تقارير

(المجهر) تكشف تفاصيل مسكوتاً عنها في أحداث "الجنينة"

“الجنينة” أنين الجراح في بيت سلطان دار المساليت
الوالي يقسم بأن لا شراء لولاء الإدارة الأهلية بالمال
المساليت والعرب يشكون من ضعف تمثيلهم في الحكومة
حديث (السبت)
يوسف عبد المنان

مضى أكثر من أسبوع على نشوب أحداث العنف التي شهدتها مدينة “الجنينة” مؤخراً ولا تزال الأحداث هناك تأخذ برقاب بعضها البعض.. وإذا كانت أحداث “الجنينة” التي راح ضحيتها (12) من السودانيين الأبرياء بعد مقتل الراعي بالقرب من قرية (ملي) وتداعيات ما حدث بعد ذلك، فإن أربعة حوادث قتل شهدتها ولاية غرب دارفور من بعد ذلك.. بل إن قرىً بأكملها في محلية كرينك تم حرقها يوم (الأربعاء) الماضي، في حادث (سرقة) لأبقار من قبل مواطنين يحترفون السرقات في الإقليم المنكوب.
ومنذ وقوع الأحداث تعددت الروايات عن أسباب ما حدث واختلفت تلك الروايات من شخص لآخر، تبعاً لموقف الراوي أين يقف من ضفاف السياسة ومنعرجات القبائل والاثنيات.. لحكومة الولاية روايتها، ولوفد الحكومة المركزية روايته.. وللإدارة الأهلية من المساليت روايتها والإدارة الأهلية من القبائل العربية روايتها.. وللمواطنين العاديين رواياتهم.. وبين هذا وذاك تتعدد تفسيرات الحدث ومآلات الأوضاع. والسؤال الذي لم نجد له إجابة هل ما حدث من اضطرابات وقبله تظاهرات رغيف الخبز الحاف، هي بداية أم نهاية للأحداث في غرب دارفور؟؟ صور متعددة تنقلها (المجهر) للقراء من واقع مشاهدات وحوارات ليومين في عاصمة (دار مساليت) التي يطلق عليها “دار أندوكا”.. قد تجد في ثنايا محاولة قراءة المشهد الأمني والسياسي ما يشبع رغبتك.. وقد لا تجد في ما نكتب شيئاً يضاف لرصيدك المعرفي عن شجون وشؤون دارفور، وفي كلا الحالتين فإن الجهد البشري يظل (ناقصاً) ولن نبرئ أنفسنا من ميل قلبي أو هوى شخصي.. ولكن تبقى الحقيقة هي الكنز المفقود حتى يوم البعث.
{ صورة أولى
هبطت بنا الطائرة (البوينج) في مطار الشهيد “صبيرة” ولفحت الوجوه برودة الطقس ورياح الشتاء.. وبدأت مدينة “الجنينة” من على البعد غبراء شعثاء في فصل الجفاف، وقطعان الماشية حول المطار تبحث عن العشب الجاف في موسم شحيح الأمطار.. أنبت بدلاً من قناديل الذرة وسنبلات السمسم مشكلات بين الرماة والمزارعين، ببحث الرعاة عن العشب الجاف حتى لو كانت مزارع يمتلكها غيرهم.. ورغم كثافة السيارات في مطار الشهيد “صبيرة” وتمازج الوجوه وتعدد السحنات من ثلاث دول هي تشاد وأفريقيا الوسطى والسودان، جميعهم يغدون ويروحون من “الجنينة” للخرطوم ثم دبي فالأراضي المقدسة ثم العودة، ولا يفصل “الجنينة” عن تشاد إلا حوالي ثمانية عشر ميلاً.. ولكن إذا كانت تشاد تنعم الآن بالاستقرار والأمن فإن دارفور اليوم تضطرب وتلوح في الأفق بوادر عودة الفوضى والحرب التي انتهت بين الحكومة والمتمردين، ولكن الصراعات الداخلية تنفخ الروح في التمرد وتمده بالرجال والدعم والسند، ولهذا السبب رمت الحركات المسلحة بثقلها في غرب دارفور الآن.. وهي تسعى لإشعال نيران الفتنة وعودة الصراع بين العرب والمساليت الذي جعل حتى الراحل “إبراهيم يحيى” يغادر الخرطوم ويغرد في سرب التمرد قبل أن يفيق من سكرة الغضب ويعود لأحضان الحزب الذي ساهم في ذيوعه وانتشاره.. الروايات التي قدمها معتمد “الجنينة” الأمير “الطاهر عبد الرحمن بحر الدين” عن أسباب الأزمة التي نشبت في “الجنينة”، تبدأ من اتهام جهات سياسية في الداخل عمدت على تحريض الأهالي للنزوح من (ملي) حتى داخل المدينة، وهناك شباب معارضون من المعسكرات خرجوا لإرشاد النازحين لمبنى رئاسة الولاية ومنزل الوالي الذي تم حرق كل أثاثه.. وكذلك أمانة الحكومة. وقدر وزير مالية غرب دارفور د.”الهادي محمد آدم” الخسائر التي منيت بها أمانة الحكومة بنحو (7) مليارات جنيه سوداني.. ويمضي الأمير “الطاهر بحر الدين” وهو شاب دون الأربعين للقول إن الإدارة الأهلية للقبائل لعبت دوراً في إخماد نيران الفتنة التي تسببت فيها جهات عديدة حتى داخل المؤتمر الوطني، هناك بعض القيادات تم التحري معها وتوقيف بعضها لاشتباه في تحريض الأهالي بدخول أمانة الحكومة.. وفي مكتب المعتمد كان هناك وجود لقيادات القبائل العربية من البني هلبة والرزيقات، وأولاد زيد وأولاد راشد وخزام. وتحدثت قيادات القبائل العربية بغضب شديد محملين المعارضة في المعسكرات مسؤولية الأحداث، واتهم الأمير “عبد الله شنيبات” الشرطة في غرب دارفور بأنها لا تؤدي واجبها بحياد بين المواطنين، ويروي أن الشاب الذي قتل ظلت جثته ثلاثة أيام بالقرب من نقطة الشرطة ولم يكترث مساعد الشرطة لإبلاغ أهل المفقود، وهناك تباطؤ في الوصول من “الجنينة” إلى (ملي) والمسافة لا تتعدى الـ(20) كيلو متراً.
ويقول الأمير “شنيبات” إن القبائل العربية نصيبها من السلطة قليل جداً ويطالبون بنصيب أكبر في (كعكة) السلطة، ويعتبرون أنفسهم مظلومين من قبل الوالي. وهي ذات الشكوى التي ذهبت إليها قيادات الإدارة الأهلية من قبيلة المساليت. ويقولون إن الوالي قد ظلمهم في السلطة وأن التغييرات في الجهاز التنفيذي الأخيرة قد أزاحت بعض المديرين العامين في الوزارات من أبناء المساليت.
{ في مجلس السلطان
حينما كانت الشمس تميل نحو الغرب والساعة تقترب من الثالثة صعدنا إلى ربوة عالية في قلب مدينة “الجنينة”، حيث منزل سلطان دار مساليت “سعد عبد الرحمن”.. النظارة السوداء تغطي جزءاً من تفاصيل الوجه.. البيت مفتوح بدون أبواب منذ عام 1950م، وحتى اليوم.. أكثر من أربعين من قيادات الولاية كانوا يجلسون في دائرة يتوسطها “سعد بحر الدين” وهو يستقبل وفداً مشتركاً جاء من الخرطوم مباشرة لمنزل السلطان، ولم يمر عبر السلطة التنفيذية ولا السياسية ممثلة في الوالي.. الوفد يضم مجلس شورى الرزيقات بقيادة الوزير “علي مجوك” ومجلس شورى المساليت برئاسة “محمد إبراهيم محمد” عضو المجلس الوطني، و”فيصل السيد” أمير الجلابة في غرب دارفور، و”طه حسن تاج الدين” و”أحمد إسحق يعقوب” و”ليلى مصطفى” و”قمر عبد الرحمن”.. السلطان “سعد بحر الدين” لم يخفِ مطلقاً نقده الشديد لأداء الجهاز التنفيذي وتعبيره الصريح عن عدم رضائه عن الوالي، وفي ذات الوقت ينفي “سعد بحر الدين” وجود مشكلات بين العرب والمساليت.. ويقول لو كانت الشرطة وصلت لمكان الحادث وألقت القبض على المتهمين بالقتل ولو احترازياً.. وبسطت سيطرتها على الأوضاع لما حدث ما حدث.
ويمضي السيد السلطان قائلاً إن النازحين الذين جاءوا من (ملي) هناك جهات أرشدتهم لمنزل الوالي وأمانة الحكومة، ولكن يقول النازحون مكثوا ثلاث ساعات في انتظار الوالي لمخاطبتهم لكنه كان مشغولاً بزيارة وزيرة الرعاية الاجتماعية “مشاعر الدولب”، الشيء الذي جعلهم يثورون ويحدثون التخريب؟؟ وبعد أن ازدحمت مضيفة السلطان بشهي الطعام لأكثر من خمسين شخصاً بعضهم جاء عابراً.. ولكن أصبحت جلسة منزل السلطان ندوة سياسية عن قضايا دارفور والولاية.. ووجه “بكري المدني” رئيس تحرير (الوطن) اتهامات صريحة لقيادات دارفور بالمتاجرة في أرواح المواطنين. وذهب “أسامة عبد الماجد” مدير تحرير الزميلة (آخر لحظة) إلى أن الوالي قد فطم قيادات الولاية من ثدي المال، لذلك لم يجد التعاون منهم.. وهنا بطريقته الهادئة يقول السلطان “سعد بحر الدين” هل تعلمون أنني بعد أن وصلت “الجنينة” وفي المقابل حينما تم تشييع جثامين ضحايا الأحداث، كان هناك (7) آلاف من الشباب والرجال جميعهم كانوا غاضبين جداً ويهتفون، وقد عقدوا الرأي على اقتحام المدينة عنوة ومواجهة السلطة ولكني هدأت من غضبهم.. ولو دخل هؤلاء المدينة لتصدت لهم القوات الأمنية ولحدثت مجزرة، كان يمكن أن تؤدي لتدخل دولي في السودان.. فكيف تتهمون الإدارة الأهلية بأنها لا دور لها.. ونحن قلنا حديثنا أمام لجنة التحقيق التي هي لجنة اتحادية محايدة، وتستطيع أن تصدر قرارات وتوصيات تضع كثيراً من النقاط على الحروف.
{ “خليل عبد الله” رجل في عين العاصفة
رغم رياح العاصفة الشديدة التي ضربت “الجنينة” إلا أن الوالي “خليل عبد الله” بدا ثابتاً في مواجهة المحنة وصامداً.. وبارداً جداً.. وحينما دخلت جحافل النازحين بالحمير والأغنام وسيطرت على أمانة الحكومة ومنزل الوالي، أصدر توجيهات بعدم استخدام القوة في إخلاء المباني من المحتلين الأهالي. وقال روح مواطن واحدة أغلى من كل مبنى أمانة الحكومة.. وحينما تحدث في صباح (الأربعاء) إلى الصحافيين.. كان “خليل عبد الله” صريحاً جداً.. في تشخيص الأزمة. وقال إن هناك تباطؤ في فتح البلاغات في أحداث التظاهرات الأولى التي لها صلة مباشرة بالأحداث الثانية.. وروى الوالي تفاصيل التظاهرات الأولى التي عرفت بتظاهرات الخبز والحطب، حيث أصدر مدير الغابات في الولاية قراراً من غير علم حكومة الولاية بوقف استخدام الحطب، مما أدى لتعطيل المخابز.. ولكن هناك ثلاثة أشخاص حرضوا أصحاب المخابز لوقف صناعة الخبز.. بل قدموا أموالاً لهم عوضاً عن تصنيع الخبز.. وأصبحت “الجنينة” في ذلك اليوم على تظاهرات خرجت من ثلاث مدارس خاصة، وأن أحد كُتاب صحيفة (الانتباهة) كان محرضاً للطلاب للتظاهر، وقد تم إلقاء القبض عليه والتحري معه.. وهناك حدث ثالث ساهم أيضاً في الاحتقان هو زيارة السيدة “تراجي مصطفى” لمدينة “الجنينة”، وهذه الزيارة كانت مرفوضة من قبل بعض الحركات المسلحة.. وبعض المعارضين وحتى قيادات في المؤتمر الوطني كانت ترفض الزيارة وتعتبرها غير مناسبة. وجاءت أحداث (ملي) التي قد تكون هي الأخيرة وقد لا تكون، ولكن الأجهزة هنا ليست لها معلومات عما يحدث، وهناك ضعف في الإدارة الأهلية وترهل شديد، وفي كثير من الأحيان الإدارة الأهلية بغرب دارفور أس المشاكل، حتى الديات أصبحت تجارة ويتكسب من الأزمات بعض قيادات الإدارة الأهلية من سماسرة وتجار أزمات لذلك دورهم ضعيف جداً.. ونحن الآن نعد لمؤتمر للإدارة الأهلية. أما مجالس الشورى فقد صدرت توجيهات مركزية بشأنها.. وبدا الوالي غير راضٍ عن قيادات الإدارة الأهلية التي يقول إنها في بعض الأحيان تحرض النازحين لعدم العودة لمناطقهم.. ويقول الوالي إن بعض قيادات القبائل العربية يروجون إلى أن الوالي يغلق بيته ومنزله في وجوههم وهي شائعات من شخص واحد أعرف مقاصده.. وأنا نذرت نفسي لخدمة أهلي هنا في غرب دارفور، ولكني لن أشتري ولاء الناس بالمال ومن ينتظر من “خليل” منحه العطايا والهبات سوف يطول انتظاره أو أن أغادر الولاية، ولكني لن أبدد مال الولاية من أجل الكسب السياسي.. ولا يخفي الوالي امتعاضه من أداء الشرطة وهي لا تستخدم السلاح في مواجهة الذين يرتكبون مخالفات خوفاً من تبعات استخدام السلاح.
{ أزمات غرب دارفور
تلك هي صورة ومشاهد لأحاديث لأطراف هي نفسها جزء من الأزمة تخيم على الولاية حالياً، ولكن هناك أسباب عديدة للاحتقانات التي تحدث الآن من خلال أحاديث مع قيادات ومواطنين ومراقبين للشأن السياسي، ومن تلك الأسباب عدم رضا القيادات خاصة في المؤتمر الوطني من قرار تعيين الولاة من خارج الولايات.. وهؤلاء كانوا يتطلعون لمنصب الوالي ولمناصب الوزراء والمعتمدين، ولكنهم الآن في الرصيف ضاقت المناصب بسبب سياسات الإصلاح التي جعلت نصيب المؤتمر الوطني في السلطة أقل من (60%) في ولايات دارفور وهناك مشاركة للحركات المسلحة الموقعة على اتفاقيات السلاح.. واثنان من الوزراء يتم تعيينهم من خارج الولاية.. كل ذلك قلل من فرص المتطلعين للمناصب وزاد من عدد الفاقد الدستوري. والسبب الثاني في الأحداث التي تشهدها ولايات دارفور وخاصة غرب دارفور وجود اختناقات في القواعد القبلية وتحريض من قبل الحركات المسلحة التي لها وجود كبير وحقيقي داخل معسكرات النازحين، وقد أخفق المؤتمر الوطني في التعامل مع معسكرات النازحين ولم يتم استقطابهم بعد.. وتفتقر الحكومة للرؤية بشأن التعامل مع هذا الملف.. هل يتم توطينهم في المدن وتفكيك المعسكرات الحالية؟؟ أم يعودون إلى مناطق نزحوا منها قبل (13) عاماً وجاءت جماعات سكانية أخرى من السودانيين وقطنت فيها. وتبدو الحكومة عاجزة عن حماية القرى المتناثرة في أرض شاسعة جداً.
وغرب دارفور ولاية بدون مشروع كبير يجعل الناس يتطلعون إليه إذا كانت ولاية شمال كردفان الآن مشروعها الماء وطريق بارا أم درمان، وولاية الجزيرة مشروعها الزراعة وإعادة الجزيرة لسابق عهدها.. والنيل الأبيض مشروعها سكر مشكور، فإن غرب دارفور الآن بدون مشروع تنموي يحقق قدراً من توحد الناس، وحتى اليوم لا يزال المركز ممسكاً بيده عن دعم حكومة الولاية حتى بدا “خليل عبد الله” كالذي ألقوه مكتوفاً على اليم وقالوا له إياك أن تبتل بالماء.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية