هل بدأت دارفور في التعافي بعد (13) سنة من المرض؟؟
أحداث الضعين بداية أم نهاية للانفلات الأمني؟؟
مغادرة الفريق الاقتصادي للحكومة ومعجزة الإصلاح
في غياب السلام يتدحرج الاقتصاد إلى أسفل كل يوم
حديث السبت
يوسف عبد المنان
هل فعلاً أخذت دارفور في التعافي من مرض الحرب والصراعات العقيمة الذي حاق بها قبل ثلاث عشرة سنة من الزمان؟؟ ما هي أبرز سمات مظاهر التعافي؟؟ ولماذا؟؟ وهل تشكل أحداث الضعين الحلقة الأخيرة؟؟ أم هي بداية لمعاودة المرض للجسد الدارفوري المنهك بالآلام والأوجاع؟؟هي أسئلة ربما لا تشكل الإجابات التي ترد هنا كل الحقيقة حولها ولا حتى نصفها، ولكنها قراءة لمن عاد من دارفور أمسية (الخميس) وقد سيطر على أجواء مدينة نيالا أكبر مدينة في الإقليم وثاني أكثر المدن كثافة سكانية بعد العاصمة الخرطوم، استقرار لم تشهده المدينة من قبل ثلاثة عشر عاماً، بافتتاح معرض تجاري، وغناء فرقة “البالمبو” القومية في الهواء الطلق حتى منتصف الليل، وعودة الحياة لسوق نيالا ليلاً بعد أن كان مرتعاً لعصابات الخطف والقتل والسلب والنهب.. وطاف رأس المال الوطني وكبار التجار في الخرطوم على أسواق نيالا يبحثون عن فرص استثمار بعد أن وجهت إليهم حكومة نيالا الدعوة للاستفادة من خصائص الجغرافيا، حيث تشكل نيالا نافذة على غرب أفريقيا وسوقاً كبيراً لعبور الواردات من الخليج.. وكاد “أمين عبد اللطيف” المستثمر في قطاع الزراعة وتحسين الإنتاج والتقانة الحديثة أن يذرف الدموع على نيالا التي طاف بها قبل (40) عاماً وكان حينها شاب غض الإهاب في عنفوانه، جاء من أقصى الشرق لمناسبة اجتماعية.. وتحدث في نيالا رجل الأعمال “وجدي ميرغني” الذي (تجاوز) استثماراته الزراعية باستثماراته الحديثة في قطاع الإعلام، وهو يستحوذ على أكبر الأسهم في قناة النيل الأزرق، ولا يكتفي بذلك وينشئ قناة جديدة.. وثالث رجال الأعمال “أمين بشير النفيدي” الذي طغت اهتماماته الرياضية على استثماراته الصناعية والزراعية وارتبط اسمه بنادي (الخرطوم ثلاثة) قبل أن تسيطر عليه الحكومة وتصبغ عليه صفة الخرطوم المدني.. وغير بعيد من أصحاب الأموال والمصارف “مساعد محمد أحمد” مدير بنك التنمية الصناعية وأحد صناع السياسات الاقتصادية في بلادنا التي يختلف الناس حولها بين من ينعتونها بالفشل الذريع ويطالبون برحيل حداة ركبها وصناع قراراتها، وبين مستفيدين من حالة تراجع الجنيه السوداني ومرضه الشديد إلى حد فشلت معه كل الوصفات التي قدمتها دول مجلس التعاون الخليجي لشفائه.
هذا الزخم الاقتصادي والتجاري سعى له “يوسف الحسين” وزير مالية جنوب دارفور وهو وكيل سابق للمالية الاتحادية، ومن الشخصيات التي لها علاقات رأسية وأفقية بصناع القرار الاقتصادي والسياسي.. ونجح في دعوة هذه النخب لتمضي نهار (الأربعاء) في نيالا.. وحتى منتصف الليل.. وتجول الرأسمالية في أطراف نيالا، التي لو كان حالها اليوم مثل حالها قبل عامين لطارت أخبار الفضائيات (بنبأ) أو قصة اختطاف مستثمرين سودانيين في إقليم دارفور، لكن الأوضاع حالياً في دارفور أخذت في الاستقرار وذلك للأسباب الآتية:
أولاً- أمنياً وعسكرياً، نجحت العمليات التي قامت بها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في السنوات الماضية في تحجيم قدرات الحركات المسلحة وهزيمتها في جبهتين، الأولى جبهة حركة العدل والمساواة من خلال عمليات “قوز دنقو” التي قدم فيها منسوبو قوات الدعم السريع درساً في المواجهة (رجلاً لرجل) والقتال بشراسة غير معهودة ليتم تحطيم أكبر قوة عسكرية تم إعدادها في جنوب السودان لاحتلال مدينة نيالا وإعلان السيطرة عليها واتخاذ المدنيين دروعاً للحيلولة دون استردادها.. وبعمليات “قوز دنقو” كتب العميد حينذاك “محمد حمدان دقلو” الشهير بـ(حميدتي) شهادة وفاة لحركة العدل والمساواة.. والجبهة الثانية هي حركة “عبد الواحد محمد نور”، ووصلت القوات المسلحة اليوم إلى منطقة (سرنوق) الحصينة في شرق جبل مرة، وانكسر ظهر قوات “عبد الواحد” الذي يمثل وجهاً سياسياً أكثر منه عسكرياً، ووضع أغلب رهاناته على النازحين في المعسكرات واللاجئين في المنافي.. لكنه احتفظ أيضاً بقوات عسكرية داخل جبل مرة.. والآن أصبح الجبل تحت قبضة القوات الحكومية.. وهنالك جبهة ثالثة اختارت الهروب من ميدان المواجهة والبحث عن الدولار في حرب ليست حرب دارفور، فقد خرج “مني أركو مناوي” بقواته إلى ليبيا ووضع بندقيته في مزاد من يشتري من الفصائل الليبية بعد تجربته في جنوب السودان وهو يقاتل بعائد بترول “سلفاكير ميارديت”.. ومن تذوق طعم عائدات البترول سيبحث عنها.. والبترول الليبي يعدّ من أفضل أنواع الخام في العالم خلافاً لمزيج النيل الذي تنتجه مناطق (عداريل) والوحدة بجنوب السودان.. وينفق “خليفة حفتر” الجنرال الليبي المتقاعد بسخاء على الذين يقاتلون في صفه من كل لون وجنس، وتغدق على “حفتر” دول الخليج “المال” من أجل القضاء على مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية!
ومن المفارقات المريبة أن السودان “الحكومة” قد (اندغم) في التحالفات الخليجية، وعاد حليفاً للرياض وأبو ظبي، لكنه لم يعد حليفاً لـ”خليفة حفتر” الذي ظل يهاجم الحكومة السودانية دون أسباب.. وخروج “مناوي” من الملعب الدارفوري وتشرذم الحركات المسلحة إلى تكوينات قبلية صغيرة، والتناقضات بين قادتها والأثر الذي تركه رحيل د.”خليل إبراهيم” على حركة العدل والمساواة، وغياب القائد السياسي والعسكري ذي الشخصية الكاريزمية مثل “خليل إبراهيم” و”جون قرنق”، وعودة الفاعلين جداً في أيام التمرد الأولى لصف الحكومة، مثل “بحر إدريس أبو قردة” والقادة العسكريين الذين (صنعوا) ربيع حركة العدل والمساواة من القائد “بخيت دبجو” والقائد “بشارة الطيب” والعقيد أمن الآن “حمدين بشر” وآخرين.. كل ذلك أضعف الحركات المسلحة، وجعلها تبحث عن قيادات أخرى، ولم تجدها في الساحة.
ثانياً- استطاعت الحكومة سحب البساط السياسي من تحت أقدام الحركات الدارفورية، وذلك من خلال المشاركة الواسعة والحقيقية لأبناء دارفور في السلطة المركزية حتى تململت بعض الأقاليم الأخرى.. وتجاوزت نسبة المشاركة أكثر ما من ينبغي أن تناله دارفور بحسابات نسبة السكان.. وكان لهذه المشاركة أثرها في نضوب منابع التمرد، وأثبت القادة الدارفوريون في قيادة الدولة قدرة على العطاء، خاصة ثلاث شخصيات مهمة، “حسبو محمد عبد الرحمن”، ود.”التجاني سيسي” الذي نجح في تقديم نموذج سياسي طاهر اليد عفيف اللسان لم ينهب مالاً خصص من المركز أو الداعمين الأجانب، وحرص على تقديم نموذج نادر في خدمة بلاده.. وثالث القيادات وزير المالية السابق “علي محمود” الذي شهدت أيامه في منصب خازن المال تمويل مشروعات كبيرة في دارفور بعضها لم يكتمل حتى اليوم.. وشكلت هذه المشاركة الكبيرة لدارفور في السلطة أثراً إيجابياً في الاستقرار الأمني والسياسي.
ثالثاً- جاءت القرارات الأخيرة باختيار الولاة من خارج مناطقهم، ونجح أغلب ولاة دارفور في تقديم نماذج جيدة مثل المهندس “آدم الفكي” في جنوب دارفور التي كانت تشهد قبل عام من الآن (17) نزاعاً قبلياً، وأكثر منطقة يسيطر عليها المتمردون واستباح التمرد (حرمات) المدن وهدد المواطنين بالاختطاف وطلب الفدية.. وأخذت عناصر (منفلتة) تصطاد الأجانب مثل العصافير من أجل الحصول على المال.. ولكن نيالا التي سهرت مساء (الأربعاء) الماضي حتى منتصف الليل يقول واليها “آدم الفكي” إن حالة الطوارئ يمكن رفعها نهائياً في الأيام المقبلة إذا استمر التحسن الحالي بعد أن كانت الطوارئ تبدأ من الساعة السابعة بعد مغيب الشمس.
{ أحداث الضعين
ربما يتساءل البعض كيف تزعمون وجود تحسن في الأوضاع الأمنية ووالي شرق دارفور “أنس عمر” يتحدث عن تهديد طاله من بعض الجهات قبل أن يتعرض منزله لهجوم من قبل من سماهم (بالمنفلتين)؟؟ وهل أحداث الضعين هي بداية لفترة جديدة من الفوضى؟؟ أم هي مظهر لمرحلة ما قبل التعافي النهائي للجسد الدارفوري؟؟ لقد كانت الضعين والمناطق المحيطة بها فضاء (تمرح) فيه بعض الحركات المسلحة، خاصة من منسوبي الحركات القبلية من “الرزيقات” و”المعاليا”.. وهناك منسوبون من الحركات المسلحة لكل القبائل حتى إن نائب والي الضعين الحالي “أحمد كبر” كان من قادة التمرد المشهورين، ولعبت القيادات العسكرية المتمردة أو تلك التي وقعت اتفاقيات مع الحكومة واحتفظت بأسلحتها دوراً سالباً جداً في النزاع القبلي بين “المعاليا” و”الرزيقات”، وأغلب هؤلاء القادة متورط في سفك الدماء وإشعال الحرائق والتحريض.. لكن وبعد أن نجحت حكومة “أنس عمر” ومبادرات “أميرة الفاضل” ومدير جهاز الأمن والمخابرات بشرق دارفور العميد “الفاضل” في تهدئة مناخ التعايش، وانكسرت حوائط (العزلة)، هناك متربصون كُثر بالسلام.. وتسود حالة من الشكوك والظنون وينسب “الرزيقات” أي حادث لـ”المعاليا”.. وكذلك يفعل “المعاليا”.. حتى أسباب الموت الأخير ونهب (رأسين) فقط من الإبل لا يتجاوز سعرهما الـ(20) ألف جنيه، وأدتا لمقتل وجرح أكثر من (18) شخصاً، وجه “المعاليا” أولاً الاتهام لـ”الرزيقات” بنهب رأسي الإبل.. لكن بعد القبض على الجناة بدت الحسرة والندم على “المعاليا” وقد تكشف لهم أن النهابين من عشيرة “الميما” التي تقطن منطقة ودعة بشمال دارفور، ولا صلة لهم بـ”الرزيقات” من قريب أو بعيد.. لكن التربص جعل فزع “المعاليا” الذي كان يتعقب الأثر يجد نفسه في مواجهة مجموعة من أبناء “الرزيقات” كانوا عائدين من نيالا.. وكلا الفريقين مسلح بأحدث أنواع الأسلحة، لذلك حصدت الذخائر أرواحاً عديدة.. لكن تمت السيطرة على الأوضاع.
وقد تعرض منزل الوالي “أنس عمر” للنهب وراح اثنان من شباب البلاد ضحية لأحداث لا صلة لهم بها، لكن غياب القيادات التي تستطيع كبح جماح الشباب المتفلت جعل الأحداث تتفاقم، فحكومة “أنس عمر” جميعها من خارج المنطقة ولا تمثيل لـ”الرزيقات” و”المعاليا” في تلك الحكومة، لذا لم يجد الشباب المتفلت من يكبح جماح غضبهم على مقتل (خريف وسافنا).. وجاءت ردة فعل الوالي “أنس عمر” (عقلانية) ولم يذهب لاتهامات مطلقة.. وحتى الآن تمت السيطرة على الأوضاع في الضعين.. لكن تبقى ولاية شرق دارفور في انتظار معالجات سياسية ورؤية أكثر عمقاً ونفاذاً لعلاج أمراضها التي استعصت على الولاة المتعاقبين.. ولا تشكل تلك الأحداث دليل ردة على ما هو ماثل الآن من تطور إيجابي على جبهة الأمن والاستقرار في دارفور.
{ المغادرة ليست حلاً
كتب الدكتور “خالد التجاني النور” ناشر صحيفة (إيلاف) الاقتصادية مقاله الأسبوعي (الخميس) الماضي عن الأوضاع الاقتصادية في البلاد بمداد حارق.. ورؤية ناقدة.. وأورد أقاماً عن تناقضات مشروع الموازنة العامة للدولة ما بين التطبيق على أرض الواقع والشعارات والأماني التي يطرحها الفريق الاقتصادي للحكومة، وذهب د. “خالد التجاني” إلى فشل الفريق الاقتصادي للحكومة، وطالب بمغادرة جميع أعضاء هذا الفريق الذي يقوده الوزير “بدر الدين محمود” الموجود منذ شهر ما بين دبي وبانكوك ونيويورك وواشنطون، وهو يسعى لإحداث اختراق في جدار العزلة والعقوبات المفروض على السودان من جهة الولايات المتحدة، الذي له آثار سالبة جداً على الاقتصاد السوداني، لكن الحكومة تمارس إنكاراً عجيباً وترفض الاعتراف بحقائق على الأرض، حيث يتعذر على حكومة السودان تحويل حتى المبالغ الخاصة بسداد اشتراكاتها في المنظمات الدولية من خلال المصارف الأوروبية وتضطر في بعض الأحيان أن تحمل الوفود السودانية نقودها في حقائب السفر، دون الالتفاف لمخاطر ذلك.. والدكتور “خالد التجاني النور” نظر وقدر القضية من وجهتها الاقتصادية فقط.. وغض الطرف عن الأسباب الحقيقية للأزمة، وهي أسباب سياسية محضة، حيث تشكل الحرب ومنصرفاتها سبباً رئيسياً وجوهرياً في الاضطراب الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد الآن.. ولو كان الفريق الاقتصادي الذي عهدت إليه إدارة الاقتصاد وأغلبه من الموظفين العموميين والتنظيميين أصحاب الولاء والطاعة يملكون شجاعة “عبد الرحيم حمدي” والراحل د. “عبد الوهاب عثمان” ورؤية الراحل “عبد الله حسن أحمد” ود. “إبراهيم منعم منصور” الذي تقدم باستقالته من مفوضية تقسيم وتخصيص الموارد حينما وضعته القيادة التنفيذية ما بين الرضا والقبول بالمشاركة في منهج مختل في قسمة الموارد أو الانتصار لضميره واختار أن لا يخون ضميره من أجل وظيفة لا تضيف إليه شيئاً.. لو كانوا يملكون شجاعة هؤلاء القادة لاستطاعوا الجهر أمام القيادة بأن الأوضاع الاقتصادية تتطلب تقليل الإنفاق على الأمن والدفاع من خلال تدابير سياسية بوقف الحرب الحالية.. وإقرار السلام ودفع ثمن ذلك من وظائف مهما تعددت فإن الحفاظ على دماء السودانيين أغلى من كرسي الحكم أو هكذا ينبغي أن يكون.. ولتوفير جرعة الدواء لأطفال مستشفى “البلك” بأم درمان، وإطعام الجوعى في معسكر “زمزم”، وتوفير الماء للعطشى في “عيال بخيت”، يجب أن تتوقف الحرب التي تحرق داناتها الدولار واليورو وتمزق أحشاء الوطن في قادم الأيام.. وبدون تحقيق السلام، سيظل الجنيه السوداني يتراجع كل يوم في وجه الدولار.. ويمكن في السنوات القادمة أن يصبح الدولار على سعر ويمسي على سعر آخر إذا تمادت الأطراف السودانية في الركون إلى العنف ومحاولة فرض أي طرف لرؤيته الأحادية على الجميع.. وقد امتلك د. “بابكر علي التوم” الشجاعة التي جعلته محل احترام السودانيين وهو يتحدث في نيالا عن ضرورة أن يتحقق السلام ويتم الصرف على السلام لاستقرار الاقتصاد السوداني الذي يشكل مهدداً حقيقياً لأخلاقيات الناس ولتعليمهم ولمستقبلهم.. ورحيل الفريق الاقتصادي الذي يدير الاقتصاد الآن لن يحل المشكلة إن لم يعمقها أكثر، وقد نجح “بدر الدين محمود” في التدابير الخاصة بمحاربة التجنيب والسيطرة على المال على قلته من خلال ما يعرف بالحساب الموحد.. لكن بالطبع أخفق في زيادة الصادرات بسبب الحصار الاقتصادي الذي لا يتوقع أن يرفع إلا بتدابير سياسية من بينها السلام في السودان، وطريق السلام شاق وصعب ويمر بمناطق وعرة، لكن لا بد منه.
والحديث عن جذب استثمارات عربية حقيقية في ظل عجز المصارف عن تحويل الدولار إلى الخارج، يظل وهماً كبيراً وأماني للنفس تفارق الواقع.. وأي حديث عن زيادة في الإنتاج وأغلب المناطق الزراعية خارج دائرة الإنتاج بسبب الحرب يمثل أوهاماً فقط وأمنيات وشعارات وخداع لمواطنين صبروا كثيراً من أجل تغيير الراهن.. ولكن طال الصبر.. واستحالت الحلول.