أحاطه الفقر بمخالبه وتجاهلت أمره الجهات المختصة : التعليم.. هل ينصلح أمره؟!!
عوامل عديدة تحول دون دخول الدهشة إلى النفس حال الحديث عن تدهور البيئة التعليمية، ومد الفقر يداه إليها. فالإنفاق الحكومي الشحيح لم يعد هو العامل الأوحد، بعد أن صار التعليم لا يعتبر أولوية قصوى.. والدليل على ذلك حبسه في مراكز متأخرة على المستوى القومي، فهو يحتل المرتبة الخمسين في الإستراتيجية ربع القرنية الممتدة بين عامي 2007 إلى 2013م، وذلك يلقي – بالطبع – بظلال سالبة زادت سابقاتها سواداً على حال التعليم ببلادنا، ومن المعلوم بداهة أن أمة لا ترمي للتعليم بالاً لن تبارح محطة التخلف، منتقلة إلى طريق التطور والنماء، لكن ثمة أمراً يؤثر بشكل مباشر في أمر التعليم دون أن يدع الباب موارباً أمام احتمالات أخرى، ذلك العامل بلا شك هو الفقر، الذي ما أن أحاط بالتعليم أبقى الطالب ماكثاً في منزل أسرته، يواجه مصيراً تتقاذفه الأنواء أنّى شاءت، وهنا لابد من الخيار بين أمرين اثنين لا ثالث لهما، إما أن تقتلع ما يسد رمقك لتخطو أولى خطواتك في درب الجريمة والأفعال غير الكريمة، وإما أن تُقدِّر حالة أسرتك التي عجزت عن توفير حاجاتك لتدفعك إلى الارتقاء والتقدم، وتفضل مفارقة درب التحصيل الأكاديمي، وهنا لابد من النظر بعين الحكمة إلى مجمل النتائج؛ لكي لا نترك الفرصة للفقر ليحيط بمخالبه التعليم، وتعظم الكارثة الكبرى ببلادنا..
إتكاءة معلوماتية..
الأستاذ “مبارك يحيى الأمين العام للمنتدى التربوي علق على ما يجري في ردهات البيئة المدرسية ببلادنا اليوم، لكنه قبل ذلك آثر أن يضع أرضية عامة يتكئ عليها، مفادها أن التعليم الجيّد هو قاعدة التنمية البشرية المؤهلة والمدربة. وقد أعد دراسة في وقت سابق حملت من (التمويل وأثره في فرص وجودة التعليم) مسمى لها، وأكد أن نسبة الإنفاق الحكومي للتعليم من الإنفاق العام منذ عام (2002-2008م) تراوحت مابين (4.6-2.9) من الناتج المحلي في أولهما، فيما تراوحت ما بين (0.6-0.8) في ثانيهما، وحسب تفسيره الذي أعقب به حديثه ذاك، فإن سياسة لامركزية التعليم وتدني أسبقيته على المستوى القومي التي تصل إلى الرقم (50) في الإستراتيجية ربع القرنية مابين عامي (2007-2013م)، أعاقتا تطور التعليم من حيث وفرة فرصه للجميع وجودة نوعيته. وساق برهاناً واقعياً على ذلك، وهو يشير إلى دراسة أجريت في ولايتي النيل الأزرق والخرطوم عن تمويل التعليم، كشفت أن (95%) من دخل المدرسة يذهب للمعلمين، وأن للجهد الطوعي القدر الأكبر في جمع هذه الموارد. وكشفت جداول تمويل التعليم من الإنفاق الحكومي العام أو الصرف من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية والأفريقية تواضع السودان الشديد في الصرف على التعليم. وفي قراءة لميزانية التعليم مقارنة بالميزانية العامة للأعوام من (85-92) بلغ من (15%-1.7%) ونسبة الأجور والمرتبات من ميزانية التربية (84.3%)، أما نسبتها من إجمالي الميزانية العامة فهي ( 3.8% )، أما توزيع الإنفاق في غير المرتبات كان على النحو الآتي: الصرف الحكومي 1%، مجالس الآباء 88.6% مصادر أخرى 10.4%، وفي مقارنة للإنفاق العام على التعليم من الإنفاق الحكومي للدول العربية، نجد أن السودان يأتي أيضاً في ذيل القائمة، حيث بلغ الإنفاق في 1991الى 1.7 %، أما في العام 2005م وصل إلى 2.8%. وعرج “مبارك” على تداعيات قلة الصرف على التعليم، التي لها عدة أسباب، منها عدم وفاء الدولة نحو كفالة التعليم، وعدم مبادرتها بتطبيق مجانية التعليم؛ لذلك لم يتمكن معظم أبناء الفقراء من الانخراط في الدراسة، بالإضافة إلى ضعف البنى التحتية لقطاع التعليم، كالمنافع والفصول وغيرها، واكتظاظ الفصول، خاصة في الأماكن الحضرية؛ مما يصعب على المعلم متابعة الفصل؛ لذا يشكل الإجلاس عاملاً مؤثراً على جودة التعليم، وعدم القدرة على توفير الكتاب المدرسي، لكل طالب على حده، ومن التداعيات أيضا تولي المجالس المحلية فقيرة الموارد إدارة مسؤوليات التعليم عامة.
التعويل على الإعلام..
الأستاذ “مبارك يحيى” مضي ليشخص واقع التعليم اليوم، واضعاً إياه تحت مجهر الأحداث، وهو يصفه بالمهنة الطاردة بسبب عائدها المادي المتواضع، وغياب الحوافز الأخرى، كالإعارة والتدريب الخارجي وفرص التأهيل والتدريب الداخلي. وحسب إفادته التي ألقى بها على طاولة المناقشات في هذا الإطار، فإن التمويل في إطار التعاون الخارجي بدأ يتراجع بشكل لافت. فالدولة منذ الاستقلال لم تعط التعليم سوى (145) ألف دولار في حين أن المنحة المقدمة للسودان لتمويل التعليم بلغت (80) مليون دولار للإستفادة من برنامج تمويل التعليم الذي كان موجود بين برامج البنك الدولي للدول الأعضاء، إلا أننا لم نستفد منها – حسب قوله – سوى بتنفيذ بلادنا لثلاثة مشاريع فقط منذ الاستقلال إلى اليوم في حين استفادت دول أخرى، بينها مصر، من ذلك البند بمطالبتها بمبلغ (74) مليون دولار لمشروع واحد لدعم تعليم البنات.
الأستاذ “الطيب عبد الوهاب” مدير جامعة بخت الرضا، وممثل وزيرة التربية والتعليم، تحدث معقباً على حديث مقدم الورقة، قائلاً من الملاحظ في الجداول التي قدمت على ورقة الأستاذ “مبارك” كشفت عن تراجع الصرف على التعليم، لكنه قال إنه أقل من التراجع الذي تلى تطبيق الحكم اللامركزي خلال عامي (1991م -1992م)، بعد أن أصبح دور وزارة التربية تخطيطياً فنياً كالتدريب وامتحانات الشهادة وغيرها. فالولايات أصبحت مسؤولة عن التعليم ممثلة في المحليات التي لم تستعد للصرف على التعليم بالصورة المباشرة، ولم تستقر إلى الآن. وأصبح التعليم بالصورة التي نراها اليوم، ففي عام 2010م كان التمويل 12% من الميزانية العامة و2.7 من الناتج المحلي والصرف الولائي 9.5% من الناتج المحلي و65.5% من ميزانية المحلية، ونجد أن 80% من ميزانية المحلية موجه إلى التعليم الأساسي، والجزء الآخر يذهب إلى مصادر غير حكومية كالجهد الشعبي، وتلاحظ أن 53% من تلك النسب يأتي من مجالس الآباء. وختم قائلاً هناك جهد مبذول من الدولة، لكنه يحتاج فقط إلى تسيير، كما يجب ترشيد الاستقلال الأمثل للموارد المتاحة لتقليل الهدر. فالوزارة بحاجة ماسة إلى قاعدة معلومات وبيانات كبيرة؛ للمساعدة على ضبط ما ينفق على التعليم.
تحذير مهم..
الأستاذ “عباس حبيب الله” رئيس النقابة العامة لعمال التعليم، يرى أن الصرف على التعليم (متواضع)؛ ليتفق في قوله ذاك مع الأستاذ “مبارك يحيى”، لكنه زاد القول إنه لم يكن يوماً من الأولويات القصوى في الدولة، والدليل على ذلك أن وزارة التربية والتعليم، التي خرجت النافذين في الدولة من سياسيين وقانونيين، مازالت تندرج تحت قائمة الوزارات الخدمية وليست السيادية. ومضى ليزيد حديثه أسى على أساه، وهو يضيف حقائق بائنة مفادها أن ترتيب الوزارة بروتوكولي متأخر جداً، بجانب فشل كل الولايات والمحليات في الصرف على التعليم. وذكر هنا أن الجهد الشعبي مبذول على ذات الوتيرة منذ أزمان خلت بنسبة كبيرة بعد تأثرها بالتعليم الحكومي. والحديث عن مجانية التعليم هي تنافي الواقع تماماً، حيث توجد تجاوزات في الدفع من قبل المدارس، أما ضرب وطرد الطلاب هي حالات محدودة، ويمكن علاجها ومشاركة المجتمع ضرورية ومهمة. وعاد أستاذ “عباس حبيب الله” ليلخص رؤيته أن ما يُصرف على التعليم دون المستوى، والضحية في النهاية هو المعلم، فإذا لم نهتم بالمعلم ستظل العملية عرجاء وكسيحة.
بروفيسور “الطيّب عبد الوهاب محمد مصطفى” صوب سهامه مباشرة عبر ورقة أعدها عن تمويل التعليم العالي في السودان، نتائج التدني في تمويل التعليم العالي، بإشارته إلى إن تعثر الدعم الحكومي المتمثل في الفجوة بين الموازنة المقترحة والمصدقة والتغذية الفعلية، وتوقف الدعم الولائي، والدعم غير المباشر، جعل مؤسسات التعليم العالي تواجه أزمة حادة وضاغطة، أفرزت مشاكل عديدة تتمثل في تعثر مشروعات التنمية بمؤسسات التعليم العالي، خاصة في تجهيز الورش والمعامل وقاعات الدراسة وعدم استكمال البني التحتية التعليمية في الجامعات الجديدة، التي ظلت تباشر مهامها في مبانٍ مؤقتة، معظمها غير صالح للعملية التعليمية، إلى جانب عدم استقرار وضع العاملين بمؤسسات التعليم العالي؛ مما أدى إلى تزايد هجرة أساتذة الجامعات إلى الخارج والانتقال داخلياً للعمل في المؤسسات والهيئات والشركات الخاصة، وما ترتب عليه من فقدان مستمر للكفاءات المدربة، اتجاه الأساتذة للتدريس الإضافي لتعويض النقص في المرتبات، وبالتالي عدم تفرغهم للنهوض بمهام البحث العلمي، بالإضافة إلى تباطؤ نشاط البحث العلمي لعدم توفر الإعتمادات المالية وتهيئة البيئة العلمية للبحث، وانعكاس ذلك انخفاضاً في الإنتاج والإنتاجية في قطاعات الاقتصاد الوطني، وتدهور البنية التحتية للمؤسسات التعليمية لعدم توفر الاعتمادات اللازمة لمواكبة التقنيات الحديثة، وإجراء الصيانة الدورية، وعدم توفر البيئة التربوية والبحثية المناسبة للطلاب لعدم توفر الموارد اللازمة لتدريب الطلاب في مختلف المجالات.
روشتات سريعة..
وفقاً لواقع حال التعليم ببلادنا، فإنه يمر بمرحلة عصيبة ليكون الناتج تسرباً من المدارس بعد أن أصبح الفقر يضغط بكلتا يديه على عنق التعليم، ويحيطه بمضايقات عديدة؛ مما أجبر عدداً كبيراً من الأسر للإبقاء على أبنائها في المنازل؛ ليجنوا بذلك على مستقبلهم، بعد أن أجبرتهم الظروف على ذلك، رغم عظم شأن المتعلمين، لكن حسب مجريات الحال المنعكسة في السيناريوهات المتكررة لدى عدد كبير من الأسر متواضعة الدخل، فإنهم يختصرون الطريق ليصبح المستقبل غارقاً في ظلمات الجهل، وبذا تحكم الأسر بنفسها على أبنائها بالترنح في طرقات المهن الهامشية، أو أن يفتحوا لهم بوابات الدخول إلى عالم الجريمة بشكل غير مباشر؛ ليصبح الواقع العام غير واضح المعالم، يخضع لعمليات الخصم والإضافة، وهنا لابد أن تعي السلطات المسؤولة ذلك، وتنظره بعين الاعتبار.. فالجميع هنا مسؤولون في المنابر كافة؛ وذلك هو ما وضعه أستاذ “عباس حبيب الله”، وهو يقول لابد أن تنتقل وزارة التربية التعليم إلى وزارة سيادية، وأن يتم التركيز على تمويل العاملين في حقل التعليم. فالصرف الحالي عليهم ضعيف جداً لا يسد الرمق، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن كارثة ستحيق به.. أما أستاذ “مبارك يحيى” فقد وضع أموراً عديدة في مخيلته، وهو يكتب روشتة سريعة، عساها تخرج التعليم من غرفة الإنعاش، التي أدخل إليها بعد تدهور حالته، وعدم مقدرته على القيام بدوره الفاعل في المجتمع، بعد ما سحبت عنه كل امتيازاته، بقوله: إن دعم التعليم لن يكون إلا عن طريق القروض الكبيرة والميسرة مع ضرورة كسر القاعدة التي كان يتفق عليها وفقاً للواقع؛ بعدم منح القروض في هذا الجانب، التي إن وجدت، فهي ضعيفة من عدد محدود من البنوك يتم تخصيصها فقط للإجلاس. ومضى أستاذ “يحيى” بعد ذلك ليقول إن هدر الموارد يعكس عدم كفاءة التعليم. وعزّز قوله ذاك بأن في ولاية الخرطوم وحدها – على سبيل المثال – فإن العائدين في مرحلة الأساس (25 )ألفاً و970 في السنة، وأنه لا توجد مقارنة بين تلك الأعداد والمتسربين الذين يشكلون أعداداً كبيرة تفوق ذلك بكثير، بعد تلك المعلومات فتح أستاذ “مبارك” بوابة الخروج. ومضى عابراً بعد المعلومات والحقائق التي أودعها ذمة الزمان بصحبة المتحدثين في هذا التحقيق، فهل ينعدل الحال أم تبقى الأمور على ما هي عليه؟!.