خربشات الجمعة
(1)
دعوة مريبة وصلتني عبر الهاتف من الدكتور “مصطفى عثمان إسماعيل” وزير الخارجية الأسبق.. ريبة الدعوة ليست في صاحب المنزل.. فقد اشتهر الوزير السابق بالكرم وحفاوة الاستقبال حتى جمع يوماً في منزله الواقع بضاحية يثرب جنوب الشجرة، كل قيادات اللجان الشعبية ورؤساء المؤتمر الوطني بالمناطق والأحياء في عهد (الخليفة) “عبد الرحمن الخضر”.. فإذا كان “عثمان كبر” والي شمال دارفور السابق هو خليفة المسلمين السادس بعد “عمر بن عبد العزيز” في نظر الملك “معاذ”.. فما الذي لا يجعل أيضاً “عبد الرحمن الخضر” الخليفة العاشر أو حتى الخامس والعشرين بعد “عبد الملك ابن مروان”.. ومصدر الدهشة أن الوزير حدثني عن ضيوف قادمين من وزارة الخارجية (ستجمعني) به تلك الجلسة النهارية ظهر (السبت).. خاصة و(السبت) الماضي كان خالياً من المباريات العصرية المثيرة في الدوري الإنجليزي باستثناء واقعة (الكام نو) بين برشلونة وأتلتيكو مدريد.. حزمت أمري وتوجهت لمنزل الوزير السابق تزاحمت في مخيلتي الأسئلة.. لماذا يتوغل “مصطفى عثمان” في المياه الإقليمية للدكتور “إبراهيم غندور” ويستغل غيابه عن البلاد ويسرح ويمرح في (حاكورته) بدعوة عدد من السفراء لمأدبة غداء والشمس في كبد السماء؟؟ والسودانيون حينما يغادرون مواقعهم يحتفظون ببعض الجيوب (الصغيرة) التي تمتد خيوط وصلهم بهم (كمخبرين) ينقلون إليهم ما يحدث في الوزارة أو الولاية.. ولكن د.”مصطفى عثمان” من أصدقاء “غندور” ورفقاء دربه، فكيف يجمع بعض السفراء في مأدبة؟؟.. وهل إذا كان د.”مصطفى عثمان” يفكر في تدبير شيء ما يقدم الدعوة لصحافي ليصبح شاهداً على ما حدث أو يحدث ولو بعد حين؟؟
طرقت باب المنزل الذي لا يبدو موحشاً مثل (بيوت) بعض المسؤولين السابقين.. حيث ينفض أصحاب الحاجات عن المسؤولين مجرد مغادرتهم المواقع الناعمة ويتركونهم في حسرة على الزمن الذي تبدل وكثيراً ما أجتر أحدهم ذكريات الأمس وردد قول “محمد مفتاح الفيتوري”..
دنيا لا يملكها من يملكها..
أو استحضر مقولة الإمام الشافعي..
الأيام بين الناس دول..
ومن سره زمن ساءته أزمان
يبدو منزل “مصطفى عثمان” عامراً بالناس نابضاً بالحياة مورقاً مزدهراً.. وصاحبه قانع بوجوده في قلب المجتمع.. أربعة من كبار السفراء في الخارجية جميعهم كانوا مقربين جداً من الوزير الأسبق.. والآن تفرقت بهم دروب الحياة.. وقد أضفى السفير د.”وليد سيد” ألقاً خاصاً بقفشاته السياسية وخفة دمه وطيب معشره.. وصاحب الدار ينثر ذكريات السنين في دهاليز الدبلوماسية السودانية من عصر “صدام” و”معمر القذافي” إلى (معمعة) العلاقات مع الولايات المتحدة التي كانت تتعمد ابتعاث نسائها لـ”الخرطوم” لشيء في نفسها.
قبل أن نشرب القهوة والشاي ويحلو السمر، سألنا صاحب المنزل هل تعلمون خفايا وأسباب هذه الدعوة وكيف جاء هذا الخروف الذي التهمته الأيدي ولم تبقِ لصاحبة الدار إلا الاستمتاع (بأم فتفت) و(النيفا).. ولمن لا يعلم (فالنيفا) هي رأس الخروف.. قال صاحب الدار هذه من بركات (الواتساب) ووسائط التواصل الاجتماعي التي بثت خبراً كاذباً الأسبوع الماضي عن تعديلات أقرها المكتب القيادي.. قضت بتعييني والياً على ولاية “الخرطوم” وتعيين الفريق “عبد الرحيم” وزير دولة بالقصر الجمهوري.. حينما تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي الخبر هرع خالي مسرعاً لأقرب سوق مواشي واشترى خروفاً وحمله على سيارته لمنزلي.. كنت حينها خارج المنزل.. اتصل الخال مهنئاً.. فقلت له يا خال هل أنت تصدق مثل هذه الأكاذيب.. وهل يعقل أن يعين الفريق “عبد الرحيم” في منصب وزير دولة بالقصر الجمهوري، المهم ترك خال د.”مصطفى” الخروف ومضى إلى سبيله وآثر الرجل أن يشرك بعضاً من أصدقائه في خروف (الواتساب) الذي يمثل بالنسبة لأمثالنا ممن يحبون لحوم الحيوانات.. كذبة لها فوائد ومضار ولكننا في ذلك اليوم حصدنا ثمرات الكذب جلسة أنس نادرة ووجبة فاخرة تسند الجسد الذي وهن وضعف.. (وإن شاء الله يا الواتساب الله ما جاب يوم شكرك).
(2)
ارتبطت مدينة (ميونخ) الألمانية في ذاكرة العرب بكثير من الأحداث.. أشهرها العملية الإرهابية أو الثورية التي قامت بها جماعة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حينما اختطفت طائرة (اللوفتهانز) واستطاعت فتاة فلسطينية تدعى “سهيلة السايح أندرواسي” مقاومة القوة الألمانية التي اقتحمت الطائرة.. وفقدت “سهيلة السائح” إحدى (ساقيها) وظلت تمشي على (عكازة) حتى قبل عامين وهي تقيم في منفاها الاختياري بمدينة “أوسلو” النرويجية.. ومدينة “ميونخ” كما قال عنها الأديب “الطيّب صالح” في كتاب للمدن تفرد وحديث.. إنها بطعم الجنوب.. الألماني لقربها من سفوج جبال الألب تهب عليها من وقت لآخر رياح دافئة من إيطاليا.. وهي كذلك على رقة من النمسا وسويسرا وفرنسا، ولو أنهم أي الأوروبيون اختاروا أن تكون لهم عاصمة للدولة الأوروبية الموحدة لما وجدوا خيراً من “ميونخ”.. فهي تكاد تكون في قلب أوروبا.. غير أن “الطيّب صالح” لم يذكر ملعب (عش الطائر) في مدينة “ميونخ” الذي أقيمت عليه الأولمبيات الشهيرة واحتضن مباراة الميلان في عهده الذهبي وليفربول أيام عنفوانه وشبابه في نهائي أبطال أوروبا 1986م، وفي تلك المدينة التي زرتها العام قبل الماضي وأنا في طريقي للقاء د.”علي الحاج” والزميل الصديق “إيهاب إسماعيل” ينتظرني في “برلين” لنبلغ الرجل الداهية. دلفت إلى أحد المطاعم الصغيرة لتناول وجبة غداء ولفت نظري ذلك الشاب الذي يفيض حيوية ونشاطاً بين رواد المطعم.. شاب أسمر اللون شعره (قرقدي) وأسنانه بيضاء.. من ملامحه أيقنت أنه من جبال النوبة.. دعوته بلغة النوبة النمابخ أو الأما.. أو لهجة النوبة، فالسودانيون لا يتفقون حتى اليوم حول الفرق بين اللهجة واللغة.. المهم قلت له (قص) وتعني شاباً أو صبياً.. التفت نحوي ووضع كل ما بيده على أقرب طاولة واحتضنني حتى بدأ بعض زوار المقهى ينظرون إلى (الأفارقة) الذين يتعانقون بمودة وحب.. وجدته فعلاً من “الدلنج” منطقة تندية.. هاجر مثل الآلاف الذين دفعتهم الحرب لترك ديارهم وأوطانهم و(شتو) في أرض الله الواسعة.. أي (تفرقوا) بحثاً عن الأمان والعيش الكريم حتى لو كان ذلك في بلاد (الألمان) أصحاب الاسم.. بالمناسبة أهلنا النوبة (النمابخ) يدعون أنهم ألمان السودان ويسمون أنفسهم (بالأما) أي الناس.. والحنين والمودة التي يتقابل بها أهل السودان في المنافي والغربة لا مثيل لها.. وغادرت مدينة (ميونخ) ولم يترك “سيد حماد كوه” هدية صغيرة أو كبيرة وإلا حملني بها وطوقني بحب جارف واحترام وتقدير وحنين.. وقد تذكرت وأنا أضع قدمي اليمنى ممتطياً القطار السريع حنين الدكتور “عز الدين هلالي” إلى الوطن وهو بعيد عنه فكتب يقول:
يا وطني يا الكاتلني ريدو
يا وطني باقيلك أنا كان ما الظروف منك بهاجر
وبغترب
والله أنت جوه فؤادي أنت وأنت ياكا الفي القلب
بس يا وطن الشوق رمانا هناك بعيد
والشوق هناك ما ليهو حد
كلما نحاول ننفلت من جزر شوق
يلقانا مد
يرمينا للقيف من جديد
ونفضل نصارع في الزمن
يغلبنا بالهم الشديد
ونغلبوا بالريد يا وطن..
شكراً لتلك الأيام وكل جمعة والجميع بخير.