المفاوضات
انفضت جولة المفاوضات غير الرسمية، وهي في هذه الحالة محادثات ونقاش لتحسس المواقف والعمل على ترتيب نزول سلس على نقاط الخلاف أو (تحريرها) بحيث يسهل في التفاوض الرسمي العبور بها إلى الأمام. وميزة هذه اللقاءات أنها تمنح كل طرف فرصة إدارة رؤيته (بنفس بارد) وحشد الأسانيد الموضوعية في حل من ضغوط الوسطاء وفضول الإعلام وقصفه وربما أحياناً اجتهاداته الضارة لكنها بالمقابل خاصة مثل طرف متلون ومرتبك ومربك مثل الحركة الشعبية شمال، فإنه لا يمكن التعويل على التزامات موثوق بها فإن كان قد اعتاد الإنكار والتراجع في حضور رئيس الآلية الأفريقية ونكص حتى عن توقيعاته (مثل الاتفاقية الثلاثية حول الشأن الإنساني) فما ظنكم بالتزام يقر به بحضور الوفدين منفصلين!!
لم أستغرب التزام الحركة الشعبية في المباحثات غير الرسمية بأديس الشهر الماضي بشيء وتنصلها منه في برلين قبل يومين! إن لم يفعلوا هذا فإنهم لن يكونوا حركة التمرد التي نعرفها لأنها أصلاً لا تملك تصورات معلومة ورؤى محددة سوى تعابير فضفاضة على شاكلة قضايا السودان وهو تعبير معنوي وجملة مثل العلكة يمكن مضغها أطراف النهار وزلفة من الليل دون أن تبلى وإن فقدت طعمها وملتها أذان الشهود؛ ولست ميالاً إزاء تقلبات الحركة لوصمها بأنها تنصاع لتوجيهات قوى دولية أو إقليمية فهي قد بلغت حداً من الهوان صارت معه خارج حسابات تلك الأطراف لأنها ببساطة لم تعد ذات قدرة في تغيير النظام بالخرطوم ولا تملك حتى إمكانية أن تكون عنصراً يجتمع حوله من يعارض الحكومة، فهي منبوذة عند بعض قوى الداخل ومختلف حولها حتى الشقاق بين الجبهة الثورية التي ترفض الآن نزع ثوبها لكونها الكيان المؤسس والقادح للفكرة.
قطاع الشمال صار لإشكالات خاصة به أشلاء ممزعة وممزقة؛ فقادة الميدان وقوته المسلحة محصورة في أطراف بعيدة وأقصى ما يمكن أن تفعله قطع الطريق على السابلة بالقرى النائية عبر ما يسمى بعصابات (الجوالة) لكنها لا تملك إطلاقاً القدرة على هجوم ينتزع حامية أو يحدث فرقعة، بدليل أن نحو (75) خرقاً لوقف إطلاق النار المعلن من الحكومة قد وقع لم يسمع به حتى سكان كادوقلي أو غيرها من مدن جنوب كردفان دعك عن الخرطوم.
سيطرة وعلو الحركة الشعبية شمال على متمردي دارفور وحركاتهم قلت فعاليته؛ لم يعد القطاع هو الملهم ولم تعد الحركات على استعداد لكي تكون لاعب تنفيذ المهام بالقتال وشد تركيز القوات الحكومية في دارفور أو كردفان لتنفيس الضغط على قوات القطاع وسط الجبال؛ فعملياً خرجت الحركات من المسرح العسكري فبعد “قوز دنقو” التي قصمت ظهر العدل والمساواة لا تملك حركات دارفور سوى هامش ضيق على الحدود مع ليبيا وشريط على تخوم جبل مرة جارٍ التعامل معه مع مفرزة منزوعة السلاح لقوات “جبريل” في نواحي خور شمام ببحر الغزال، وحتى هذه في ظل التقسيم الإداري الجديد لمقاطعات الجنوب قد يجعلها تحت إمرة شق من الولاة الجدد من غير الحلفاء القدامى لأن الخارطة الإدارية تغيرت.
“ياسر عرمان” لم يفقد حلفاء في الثورية فقط لكنه يعاني فقداً داخل بنائه السياسي جعل وفده المفاوض في كل الجولات الثلاث الأخيرة خالياً من القيادات الميدانية المؤثرة وتحديداً كتلة “جقود مكوار”، فضلاً عن تراجع حماسة أبناء النيل الأزرق الذين بعد تجريد “مالك عقار” من صولجان وثقل رئاسة الثورية لم يعد لهم من تمثيل سوى رمزية اسم المنطقة لأن توزيعات المناصب الفاعلة بالقطاع توزعت بين “عرمان” و”جقود” و”الحلو” وإن قلت فعالية الأخير أصلا لاعتبارات صحية وخاصة به.
لكل هذا ولكثير غيره، فإن واقع الأمر يقول إن دوافع الحركة الشعبية وجماعة “عرمان” في التلكؤ غرضها كسب الوقت لإحداث ترميم مناسب أو انتظار التئام جراح التحالفات لأنه في ظل هذه التعقيدات لا يملك مقدرة على اتخاذ أي موقف نهائي، لذا فإن التوصل لأية نقاط إيجابية مع حركات دارفور أو إحداث اختراق مباشر مع كتلة أبناء الجبال في القوة الميدانية سيجعل حتماً تقديراته في أية جولة مقبلة مختلفة.
أمر أخير لطالما نصحت وأشرت إليه، مفاده أن ليس للحكومة ما تخفيه؛ مواقفها واضحة ومقاصد السلام عندها جلية، لذا أفضل لها أن تفاوض تحت الضوء وبشهادة الإعلام؛ رغم كلفة هذا أحياناً، لكن يوفر في الحد الأدنى حجية تقوم على من ينكث التعهدات أو يمارس التعسف.