لم يتبين بعد هل كسرت ساقاه أم سقط في أسلاك تسمى غواتناموا.. المهم ابتعد المركب عن تلك المنطقة.. أطفأ أنواره وتوقف لبرهة في وسط المياه الإقليمية.. “عمر” عاوده الحنين.. وحدثه ضميره.. كيف لا يضحي من أجل سوداني مثله.. البحار الماهر.. اتجه مرة أخرى إلى الساحل وأخذ يتحدث عبر الهاتف المحمول إلى أشخاص داخل إيطاليا.. يمثلون الطرف الآخر من خلية المهربين.. عاد مسرعاً بالمركب يبعث أنواراً متقطعة.. حتى بلغ الساحل مرة أخرى.. وطلب من الجميع مغادرة المركب بسرعة قبل وصول خفر السواحل.. وضع “عمر” ورفقاء دربه الذين لم يفكروا طوال الرحلة في جمال الأريتريات اللائي كن برفقتهم لثلاث ليالٍ.. تذكر “عمر” حقيبته في المركب لكنه ابتعد مسرعاً للبحر وقال في نفسه أنسى بنطال الجنز.. والمفكرة التي بها عناوين بعض الأصدقاء.. وأرقام الهواتف التي لا يحفظ منها إلا رقم “سمية” وخاله “حماد كافي”.. وشقيقه الذي بترت ساقه في الحرب وأصبح بائعاً في سوق الخرطوم يقاوم الكشة بعصاه يتوكأ عليها.
(3)
أخذ “عمر” يتجول في المدينة الإيطالية الثرية.. أولى النصائح التي أسداها إليه “تسفاي” الإثيوبي أن هذه البلاد لا يحكمها البوليس ولا الجيش إنما القانون وحده.. لا يستطيع الشرطي إيقافك وتوجيه السؤال إليك عن (هويتك) إلا إذا ارتكبت جريمة يعاقب عليها القانون تستطيع الحصول على المال إذا وجدت مزارعاً للعنب يبحث عن عمال.. تقاربت المسافات بين “تسفاي” و”عمر”.. وقررا ربط مصيريهما.. وتوحيد كفاحهما وكليهما من بلد واحد فرقت بينه الحدود الجغرافية، أمضيا الليلة الأولى تحت جسر صغير في المدينة رغم الرطوبة.. وضجيج السيارات.. حصلا على خبز وشوكولاته من امرأة شقراء تسكن لوحدها في شقة واسعة دعتهما لنظافة الشقة وغسل الملابس.. ونظافة الحمامات، في اليوم الثالث غادر “تسفاي” إلى ميلانو وظل عمر مقيماً تحت الجسر ينتظر أن تجود عليه السيدة العجوز ببعض الرغيف وبقايا الطعام.. لكنه ينظر لنفسه بأن نصف أحلامه قد حققها بالإقامة تحت جسر في إيطاليا.. بعد أن كان يقيم في أطراف المدينة التي لفظته بعيداً عنها..
ولنا عودة وكل جمعة وأنتم بخير

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية