رأي

بعد.. ومسافة

“صديق البادي”.. ذاكرتنا المنسية!
مصطفى أبو العزائم
 
الأستاذ “صديق محمد أحمد البادي” المعروف اختصاراً باسم “صديق البادي”، رجل نادر في زمننا هذا، عرفته قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، كنا وقتها في بداياتنا نتلمس المعارف في طريق طويل لا نهاية له، وقد اختار صديقنا الطريق الأصعب في مهنة الصحافة، إذ تفرغت وعدد من الزملاء للعمل في الصحافة اليومية التي تلتهم العمر وتقضي على الطاقات بالركض وراء الثابت والمتغير اليومي في عالم السياسة والثقافة والفنون وحركة المجتمع، بينما اختار صديقنا الأستاذ “صديق البادي” الطريق الصعب وهو البحث عن الحقائق المطلقة أو شبه المطلقة في عالمنا المحلي المضطرب، وهذا قطعاً لن يمنحه فرصة التفرغ للصحافة اليومية، ويحرمه من نجوميتها التي اسميها (نجومية الورق)، بحيث لا تنفتح أمامه كثير من الأبواب المغلقة، بعد أن اختار رهبانية البحث عن الحقيقة من أفواه صناع التاريخ أو شهوده، وقد اشتهر بالدأب والصبر والأناة والحكمة مع جرأة في الرأي وجهر بما يرى أنه حق، فدفع ثمن ذلك غالياً عندما تم الاعتداء عليه جهاراً نهاراً ذات يوم داخل مقر المؤتمر الوطني في مناسبة ما، رأى البعض أن ما يقوله الأستاذ “صديق” فيه إساءة وتقليل من شأن بعض المعنيين بالشأن العام وقتها، ودُفع به إلى المعتقل مكسور اليد غير مهيض الجناح.
يختفي الأستاذ “صديق البادي” لأشهر وفترات طويلة، حتى تكاد تظن أنه لن يظهر من جديد، لكنه يفاجئك بالظهور وفي يده الجديد، وطوال هذه الفترة الطويلة التي عرفته فيها أصدر عدداً من الكتب ذات القيمة التاريخية والاجتماعية والسياسية والعلمية، بدأها بكتاب عن البطل “عبد القادر ود حبوبة” ثم بثانٍ عن “الشيخ الطيب ود السايح” لينتقل بعد ذلك للتوثيق للحركة النقابية السودانية من خلال بحثه القيم المنشور في كتابه الذي شكل نقطة تحول جديدة في مسار عمله، والذي حمل اسم (حركة مزارعي مشروع الجزيرة وامتداد المناقل).. ليبدأ بعد ذلك في جمع شهادات عن الأحداث والوقائع الخاصة والمرتبطة بأحد رموزها الوطنية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهو المغفور له بإذن الله “الشريف حسين الهندي” وقد أصدر كتاباً حمل اسم “الشريف” تضمن سيرة ومسيرة الراحل وأدواره في الحياة العامة والسياسية في بلادنا، يعد مرجعاً لا غنى عنه لأي باحث في الشأن السياسي العام، أو في شأن الحزب الوطني الاتحادي الذي تحول بعد الاندماج مع حزب (الشعب الديمقراطي) إلى الحزب (الاتحادي الديمقراطي).
مسيرة البحث لم تنقطع، ولم يتوقف صديقنا الأستاذ “صديق البادي” رغم صعوبة المشوار وعناء الرحلة، وضعف العائد المادي.. وعدم وجود مراكز للبحوث والمعلومات تهتم بهذه الجهود وتقدرها بحيث يمكن للباحث أن يتفرغ تماماً لأبحاثه التي لا تقف فائدتها عند جيلنا الحالي، بل تمتد إلى المستقبل والأجيال اللاحقة.
أصدر الباحث والأديب النشط المتفرغ للبحث والتنقيب والاستقصاء، أصدر بعد ذلك الجزء الأول من كتابه (معالم وأعلام)، وأعقبه بواحد من أعظم ما أنتجته المكتبة السودانية عن الوحدة الوطنية، وصدر باسم (القبائل السودانية والتمازج القومي)، ليصدر بعدها أحد أهم وأخطر ما صدر من كتب سياسية تحكي عن تفاصيل أول مواجهة بين نظام الرئيس “جعفر محمد نميري” في بدايات عهد حكمه، وبين الأنصار، وحمل اسم (أحداث الجزيرة أبا وود نوباوي).
توالت بعد ذلك إصدارات الباحث الأستاذ “صديق البادي”، فأصدر عدة كتب منها (قصة حل الحزب الشيوعي)، و(من رواد الإدارة في السودان)، و(أبو الصحف الأستاذ أحمد يوسف هاشم)، و(من رواد التعليم)، و(الجبهة الوطنية أسرار وخفايا)، غير مجموعة من مخطوطات الكُتب الجاهزة أو تلك التي في طور الإعداد لهذا الرجل البسيط عميق الثقافة والمعارف وعظيم العطاء.
الأستاذ “صديق البادي” أعتبره ذاكرتنا السودانية (المنسية) لأنه يحمل لنا كل ماضينا في طبق من ورق فلا نأبه لذلك، يصطرع الساسة من أجل الحكم، وينشغل كل بعالمه ودنياه ويحمل أدوات صراعه معه في مواجهة الآخرين في كل المجالات، ونحن نتباغض ونتخاصم ونتصارع ولا نحتكم لدين أو قيمة أو أخلاق.
“صديق البادي” شخصية سودانية عظيمة، يجب أن نكرمه على أعلى المستويات، والأمر مرفوع إلى الجهات المختصة لترشيحه لنيل إحدى جوائزنا الوطنية أو لحمل أحد أوسمتنا الرفيعة.. وقد طلبت رسمياً من الدكتور “هباني” مدير عام المركز القومي للإنتاج الإعلامي ومن معاونيه من خلال لجنة تكريم الصحفيين والكُتاب الشباب التي أتشرف برئاستها وتضم عدداً من كبراء هذه المهنة وخبرائها، طلبت تكريم الأستاذ “صديق البادي” ومنحه جائزة خاصة يستحقها، وأن يتكفل المركز بطباعة كتاب أو أكثر له.
التحية لصديقنا الأستاذ “صديق البادي” الذي ارتضى أن يعيش في الظل، لننعم بنور المعرفة والعلم.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية