صفحات مشرقة من دفتر تاريخ "النميري" الاجتماعي والإنساني
رغم أن بعضها لا يخلو من الحدة والصرامة والشجاعة
قطعت الكهرباء بود نوباوي عدا منزله فطالب بقطعها وحذّر…!!
تقدم لمنزل عبر الخطة الإسكانية وفشل.. ثم أُهدي (40) أورنيكاً ظلت حبيسة الأدراج حتى وفاته
ليست هناك مياه غازية بمنزله.. فقط حافظة كركديه وصحن بلح بمجلسه
رصدتها ــ أمل أبو القاسم
اختلف الناس أو اتفقوا حول سياسة “نميري”، تظل هناك صفحات مشرقة من تاريخ حكمه الذي ظللته بعض الأخطاء فأخذت عليه. لكن شهود عصره يجمعون على إنسانيته ونبل أخلاقه وكرمه وجوده بالموجود لديه رغم حدة طبعه الذي لا يخلو من إحراج حد مهابة الكثيرين من المقربين إليه الخوض المباشر في أمور قد تسؤهم. فقد اتسم المشير “جعفر محمد نميري” الذي حكم السودان لستة عشر عاماً تضاربت حولها آراء التقييم السياسي، اتسم بالصرامة، لكن التقييم الاجتماعي والإنساني لدى الكثيرين يشع نصاعة، والقصص التي تلقفتها (المجهر) من بعض المصادر الإلكترونية والشفاهية من المقربين تشي بتواضع جم ربما لم يتأت لأي من الرؤساء في الحقب المتعاقبة، وهو الذي مشى كثيراً بين الناس بلا بروتوكولات ولا حراسة متفقداً أحوالهم ومشاركاً أفراحهم وأتراحهم، يباشر حياته ويقضي أموره كافة أسوة بشعبه، لا يتعالى ولا يتجاوزهم. وفوق كل ذلك له مواقف فكاهية وأخرى صارمة وشجاعة. وبعيداً عن النواحي السياسية والإدارية لحقبة (مايو) التي وقف على سدتها “النميري” اخترنا في ذكرى وفاته التي صادفت الاحتفال بذكرى مايو، التي ولآخر رمق في حياته كان يود التحامل على نفسه والمشاركة فيها لكن يد المنون كانت أسرع.. وفي ذكرى مايو ووفاته آثرت (المجهر) إبراز بعض المواقف المضيئة والجميلة سيما الاجتماعية في حياته، فاخترنا هذا القليل من ذاك الكثير.
{ الاشتراكية الحقة
حكى لـ(المجهر) عضو اتحاد قوى الشعب العاملة ورفيقه المقرب الأستاذ “عوض أبو الحسن” بعض المواقف اللطيفة لـ”النميري” التي شاهدها بأم عينه أو سمعها منه مباشرة، فكان أبرز المواقف التي تدلل على اشتراكيته التي نادى بها هو أنه كان خارجاً وعند أوبته لمنزله بود نوباوي وجد أن الكهرباء قاطعة في كل الحي إلا منزله فاستشاط غضباً واتصل مباشرة بوزير الطاقة وسأله لما يستثني منزله من القطوعات؟ وحذره إن لم يقطع الكهرباء بمنزله أسوة بأهل الحي خلال خمس دقائق فسيحدث ما لا تحمد عقباه.
وقال “أبو الحسن”: (في أمسية كنت جلوساً إليه فحضر إداريو نادي ود نوباوي واشتكوا إليه بأنهم مهددون بإغلاق النادي وكان هو من تصدق لهم به. فسألهم: إنتو ما سجلتوه فردوا بلا، فسألهم مجدداً ممكن واحد يرمي الكورة في الكورنة ويحصلها يجيب قون؟ فردوا بلا. قال ليهم: وطيب؟ إنتوا ما سجلتوه إن شاء الله يقلعوا منكم).
{ توجيه بغير ما جزاء
وزاد: (من مواقفه أيضاً، أنه مرة وفي حوالي الساعة الثانية عشرة ليلاً اتصل بالكبانية العامة أو دار الهاتف بهدف حصوله على رقم شيخ “مصطفى الأمين” اتصل على الرقم (90) فلم يجد استجابة فاتصل على الرقم (95) فطلبوا منه الاتصال بالرقم السابق لكنه أخبرهم أن ليس هناك رد، فقالوا: اتصل ستجد رداً، فاتصل ولم يجد رداً، فما كان منه إلا أن ركب سيارته قاصداً دار الهاتف وهو يرتدي جلابية وشبشب وطاقية ولما طلع الكبانية وجد الموظفين يغطون في سبات عميق فلما عرفوا أنه “النميري” انزعجوا فسألهم: وين (90) وين (95) فلم يجب أحد، فقال: أنا اتصلت على (95) مين رد وبقلوب واجفة قالوا: “مصطفى”.. المهم حصل على الرقم ووبخهم على تصرفهم ولفتهم إلى أن لديه عربة فكيف هو الحال إذا احتاجكم أحدهم وليست معه عربة مثلاً، ونبههم للالتزام بعملهم. وفي اليوم الثاني توقع الجميع جزاءات وإعفاءات إلا أن ذلك لم يحدث).
وموقف لا يقل أهمية واشتراكية عن السابقة وهو تقديمه للخطة الإسكانية وفشله في ذلك لعدم استيفائه الشروط، ولعله محك ضيق وضع فيه موظفي الخطة الإسكانية فاجتازوه بجدارة. لكن “أبو الحسن ” قال إنه أُعطي (40) أورنيكاً منحة له ولأهله وأصحابه لكنه لم يتصرف في أي منها، وكل من يأتيه طالباً منه المساعدة في موضوع الأراضي يقول له (أمشي قدم بتحصل على قطعة إن شاء الله). وظلت الـ(40) أورنيكاً حبيسة أدراجه حتى وفاته، وجدت بعد الانتفاضة كما هي. وأثنى عليه بقوله: (“نميري” لم يكن يميز شخصاً على آخر ولم يستفد منه أحد حتى أهله، ولم يكن يعجبه قول فلان سأعمل كذا بل يحب سماع عملت كذا).
{ حافظة كركديه وصحن بلح
واستطرد الأستاذ “عوض أبو الحسن”: (كان “النميري” شخصاً كريماً في حدود المتاح لديه، وأذكر مرة تسامرنا معه لما بعد الحادية عشرة ليلاً وعندما هممنا بالقيام أصر أن نتعشى معه فكان العشاء عبارة عن صحن فول).. وأضاف: (في بيته لا يوجد بارد أو مياه غازية البتة فقط حافظة مياه مليئة بمشروب الكركديه المثلج الذي تبدع في إعداده زوجه “بثينة” وصحن بلح كبير يتوهط مجلسه. وللحقيقة فقد تعلمنا منه الكثير، فهو صريح جداً لا يخشى في الحق لومة لائم، يواجه كل من يدلي بحديث بالطرف الآخر، ويحب من تتوفر فيه ثلاث صفات: من لا يكذب، ولا يأكل حق الناس، والبعيد عن الجبن).
{ يرفض التخصيص والتمييز
ثم عرج “عوض” بالحديث إلى موقف فات عليه وقال: (في زواج ابنة “محمد الطاهر أبو كلابيش”، وقد دُعي “النميري”، وقبل حضوره خرجت مع صاحب المناسبة لأداء عزاء وعند عودتنا وجدناه قد حضر وجلس في صيوان المناسبة وكنا قد أعددنا له مكاناً خاصاً، ولم يقو كل من طلبنا منه تنبيهه للمكان المخصص له على إخباره، فما كان مني إلا أن لملمت رباطة جأشي وذلك لأن “النميري” (عادي ممكن يحرج) وأخبرته بمكانه فقال لي: عارف وكمان فيه شية وما لذ وطاب.. ومع ذلك رفض القيام، فخشينا أن يتناول الغداء العام وكنا أيضاً بصدد إكرامه بغداء آخر، ولما شعر بذلك وعند أول صينية خرجت في الصيوان طلب أن يأكل فيها، وكذا الشاي الذي أعدت له كبابي “مبخرة” وخاصة فحال رؤيته لصبي شرع في توزيع الشاي وقبل أن أصرفه عن مجلسه ناداه وطلب أن يصب له شاي.. هكذا كانت حياته ومجاملاته).
{ وفاة هادئة
وبأسى لا يخلو من فخر تحدث “أبو الحسن” عن آخر موقف نبيل له في آخر سويعات من عمره وهو يوم الاحتفال بذكرى مايو في الثلاثين منه، حيث تبرع بمبلغ (500) جنيه للجنة القائمة على أمر الاحتفال، ومن ثم أرسل ملازمه “محمد سليمان” ليؤكد إصرار الرئيس على الحضور رغم أنه كان مستشفياً بالسلاح الطبي قبيل ذلك بأيام معدودة، ثم طلب مني إعداد كلمة صغيرة وعند الواحدة وأنا أكتبها وقبل أن أكملها اتصل بي وأخبرني بوفاة (الريس).. توفي وهو جالس على الكرسي يشاهد التلفاز.
{ لا ينسى رفقاء دربه
ما سبق محصلة قليلة من قصص وروائع “النميري” الاجتماعية زودنا بها رفيق دربه الأستاذ عضو اتحاد قوى الشعب العاملة “عوض أبو الحسن”، وأخرى استقيناها مما دونه البعض محتفياً به على الأسافير، وهذا ما كتبه الأستاذ “الرشيد حسن الخضر” فقال: (ونحن نودع الرئيس “جعفر محمد نميري” بحزن عميق، تدور بالخاطر ذكريات فريدة.. في العام 1976م حرمت مع مجموعة من طلاب الاقتصاد أبناء أصحاب الدخل المنخفض “دفعة الزبير أحمد الحسن وزير الطاقة” حرمنا من الدراسة لعدم القدرة على دفع رسوم التسجيل للكلية، فجلست مع أولئك النفر المغلوب على بينشات الـ”Main road” وتحت ظلاله الوارفة ننتظر الفرج، فخطر لي أن أراسل الرئيس “نميري” شارحاً مشكلتي ومذكراً له بأنّ والدي كان زميلاً له بمدني الأميرية الابتدائية والآن طريح الفراش في دوامة من الأمراض عجز عنها الطب بشقيه البلدي والحديث، “وكانا يتبادلان درجة الأول بالفصل حتى انتهت المرحلة وتزاملا بفرقة الكشافة وينصرفان كل يوم لمنزليهما عبر حي ود أزرق، فيذهب “نميري” لمنزل والده بالسكة الحديد ويذهب الوالد لمنزل “نور الدائم الكرنكي” شريك جدنا “خضر ود الزين” بالتجارة كجلابة بكردفان. وسرعان ما جاء رد “نميري” على رسالتي برسالة من القصر الجمهوري بترويستها المعروفة التي عليها صقر الجديان، واستدعاني عميد الطلاب د. “التجاني حسن” لمكتبه ليقرأ عليّ رسالة الرئيس المتضمنة إعفائي فوراً من الرسوم الدراسية وإعطائي منحة شهرية وتشغيلي في الإجازة الصيفية. كل ذلك بفضله ووفائه وحنوه).
{ ترميمه قباب الصالحين
واسترسل”الخضر”: (وفي العام 1984م وحين ترادفت التظاهرات والمحن على حكومة “نميري” بعث والدي رحمه الله “توفي عام2001م بفداسي الحليماب” برسالة طويلة جداً للرئيس شاكراً له جهوده ومنجزاته الكبيرة ولكن ترجاه بشدة التنحي وترك السلطة التي عسرت. فما كان من “نميري” إلا أن بعث له عبر بريد مدني بحوالة كانت حديث الموظفين بمكتب البريد والبنك الإسلامي السوداني الذي كنت أعمل فيه مع مديره “عبد المجيد منصور” رئيساً لقسم الاستثمار، وسألني الناس باندهاش ما مغزى هذه الرسالة، فقلت لهم: الرئيس يريد أن يقول للوالد: دع القيادة لنا “ولو غلبتك المعيشة خد المبلغ ده واسكت!!”).
وأضاف: (حمد بعض الناس لـ”النميري” محبته للصالحين وإعادة ترميم قباب الصالحين بأبي حراز كقبة العلامة شيخ العارفين ي”وسف ود الطريفي” (أبو شرا) الملقب بسابق (يا) لسرعة إغاثته، وقبة مربي العارفين وإمام الطالبين الشيخ “أحمد الطيب بن البشير بن مالك بن محمد سرور” بأم مرحي شيخ الطريقة السمانية ومؤسسها).
{ قصته مع “أم الحسن الهوارية”
وفي مدونة أخرى كتب الأستاذ “رشيد خالد إدريس”: (أذكر أن “نميري” قام بزيارة تفقدية إلى المديرية الشمالية في عام 1972م ومعه وفد كبير، وكانت الرحلة من كريمة إلى دنقلا عن طريق الباخرة. في طريق العودة إلى أم درمان استغل “نميري” اللواري السفرية التي تقطع صحراء بيوضة في رحلة شاقة كثيراً ما تحفها المخاطر بسبب وعورة الطريق. وفي طريقه تفقد أحوال العرب الرُحّل من الهواوير والقريات والحسانية الذين ينتشرون في جوف الصحراء، ومنهم من يسمع ولأول مرة أن هناك رئيساً للبلاد يدعى “نميري”. وفي طريقه أيضاً زار “أم الحسن” تلك الأعرابية الشهيرة صاحبة “قهوة أم الحسن” في منتصف المسافة بين دنقلا وأم درمان، نزل الوفد “ونشلوا الموية من البير” وشربوا وصلوا المغرب والعشاء جمعاً وقصراً, وملأوا القرب ماءً استعداداً للدخول في جوف الصحراء التي تبتلع كل من يتوه عن درب اللواري)..
وقال إن “نميري” بعد أن شرب الشاي المر مع “أم الحسن” قال لها: (نحفر ليك بير ارتوازي هنا عشان ترتاحي من نشل الموية بالحبل، وعشان تشربي الموية النضيفة، والناس يجوا ويعمروا المكان دا)، وقد كان.
{ اعتذاره بعد توفر “قروش”
وقال “رشيد”: (في ذات الرحلة كان “النميري” راكب قدام في بيت السواق طرف، وكان اللوري كثير الوحل في الرمال وخاصة في قوز “أبو ضلوع” عند مدخل أم درمان، وكلما يوحل اللوري “يتلب” أبو عاج ويرمي “الصاجات” مع الصبية العاملين في خدمة اللوري!! إلى أن وصلوا أم درمان تاني يوم. في ذلك اليوم صدرت عن “نميري” زفرة حرى وقال الجماعة ديل دايرين (زلط) لكن ما في قروش.. والشيء الثاني أخشى أن يتهمني الآخرين بالانحياز إلى أهلي في الشمالية).
{ إفشاله مخطط “منقستو”
وعلى صفحته بموقع التواصل الاجتماعي حكى السباح العالمي “سلطان كيجاب” الذي كان مقرباً للرئيس السوداني الراحل “جعفر محمد نميري” حكى عن موقف شجاع للرئيس “نميري” حسب رصد موقع “سوداناس” الإلكتروني، حيث قال:
(روى لي الرئيس “نميري” أن هناك معلومات وصلته.. مفادها أن الرئيس الإثيوبي “منقستو” اتفق مع خبراء من الروس ليشيدوا له مرتفعات من السدود في منطقة على منابع النيل الهدف منها إغراق مدينة كسلا نهائياً وتدميرها بالكامل حتى لا تكون مأوى للإريتريين أيام الحرب الإثيوبية الأريترية، وكان لنا أصدقاء شرفاء في حكومة “منقستو” زودونا بكل التفاصيل وصعب عليهم أن تغرق كسلا، وبعد أن توفرت كل المعلومات أمامي وشريط فيديو وكل خرط العملية، قال “نميري”: ارتديت الزي العسكري وذهبت إلى القيادة العامة وجلست بمكتبي وطلبت السفير الإثيوبي والقنصل والملحق العسكري وتعجبوا الثلاثة من طلبي لهم، وهنا رويت لهم ما يخططه “منقستو” وعرضت عليهم شريط الفيديو وكل الخرط وناقشتهم طويلاً عن تدهور العلاقات، وقلت لهم: قولوا لـ”منقستو” كل مخططاتك مكشوفة لدينا وعندنا أمن قوي لا مثيل له في أفريقيا بشهادة كل الرؤساء الذين حضروا مؤتمر القمة بالخرطوم. وأنا أقسم لكم اليوم الذي تغرق فيه كسلا، يوجد أكثر من مليون إريتري بالسودان سوف أقوم بتجنيدهم وأسلمهم سلاح حامية كسلا والقضارف ونساعدهم بسلاح الطيران وكل المعدات الحربية وخلال “٢٤” ساعة نحتل أديس أبابا ونرفع العلم الإريتري.. وانقلوا هذه الرسالة إلى منقستو).
وأضاف “كيجاب”: (قال لي “نميري”: وفي اليوم الثاني سافر ثلاثتهم إلى أديس أبابا واجتمعوا مع “منقستو” وشرحوا له ما دار بيننا فتراجع وارتعب بعد انكشاف مخططه.. وهذا هو السبب الذي جعله يزور السودان ويعيد العلاقات بسرعة ووجه لي الدعوة لزيارة إثيوبيا).