;(المجهر) تعيد نشر الحوار النادر مع الشاعر الراحل "محمد علي أبو قطاطي"
الفنانون الشباب شوهوا الأغنية وركبوا العربات الفارهة وأنا “عجلة” ما عندي
حاورته – هبة محمود
المكان: قرية ريفية حالمة ترقد في أحضان نهر نيلنا الخالد بالضفة الغربية، وهي قرية “كرري العجيجة”. الزمان: 1931م وذلك عندما أطل للسيدة “زينب بت محمد ود سراج” مولود ذكر ابتهج به والده “دفع الله ود محمد ود علي” الذي أطلق عليه اسم “محمد علي” تيمُّناً بوالده “محمد علي”.
لم تكن أسرته تعلم أن هذا المولود سيكون له شأن كبير يفخر به السودان. رحلة إبداع استمرت لأكثر من خمسين عاماً، اتسمت حياته فيها بالحركة الدائمة، جاب فيها الآفاق والتقى بأُناس كُثْر. هذا التجوال كان له كبير الأثر في أن يُضفي على حياته تجربة، ومعرفة، وثقافة، وأن يكون إلهاماً في حياته الشعرية فاتحاً أمامه الكثير من الأبواب المُغلقة. إنه الشاعر الكبير “محمد علي أبو قطاطي”. جلست إليه ووثّقت له في حوار سابق بـ(الأهرام اليوم)، فإلى مضابط الحوار:
{ “أبو قطاطي” ورحلة مع المرض استمرت لوقت ليس بالقصير ودرجة من المعاناة جعلتك تنشد الاستشفاء في مصر عدة مرات فكيف حالك الآن؟
_ الحمد لله على ما قدّره، فأنا صابر وراضٍ بقدر الله انتظر الفرج، فكل العلاجات باءت بالفشل، وانتظر رحمة الله ودعوات الصالحين والأحباب.
{ “أبو قطاطي” ما بين الدراسة.. والبوليس.. وعشق وغرام شديد للبندقية؟
_ كان الخواجات الإنجليز يحضرون إلى “كرري العجيجة” بأسرهم ليصطادوا طير (القطا) الذي كان يرد النهر صباحاً فيصطادونه ببنادق الخرطوش، وعندما تُصاب إحدى الطيور وتقع على الأرض نجري نحن الصغار لإحضارها لهم ويطير باقي السرب، فنجد في ذلك لذة ومتعة، وهكذا أمضي جُل الوقت مع الخواجات ولا أشعر بالتعب وتملّكني غرام وعشق شديد للبندقية، وعندما يُطلق أحدهم طلقة كنت أصفِّق له إعجاباً، وفي العصر أعود إلى الخلوة لمواصلة القراءة. ففي هذه الخلوة تعلمت مبادئ القراءة والكتابة وحفظت حتى نصف (سورة الدخان)، وقبل أن أكمل حفظها انتقلت إلى الجزيرة اسلانج لأكون مع أسرتي، حيث يتولى والدي زراعة أرض هناك، وفيها دخلت خلوة الشيخ “الحسن البصري” إحدى خلاوى الفكي “الأمين ود أم حقين”، واستمررت في القراءة هناك لمدة ست سنوات ثم بعد ذلك جئنا إلى القماير، وذلك عندما وقع الاختيار على أبي لتشجير مدبغة السودان الواقعة بأم درمان شمال أبو روف.
ولمّا لم تكن هناك خلوة لأواصل منها قراءتي فقد كنت أعمل نهاراً بالمدابغ المجاورة نظير أربعة أو خمسة قروش لمصروفاتي لالتحاقي بمدرسة ليلية بالمسالمة حي المظاهر تُسمى (المستقبل الليلية) لصاحبها ومؤسسها الأستاذ “صلاح بشير إمام”، ثم بعد ذلك طلبت من والدي أن يُلحقني بالمعهد العلمي، وتم قبولي بعد اختباري في القراءة ببعض سور القرآن، ولرغبتي الصادقة في القراءة والتحصيل فقد اشتركت في مكتبة أم درمان المركزية بجوار مستشفى الإرسالية.
عند إضراب البوليس الشهير في الخمسينيات أُعلن عن قبول متطوعين لحراسة الأسواق والمحال التجارية فتقدمت ضمن المتطوعين لحراسة المتاجر وزنك اللحم وزنك الخضار، وبعد فترة أُعلن عن تجنيد رجال بوليس جُدد فتقدمت حين علمت أن رجل البوليس يمكن له أن يتدرب على البندقية مما شجعني على التقدم فوراً، لأن ذلك يناسب رغبتي في تعلُّم البندقية وحبي لها، وتساءلت: إذا قبلت التجنيد كرجل بوليس هل يمكنني أن أحمل البندقية وأتدرب عليها؟ فعلمت أن ذلك ممكن، وعلى الفور تقدمت فأخذوني، وكان عمري (19) سنة، وأرسلونا إلى مدرسة المستجدين، وكان كل همي وتركيزي لا على الطابور أو قراءة القانون، وإنما على تعلُّم الرماية بالبندقية حسب إعجابي القديم بها، وبعد توزيعنا على النقاط لأداء الخدمة الأمنية بدأت أتمرد وأغيب وأحياناً أترك النقطة خالية وأذهب، وقد ظهر جلياً عدم رغبتي في العمل فقدموني إلى مجلس تأديب أمام الحكمدار “أحمد عبد الله أبّارو” فطالبته برفتي من الخدمة لأنني لا أود الاستمرار في العمل، وبالفعل كان لي ما أردت، وقد فعلت كل هذا من أجل البندقية فقط.
{ الشاعر “عمر البنا” وقصة تحولك من كتابة شعر الدوبيت إلى الشعر الغنائي؟
_ أنا أكتب شعر المربعات، وجزء منه كنت أعطيه الصحف حتى تنشره، وأيضاً برنامج في الإذاعة، وأذكر في يوم التقيت بالشاعر “عمر البنا” وسألني: هل أنت شاعر؟ فقلت له: نعم، فقال لي: اسمعني شيئاً من شعرك، فأسمعته مقطعاً من قصيدة، فأثنى عليه وطلب مني أن أحضر إليه ومعه عدد من الشعراء ليقدمني إليهم في منزل “علي حامد البدوي” ولديهم رابطة تُسمى (الأدب القومي) وهي رابطة تجمع كل شعراء السودان. فذهبت إليه وأنا أحفظ شعر الدوبيت وكان هناك شاعر اسمه “خالد آدم ابن الخياط”، فقام بطردي لأني كنت صغير السن إلا أن “عمر البنا” هو من أصرَّ على أن أجلس. فاستمعوا إلى شعري وأجازوه وأصبحت أصغر عضو في رابطة الأدب القومي، وبعد ذلك قام الشاعر “عمر البنا” بتشجيعي على أن أكتب الشعر الغنائي ومنذ ذلك الوقت صرت أكتب الشعر بلا توقُّف.
{ الناظر إلى أشعارك دائماً ما يجد معظمها يتحدث عن الحب واللوعة والشوق والحنين؟
_ أبداً.. أنا لديّ أشعار وطنية وحماسية، فأنا أختلف مع كل الشعراء الذين كانوا يكتبون عن الدموع، والمآسي، والهجر، أردت أن آتي بشيء مختلف، لا أن أكتب شعراً خيالياً، كل أغنياتي من الواقع وعن تجارب عشتها وكل بطلاتها موجودات.
{ تعاملت مع عدد مقدر من الفنانين ولديك (93) أغنية وتكاد أن تكون هناك ثنائية بينك وبين الراحل “خليل إسماعيل” باعتباره أكثر من تغنى لك.. لكن تظل الثماني للفنان “وردي” هي الأروع والأجمل؟
_ أنا لا أكتب شعراً مخصصاً لـ”وردي”، وليس هنالك فنان (صمت وفطرت عليهو)، ولكن كل ما يمكنني قوله إن أي كلام أو غناء يخرج من (خشم) “وردي” هو جميل، (وردي الناس تعشقه حتى لو رطن)!!
{ ما هو سر النزاع الذي نشب بينك والشاعر “السر قدور” حول إمارة الشعر الغنائي؟
_ نشب نزاع حول إمارة الشعر الغنائي، فكتب الأخ العزيز الشاعر “السر أحمد قدور” قصيدة نونية يدّعي فيها أنه أمير الشعراء، وقد عناني وآخرين بالتحدي بأن أرد على قصيدته، أو أبايعه أميراً فكان ردي عليه ما يلي:
أنا يا السر قدور عارفك طموح وأناني
عشمان في الإمارة بدون جهود وتفاني
أنا وحدي الأمير وعلى الجميع سلطاني
عيب يا صاحبي تتجرّأ وتتحداني
وإلى آخر القصيدة..
{ حُبك لإمارة الشعر ورئاسة الاتحاد جعلك تتهاتر عبر الصحف مع الشاعر “محمد يوسف موسى” وأنت أول الذين يعيبون على الفنانين مهاتراتهم عبر الصحف؟
_ أنا لم أتهاتر مع الشاعر “محمد يوسف موسى”، بل هو الذي بدأ أولاً وأنا لم أرد عليه، فغيري هم الذين تولوا الرد بدلاً عني. وقد كان ذلك استفتاءً حقيقياً بالنسبة لحب الناس لي.
{ هل ما زلت تطمح لرئاسة الاتحاد؟
_ أنا زاهد عن رئاسة الاتحاد ولو كلهم تنازلوا لي فأنا لا أريده، ففي السابق كنت أناكف على إمارة الشعر، ولكن الآن (لا).. وذلك نسبة لظروف المرض والسن.
{ لقد ذكرت في إحدى المرات إنه لا توجد ما تسمى بالأغنية الهابطة؟
_ بالطبع لا توجد ما تسمى بالأغنية الهابطة. هناك أغنية…
{ (مقاطعة).. وماذا تُسمى أغنيات مثل (القُنبلة، واضربني بي مسدسك، ومهند ونور) وغيرها من الأغنيات ذائعة الصيت؟
_ هذه الأغنيات لم أسمعها ولا أريد أن أسمعها، وكل ما أقوله للشباب هو إننا بدأنا شباباً وهذا ليس عيباً، ولكن أهم شيء أن يركِّزوا ويختاروا النصوص بمسؤولية.
{ هل هؤلاء الشباب شوهوا الأغنية؟
_ بالتأكيد.. وذلك من خلال (الإيقاع السريع والميلودية الباهتة) وهم الآن يتغنون بقصائدنا ويركبون العربات الفارهة والبرادوهات، (وأنا عجلة ما لاقي عشان أركبها)، وبالرغم من ذلك فأنا ما عندي مانع من التعامل معهم، ولا أسعى وراء مكسب، وكل ما قدمته خلال الخمسين عاماً الماضية أنا راضٍ به تماماً.
{ الكثيرون يقولون إن شاعر الأغنية الأول هو “إسحق الحلنقي” وهو رئيس جمهورية الحب.. فما تعليقك على هذا القول؟
_ هنالك من هم أكفأ شعراً من “الحلنقي”، لكنهم لم يجدوا حظهم من الإعلام، مثل الشاعر “عبد القادر الكتيابي”، “التجاني سعيد”، “الزين عباس عمارة”، “هاشم صديق” و”الجيلي عبد المنعم”.
{ هل عطاؤك ما زال مستمراً وأنت على فراش المرض.. أم أنك اكتفيت بكل جميل قدمته للناس وأسعدتهم به؟
_ على العكس عطائي ما زال مستمراً ومن على فراش المرض قدمت لهؤلاء: (سميرة دنيا، أمير حلفا، هشام درماس، سيف الجامعة، وليد زاكي الدين، طه سليمان وعصام محمد نور)، وآخر ما كتبت على سريري أناشيد للوحدة، ولديّ نصوص لدى الفنان “محمد وردي” لم يغنها.
{ بمناسبة الوحدة والانفصال ما هو رأيك تجاه هذا الأمر خاصة وأن حق تقرير المصير هو ما نصت عليه اتفاقية “نيفاشا”؟
_ إنّني أتضرع إلى الله داعياً أن يلمّ الشمل بعد الفُرقة، وحزنت جداً لانشطار الوطن، وأعلم ما هو تأثيره على الوطن والمواطنين، وقد كتبت نشيداً للوطن يقول مطلعه:
من أجل الوطن نتحدى الصعاب ونلاقي المحن
ونجود في سخاء بالأرواح تمن
من أجل الوطن بندلي النجوم ونهد الجبال
ونزيل الغيوم ونكون السهام في قلب الخصوم
ونكون للصديق صافين كاللبن
{ ختام الكلام؟
_ أشكر نائب رئيس الجمهورية الأستاذ “علي عثمان” الذي أرسل لي إعلام القصر الجمهوري وقرّر لي أعانة شهرية، كما أشكر الأستاذ “عبد الباسط سبدرات” الذي لم يتوقف سؤاله عني، وأيضاً الشكر لسعادة السفير “عبد الرحمن سر الختم” الذي أول ما علم بوجودي في القاهرة جاءني وسأل عني، والشكر الجزيل لـ”جمال الوالي” الرجل الرائع الذي كانت سفرتي الأخيرة إلى مصر على نفقته الخاصة.