بعد.. ومسافة
حل الحزب الشيوعي.. تمهيد للانقلاب على السلطة
مصطفى أبو العزائم
قصة حل الحزب الشيوعي، قصة طويلة، مسرحها عريض، وجمهورها بين منتبه وغائب ومغيب، وآثار ذلك الحل ظل السودان يعاني بسببها لسنوات طويلة، وقد تولدت الضغائن السياسية والحقد المتنامي يوماً بعد يوم داخل أفئدة القادة والسياسات منذ أن خاطب الدكتور “مبارك الفاضل شداد” رئيس الجمعية التأسيسية، جلسة الجمعية رقم (36) في يوم (الاثنين) 13/12/1965م، عند العاشرة وسبع دقائق.. في مستهل الجلسة. وقال (يسرني أن أنقل لكم موافقة مجلس السيادة على مشروعات القوانين التالية):
1. قانون التصديق على اتفاق القرض بين السودان والكويت 1965م.
2. قانون حل الحزب الشيوعي لسنة 1965م.
نعم.. بدأت مرحلة جديدة منذ ذلك التاريخ حفلت بالتصفيات وحصدت فيها مناجل الموت أرواح الكثيرين، وسالت فيها دماء كثيرة، إذ تحفظ مضابط الجمعية التأسيسية وقائع الجلسة رقم (39) المنعقدة في العشرين من ديسمبر 1965م، تحفظ أن الدكتور “حسن عبد الله الترابي” النائب عن دوائر الخريجين، تقدم بمقترح للجمعية بأن تقرر أنه وبحكم الدستور والقانون قد أسقطت العضوية عن السادة “حسن الطاهر زروق”، “عز الدين علي عامر”، “محمد إبراهيم نقد”، “عمر مصطفى المكي”، “الرشيد نايل”، “عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة”، “الطاهر عبد الباسط” و”جوزيف قرنق”.
وطلب الدكتور “الترابي” أن تكلف الجمعية رئيسها بحفظ النظام في الجلسات بإبعاد أولئك النواب، وثنى الاقتراح النائب “عبد الله الطيب جدو” الدائرة (37) الفاشر الغربية، واعترض العضو الدكتور “عز الدين علي عامر” وخرج محتجاً.
حدثت تطورات داخل وخارج قاعة الجمعية التأسيسية، وقال “الحاج مضوي محمد أحمد” نائب دائرة المسيد كلمة تناقلتها الأجيال البرلمانية لطرافتها رغم جو الأزمة القاتم، فقد علق على خروج الدكتور “عز الدين علي عامر” بأنه خرج قبل أن يعرف المصير المحتوم، وأنه لولا اللوائح لكان لنا – هكذا قال – موقف آخر من التحدي الذي حدث من الأخ الأحمر، وأن الذين يشكون في أعمال هذه الجمعية ليسوا جديرين بعضويتها لأنها تملك كل شيء، فقط أن تحول الرجل إلى امرأة! ما عدا ذلك فإنها تمثل الشعب، وإن الاقتراح المطروح أمام الجمعية يجب أن نوافق عليه بالإجماع.
أعضاء الحزب الشيوعي الذين لم يتم طردهم من البرلمان كانوا هم السادة: “فاطمة أحمد إبراهيم” التي ترشحت للبرلمان عن الاتحاد النسائي، و”محمد سليمان محمد أحمد” الذي ترشح تحت مظلة المعلمين الاشتراكيين، و”محجوب محمد صالح” الذي دخل البرلمان تحت مظلة الاشتراكيين الديمقراطيين.
عدد قليل من النواب وقفوا ضد حل الحزب الشيوعي، وبعضهم التزم بقرار حزبه بحل الحزب الشيوعي، رغم رأيه الشخصي بعدم دستورية الحل.
أصدر رؤساء تحرير الصحف بياناً للشعب ولنواب الجمعية التأسيسية أشاروا فيه إلى أن الأزمة التي شهدتها البلاد عقب ندوة معهد المعلمين العالي والتي تحدث فيها الطالب “شوقي محمد علي سليمان” والتي قاطعته خلالها السيدة “سعاد الفاتح البدوي”، وأمسكت بالمايكروفون مهاجمة المتحدث وانتماءه الحزبي.. مؤكدين على إدانتهم للحادث والتخريب والإرهاب الذي يشكل خطراً على الديمقراطية التي تحققت بالتضحيات. وقالوا إن استغلال هذا الحادث للقضاء على الأحزاب المعارضة أمر أشد خطورة على مستقبل الديمقراطية والأمن، وتهديد للحريات العامة والحقوق الأساسية التي كفلها الدستور، وهو خطوة في طريق الحكم التسلطي. وقال رؤساء تحرير الصحف في بيانهم للنواب إنهم يثقون في استشعارهم لمسؤوليتهم التاريخية وأنهم سيقفون إلى جانب الديمقراطية وحماية الحريات والدستور، وأنهم سيقفون ضد أي اتجاه لحل الأحزاب المعارضة للرأي إيماناً بأن الرأي لا يجاريه إلا الرأي والفكرة.
حمل البيان الأشهر في تاريخ الصحافة السودانية، توقيعات الأساتذة “بشير محمد سعيد” (المورننغ نيوز)، “عابدين محجوب لقمان” (الرأي العام)، “صالح عرابي” (التلفزيون)، “محمود أبو العزائم” (الزمان) “فضل بشير فضل” (السودان الجديد) “محجوب محمد صالح” (الأيام) “صالح محمد إسماعيل” (أكتوبر) “حسن مختار” (الصحافة) “عوض برير” (أخبار الأسبوع) “آمال عباس” (صوت المرأة) “حسين حواش” (الناس) “سعد الشيخ” (أخبار الخرطوم) “زين العابدين أبو حاج” (صوت السودان) “رحمي محمد سليمان” (الأخبار) “حسين عثمان منصور” (الصباح الجديد) “عمر كرار” (أنباء أفريقيا الجديدة) “عثمان العقيلي” (الأنباء السودانية). وقبل طرد النواب الشيوعيين من البرلمان كان الأستاذ “محمد إبراهيم نقد” قد تحدث في مؤتمر صحفي عقده الحزب الشيوعي، قال فيه إن حادثة طالب معهد المعلمين العالي، حادثة أدانها الحزب الشيوعي، وإنه ينتظر إدانة القانون، وإن الحادث عملياً انتهى.. وإن الذي يواجه السودان الآن هو مشكلة الديمقراطية التي أصبحت في محنة.
إذن.. وقبل الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد أركان حرب “جعفر محمد النميري” على نظام الحكم القائم آنذاك، كان الرأي العام مهيئاً لأي تغيير مرتقب، فقد حدثت تعبئة لكل القطاعات والفئات، خاصة بين النقابات والطلاب والاتحادات وكل القوى الحديثة على اعتبار أنهم مفاتيح التغيير آنذاك.. ليقع الانقلاب في صبيحة الخامس والعشرين من مايو 1969م، والذي تقلب في كل الاتجاهات، إلى أن انقلب عليه كثيرون ممن أيدوه خلال مسيرته التي بدأت مساندة لليسار ومسنودة عليه، إلى أن انقلب النظام على الحزب الشيوعي في نوفمبر عام 1970م، لينقلب الشيوعيون على النظام في 19 يوليو 1971م، وتبدأ مسيرة أخرى في طريق ذي اتجاه مختلف.
رب أغفر وأرحم وأنت خير الراحمين.
{(جمعة) مباركة.