هل تعيد مذبحة "كرينك" دارفور للصراع الإثني البغيض؟؟
دموع الجنينة أم السودان
“الغنوشي” بين واقعية مفكر وشعارات تنظيم
حركة النهضة تعيد نفسها لدائرة الأحداث في مؤتمرها العاشر
حديث السبت
يوسف عبد المنان
أثارت المواقف التي أعلنها مؤخراً المفكر الإسلامي وزعيم حركة النهضة التونسية “راشد الغنوشي” في المؤتمر العام لحزبه جدلاً واسع رج العالم الإسلامي رجاً، وفتح أبواب حوار بين التيار الإسلامي والتيارات اليسارية.. وعادت القوى الغربية المتوجسة خوفاً من كل إسلامي إلى قراءة مواقف الإسلام السياسي المعتدل، بعد أن صمت أذنيها عن كل دعوة للإسلام.. وحفر الكتاب عميقاً في تربة وأرض حركة النهضة عن بواعث أقوال “الغنوشي” التي جاءت صادمة لبعض حركات الإسلام السياسي، حد زعم بعضهم أن المفكر التونسي بات قريباً من العلمانية الحديثة، وبعيداً عن جذور حركته الإسلامية التي تمتد لحركة الإخوان المسلمين في مصر، وحينما يتحدث “راشد الغنوشي” بواقعية اجتماعية وسياسية بعيداً عن زخم الشعارات، ويقول إن مصلحة تونس الدولة مقدمة على مصالح النهضة الحزب التي تخسر وتكسب تونس، وهي إشارة لتنازل النهضة عن رئاسة الدولة لحلفائها في السابق وتمسكها بالحرية والديمقراطية باعتبارها قيماً لا مساومة حولها.. وحدد “الغنوشي” بصورة قاطعة ونهائية لا تقبل الجدل أن حركة النهضة حزب ديمقراطي وطني بمرجعية تنهل من قيم الإسلام، ولم يقل “الغنوشي” إن حزبه مرجعيته الكتاب والسنّة كما تقول حركة الإخوان في مصر، والحركة الإسلامية في باكستان والحركة الإسلامية في السودان، وحركة السفليين الجهاديين في ليبيا.. وقد عدّ حديثه عن مرجعية الحركة أنها تنهل من قيم الإسلام بمثابة اعتراف ودعوة لعلمانية الحزب. ومضى “الغنوشي” في خطابه التاريخي يقول: (إن التخصص الوظيفي بين الإسلام السياسي وبقية المجالات المجتمعية ليس قراراً مسقطاً أو رضوخاً لإكراهات ظرفية، بل تتويجاً لمسار تاريخي يتمايز فيه المجتمعي عن الثقافي والدعوي في حركتنا، وإننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية).. وفي هذا الموقف يقف “الغنوشي” على مقربة من المفكر “محمد إقبال” الذي قال إن الحركات الإسلامية تنقسم إلى مدرستين، مدرسة كلامية تتعامل مع المشكل الإسلامي في الإطار الذهني المجرد، ومدرسة عملية تهدف إلى تغيير جوهر الإنسان ومحيطه الاجتماعي.. وتختلف المدرستان في رؤيتهما للنهضة الإسلامية المرجوة.. و”راشد الغنوشي” يمثل مدرسة ذات بعد فلسفي وتربوي عميق، قرأ جيداً واقع مجتمعه تونس ومحيطه المغرب العربي، وتأثير الثقافة الغربية على ذلك المجتمع، وانتشل حركة النهضة من خندق المواجهة والمفاصلة مع الآخر لفضاء التعايش والقبول بالأمر الواقع، والرهان على التغيير بالفكر والرؤية والمشروع الحضاري الدعوي.. ونبذ “الغنوشي” أفكار ومدرسة “سيد قطب” التي تميل إلى المفاصلة والمواجهة رغم تشابه ما تعرض له “سيد قطب” من بطش وتنكيل وسجون وحرمان في مصر ومصادرة لحقوقه الدستورية والقانونية والإنسانية، وما تعرض له الإسلاميون في تونس من بطش وقتل وانتهاك للحقوق من قبل جلازوة النظام العسكري السابق، أو إن شئت الدقة النظم العسكرية التي وطئت بأقدامها على كل قيم تونس وحضارتها.. ومزقت أحشاء المجتمع بالبطش وسوّمته العذاب، وقد تأثر “سيد قطب” كما يقول المفكر الإسلامي “محمد عمارة” بالإمام “ابن تيمية” الذي في نظر “عمارة” لم يكن عالماً كسائر الشيوخ ولا متصوفاً مثل الإمام “الغزالي” ولكنه كان مجاهداً يهدف إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي، لذلك كان لـ”ابن تيمية” دور في حشد المسلمين لصد هجمات الصليبيين والتتار، ووقف في كبرياء وشمم في وجه حكام الجور وعلماء السوء، وتحمل في سبيل تلك المبادئ والقيم أذى، لكنه كان رجلاً عملياً لا جدلياً، ومثله كذلك الشيخ “محمد عبد الوهاب”.. ومواقف “راشد الغنوشي” سبقت إعلانها تسريبات مقصودة عن قرب ابتعاده في المفاصلة عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الذي يسيطر عليه المصريون في كل زمان ويتخذونه مملكة خاصة بهم لا ينبغي للآخرين من دول الأطراف إلا الإذعان لشروطهم والقبول برؤيتهم والخضوع لأبويتهم، وتلك ثغرة الضعف التي جعلت زعيم الحركة الإسلامية في السودان د.”حسن الترابي” ينأى بنفسه وحركته عن ذلك التنظيم، الشيء الذي جر عليه خصومات داخلية وخارجية.. وبعد (48) سنة من انفصال “الترابي” عن حركة الإخوان المسلمين وخروجه من تحت الطربوش المصري، يقف “راشد الغنوشي” أحد أهم المفكرين في العالم العربي والإسلامي اليوم ويجهر بمواقفه التي (رجت العالم رجاً) ورمى بحجر في بركة ساكنة، ما جعل الإسلاميين يعيدون قراءة موقفهم وموقف الإسلاميين التوانسة، الذي شكل محطة تاريخية مهمة جداً في مسار التجربة التي تخوضها تونس وهي ديمقراطية حرة، تتعايش من خلالها التيارات الفكرية.. وبدا “الغنوشي” قريباً من العقل الغربي الواقعي، وبعيداً عن العقل الشرقي الذي تطغى عليه العاطفة، حتى أن المفكر “محمد إقبال” رهن نهضة المجتمع الإسلامي بقوله: (المجتمع الإسلامي لن ينهض إلا بقلب شرقي وعقل غربي، والقلب الشرقي تعبير عن الأصالة المبدئية، والعقل الغربي تعبير عن الفاعلية والروح العملية).
{ الوعي بالمكان
هل أدرك الشيخ “راشد الغنوشي” الذي درس الفلسفة اليونانية والإغريقية القديمة وله رؤى وأفكار في التربية والتعايش مع الآخر، هل أدرك ضرورة الوعي بالمكان والزمان في سياق البحث عن قيم مشتركة للتعايش مع الآخر؟ وقد عاب الباحث والمفكر د.”محمد مختار الشنقيطي” على الحركات الإسلامية في العالم المعاصر ضعف الوعي بالزمان والمكان، فالعيوب المنهجية في الخطاب السلفي مثلاً ترجع للإحساس بالزمان والمكان نتاج ما اتسمت به من فكر إطلاقي وانشغال بالعموميات عن التفاصيل، وعدم إدراك الخصوصيات، لذلك حتى على مستوى المعارف انقطع الإسلاميون في المغرب عن معرفة تاريخ الإسلاميين في مصر، ومن قادة الأفغان من “البشتون” أو “الطاجيك”، وقد ظلت الحركات الإسلامية في دول الوسط تنظر مثلاً للحركة الإسلامية السودانية بشيء من الفوقية.. وكثيراً ما كتب المحللون بأن د.”الترابي” ظلمته الجغرافية، ولو كان من منطقة الشام أو الحجاز أو نجد لسارت بعلمه الركبان، وكذلك الحال، فإن تونس نفسها دولة أطراف و”راشد الغنوشي” رغم رؤيته المتقدمة وفكره الثاقب لا يجد الاعتراف الذي يستحقه حتى من الإسلاميين في الخليج ومصر، وتلك من مشكلات عالمنا، التي قال فيها “الغنوشي”: (ما الذي يهمنا نحن المسلمين المتخلفين المنهزمين، وبلادنا تتقاذفها مختلف التيارات الثقافية ومجتمعنا يمر بأخطر التناقضات والأزمات، أن نعرف موقف المعتزلة من صفات الله.. هل هي قائمة بذاته أم هي زائدة عن الذات، ثم موقف “ابن رشد” من الكون هل هو قديم أم محدث، ورأي “ابن سيناء” في النفس وخلودها، وموقف “الأشعري” من الكسب). مثل هذا الرجل يدرك بعمق رؤيته وبصيرته أن تونس التي ذاق مرارة السجون على أيدي حكامها دولة يجب احترام تعدد تياراتها الفكرية المرتبطة وثيقاً بالثقافة الفرنسية، وبتأثيرات باريس السياسية على الأوضاع في المغرب العربي، وإذا كان الإمام “الخميني” قد بعث حركة إسلامية جماهيرية مهما اختلف الناس حولها مذهبياً في إيران، فهي ثورة غيرت معالم تلك الدولة الفارسية.. والذي جعل “الخميني” يحرك الشارع والمسلمين الشيعة ليس فكره النظري، وإنما أفكاره العملية وأهمها ولاية الفقيه، التي استطاع من خلالها إقناع أبناء طائفته بأن إرث الشيعة في انتظار إمام غائب هو قمة السلبية مثل انتظار بعض السنيين للإمام “المهدي” المنتظر. ومن شأن ذلك جعل الشيعة سلبيين في الحياة يخضعون لحكام الجور والعسف، وأنه لا مكان للسلبية في عالمنا المتحرك، وقد أيقظ الإمام “الخميني” الشيعة من (رقادهم) الطويل وأعادهم إلى مسرح التاريخ من جديد.. ولكن ثورة “الخميني” في إيران لا وقود لها في دولة مثل تونس، ولا مقومات لنهوض ثورات كبيرة تغير مجرى التاريخ. قد ينتفض الشعب لاقتلاع نظام فاسد وحكومات طاغية ومستبدة، وفي مذهب بعض السلفيين أن الخروج عن الحاكم لا يجوز شرعاً إلا إذا منع المسلمين من أداء الشعائر، وتلك فتاوى قد تصبح على (مقاسات) حكام الجور والظلم والاستبداد الذين يعمرون في كراسي السلطة عشرات السنين، ولكنها فتاوى تعدّ ثغرات كبيرة لأن مهمة المسلمين إعمار الأرض وبسط العدل، ولا عدل ولا إعمار في ظل نظم استبدادية، وأولى ضحايا مثل هذه الفتاوى التي تخرج غالباً بالقرب من كراسي السلاطين، هي الحركات الإسلامية نفسها، التي وصفها “غراهام فولر” ضابط المخابرات الأمريكية الشهير والمحلل البارز في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم بأنها أكثر أصالة وأعمق جذوراً في المجتمع من أي حزب آخر، وأقل نخبوية وأقرب إلى هموم الناس من الأحزاب الأخرى.. ولهذا السبب ظلت تركيا أتاتورك العلمانية تمنح أصواتها وتعطي ثقتها للإسلاميين الديمقراطيين، لا بسبب انتماء تنظيمي وفكري، ولكن لنموذج طهارة الحكم والاستقامة السلوكية للوزراء الذين قدمهم حزب العدالة في تركيا، الذي انتشل الدولة من مستنقع الفساد الآسن، حيث بددت النخبة العسكرية من الطغاة الأتراك قدرات تلك البلاد وجعلتها في مقام غير مقامها.. ومانعت أوروبا الموحدة في انضمام تركيا لدول الاتحاد الأوروبي نظراً لفسادها وطغيان حكامها.. وبعد وصول الإسلاميين الديمقراطيين إلى الحكم في تركيا تنامت معدلات النمو في الاقتصاد التركي، وانخفضت نسبة البطالة في البلاد، وتم توفير (450) ألف فرصة عمل في العام الأول، و(750) ألف فرصة عمل في العام الثاني، وبعد أن كانت أنقرا تصدر لأوروبا المتاعب والمهاجرين الفقراء أخذ الأوروبيون يتجهون الآن باستثماراتهم نحو تركيا الحديثة، ولم يخلع “رجب طيب أردوغان” ثياب الدولة العلمانية ويفرض على نسائها الحجاب قسراً.. ولم يعول “رجب طيب أردوغان” و”أحمد داوود أوغلو” على الشرطة وقوات الأمن والجيش لإقامة مشروع تركيا الحديثة، ولم يبدد قادة تركيا طاقات البلاد في مناوشات جانبية وصراعات دون طائل.. كان الرهان على قضايا المجتمع الحياتية أكثر من إشباع النفوس بالآمال والأشواق ودغدغة العواطف.
{ اختلاف مشروعات
قد يذهب قائل: هل من اختلافات جوهرية بين المشروع الإسلامي في تركيا والمشروع الإسلامي في تونس، وباكستان، والسودان؟؟ الإجابة بالطبع نعم، فإذا كان النموذج التركي قريباً من واقع المجتمع بفلسفته الاقتصادية ونظرته العميقة لضرورة قراءة الواقع العلماني للدولة.. وتأثير مدرسة الفلسفة ودراسة الاقتصاد وتخصص قادة حزب العدالة في التنمية قد جعل الرهان الجوهري على التغيير في مخاطبة الواقع الاقتصادي للمجتمع، فإن الحركة الإسلامية في السودان قبل أن تخوض في وحل السلطة وتتعرض لنكبات وخيبات وانقسامات كانت حركة متقدمة على الآخرين لارتباط الفكر بالعمل وأمر صيغ نتاج الحركة وحصادها، ويقول د.”حسن مكي”: (من خصوصيات هذه الحركة أن خياراتها وصيغها وبرامجها تبلورت في أرض الواقع ونضجت من محك التجربة)، ولكن من سلبيات الحركة التي أثرت فيما بعد على الممارسة وصبغتها بالعنف، يقول د. “محمد مختار الشنقيطي” إنها ثقافة الجيل الأول من رواد الحركة الإسلامية الذين طغى على تكوينهم العقلي وخطابهم السياسي أثر القانون، حيث خرج أغلبهم من مدارس القانون والشريعة، والقانونيون أقل جمهور المثقفين كتابة في قضايا الفكر والحضارة والثقافة، وكثيراً ما انتظر الناس مثلاً أن يكتب “علي عثمان محمد طه” أو د.”غازي صلاح الدين” أو “سيد الخطيب” أو “أحمد إبراهيم الطاهر” أو الشيخ “إبراهيم السنوسي” أو الشيخ “الزبير أحمد الحسن”، شيئاً عن الفكر والثقافة من واقع التجربة، لكن هؤلاء استسهلوا الحكم عن طريق التدابير الأمنية وجعلوا الحفاظ على السلطة غاية تعلو على القيم الراسخة والفضائل.. وقد تأثرت التجربة الإسلامية في السودان بنظم الانضباط العسكري، وتراتيب القيادة التي تجعل من القائد هو الملهم الذي لا يخطئ ولا يجوز نقده علناً ولا سراً.. وبذلك وضعت تجربة الحركة الإسلامية السودانية نفسها في (محك) صعب جداً حينما يتم تقييم منصف لها في قادم السنوات.. ولكن التجربة التونسية قدمها “راشد الغنوشي” في ثياب جديدة، وفكر عصري في زمن تكالب فيه على الإسلام السياسي من تكالب، وأصبحت الحركات الإسلامية مهددة في وجودها خاصة مع تنامي ظاهرة (داعش) التي هي أكثر خطراً على الإسلاميين من إقصاء العلمانيين.
{ أحداث “كرينك” ودموع ولاية
قال والي غرب دارفور د.”خليل عبد الله” إن معلومات جديدة قد تم التوصل إليها بشأن أحداث (أزرني) بولايته التي راح ضحيتها (9) أشخاص، وقال إن الأجهزة الأمنية وصلت لرأس الخيط الذي يقود للقبض على الجناة وتقديمهم للمحاكمة.. ذلك ما ورد في الصحف يوم (الأربعاء) الماضي.. لكن ذات الوالي د.”خليل عبد الله” قال في تصريحات صحافية بعد أحداث (مولي)، التي اقتحم فيها النازحون منزل الوالي وعاثوا فيه فساداً، إن الحكومة توصلت لمعلومات كاملة عن المتورطين في الأحداث، وإن الأجهزة الأمنية ستلقي القبض على المتورطين وتقديمهم للمحاكمة العادلة، ذلك ما جاء على لسان د.”خليل” قبيل أربعة أشهر من الآن، وبعد ستة أشهر إذا لم يتم إنقاذ ولاية غرب دارفور مما هي عليه الآن، فإنه قد يعلن مواقف مشابهة ويتوعد لمحاكمة الجناة ويباهي بعصا السلطة التي أصبحت في تلك المناطق عصا من (عُشر) وهو نبات ضعيف البنية.. وغرب دارفور التي قيل إنها أكثر ولايات دارفور استقراراً بحكم أنها أولى الولايات الدارفورية التي (أخرج) منها التمرد تعاني منذ فترة ليست بالقصيرة من انقسامات مجتمعية جادة جداً، وقد تبددت الثقة بين مكوناتها.. ولكن الحكومة ترفض الاعتراف بالأمر الواقع، والسياسيون من أبناء المنقطة يمارسون الهروب من أمام المشكلة.. وحده السلطان “سعد بحر الدين” سلطان عموم “دار مساليت” يصدع بالصوت العالي عن الأزمة الكامنة، ولكن من يسمع لهذا الرجل؟؟
في ولاية غرب دارفور هناك انقسام مجتمعي حقيقي بين “المساليت” والقبائل العربية، وكل الأحداث التي شهدتها الولاية بسبب تبدد الثقة والتشاحن والتباغض بين “المساليت” والعرب.. وتعود جذور هذه القضية لمنتصف التسعينيات حينما بدأت هجرة القبائل العربية بكثافة من شمال دارفور إلى تلك المنطقة بسبب موجات الجفاف والقحط، وقلة المياه.. ووجدت هذه الهجرة في بادئ الأمر ترحيباً من قبل “المساليت”، ولكن سرعان ما تنامى شعور وسطهم بأن البدو العرب هم مستوطنون جدد يريدون السيطرة على أرضهم والقضاء على إرثهم التاريخي وحقوقهم المكتسبة، وتمت تغذية الشعور بالكراهية من قبل الحركات المسلحة التي حرضت “المساليت” ضد القبائل العربية، واستثمرت في هذه الاختلافات والنزاعات.. وكانت أحداث (مولي) الأولى بمثابة مأساة هذا القرن في دارفور، حيث قتل من “المساليت” في ليلة ظلماء (60) من الرجال والنساء.. وقاومت القبائل العربية التمرد ووقفت إلى صف الحكومة ليس حباً فيها ولا قناعة بأطروحاتها، لكن بغضاً في التمرد الذي هدد وجودها ورفع شعارات عدّتها القبائل العربية معنية بها مثل شعار (تحرير دارفور).. وبعد أن ضعف التمرد وفشل في تحقيق أهدافه، وتوقيع عدد من قادته لاتفاقيات مع الحكومة، لم (تفكر) جهة في عقد مؤتمر للمصالحة والتعايش في غرب دارفور بين “المساليت” والعرب لغسل ما في النفوس من تراكمات سالبة ودخان كثيف في الصدور.. وتعامى الجميع عن حقائق الواقع.. العرب يسيطرون على السلطة وبيدهم السلاح ويعدّون أنفسهم حكومة ودولة، يتصرفون وفق ما تمليه عليهم ثقافة البدو.. و”المساليت” حانقون غاضبون متربصون بالعرب.. وكل الأحداث التي شهدتها غرب دارفور هي بين العرب و”المساليت”، لكن الحكومة لا تعترف بالأمر الواقع وترمي أخطاءها على الآخر، وتقول كلاماً (جميلاً) وتتقاصر همتها عن الأفعال.. إذا كانت أحداث (مولي) لم يقبض إثرها على مجرم ولم تنعقد محكمة واحدة لبسط العدالة، فإن الحديث عن محاكمة الجناة في أحداث (أزرني) تصبح أمنيات بعيدة عن الواقع.. وقد تواترت أخبار عن دفع الجناة من القبائل العربية ديات (عجاجية) لذوي الضحايا في محلية “كرينك” من غير إرادة ذوي الضحايا، لكن بقبضة القوي وحكمه على الضعيف.. وإذا سألت أي مسؤول في الخرطوم عن الذي يحدث في غرب دارفور فإنه أولاً يبرئ الوالي لأن في نظر المسؤولين إدانة الوالي تمثل إدانة للحكومة والنظام وتنتقص من هيبة الحكم وفاعليته، لذلك إذا أخطأ معتمد في محلية طرفية يتولى الدفاع عنه من هم في المركز قبل والي ولايته.. لكن الاحتقان الذي تشهده غرب دارفور بصفة خاصة والانقسامات الحادة في المجتمع إذا لم تجد من ينزع غلالة العنف عنها، ويجلس العرب و”المساليت” على الأرض ويتواضعون على ميثاق تعايش وتسوية كل الخروقات السابقة والتعافي والتصافي، واختيار حكومة مناسبة لها القدرة على الفعل الموجب، فإن دارفور قد تعود لما هو أسوأ من أمسها.. لأن الصراعات العرقية والإثنية أكثر مرارة وفظاعة من الصراعات ذات الطبيعة السياسية.