رأي

(المجهر) كانت في "نيالا"

تجانى حاج موسى
“عرب فور تعيشوا سوا” أغنية نظمتها للصديق “عمر إحساس” ضمت أغنيات عديدة قدمناها لسلام دارفور،  وجدت أطفال مدينة “نيالا” يرقصون ويتغنون بها وهم يلعبون ففرحت فرحاً كثيراً لأن رسالتنا وصديقي “إحساس” قد وصلت، وهذا ما يطمح له أي مبدع حينما ينتج إبداعه .. جيت “نيالا” بدعوة كريمة من فنان شاب اسمه “محمود حماد” من أبناء “نيالا” لأقضي معهم عيد الاستقلال ورأس السنة.. أخذت حقيبتي إلى مقر السفريات الداخلية بمطار الخرطوم لتقلع بنا الطائرة إلى مطار “نيالا”، وحمدت الله أن الطائرة جديدة ومريحة وطاقمها مضياف، تسافر سفرتين يومياً كاملة العدد.. تمت استضافتي بغرفة بالفندق الصغير الملحق بنادي الضباط.. تذكرت أستاذنا الشاعر الراحل “إسماعيل حسن” حينما قال: (لو ما جيت من زي ديل وآسفاي وآذلي). فأدركت صدق مقولته بشرف الانتماء إلى أمة السودان، فالكرم شيمتنا وسمة موسومون بها ودون خلق الله على امتداد المعمورة، فالكل كان يتبارى في تكريمي ابتداءً من والي ولاية جنوب دارفور انتهاءً بأصغر طفل من أبناء “نيالا” المدينة الخضراء الجميلة النظيفة.. مساء آخر السنة الماضية شاركت في الاحتفال بأعياد الاستقلال الذي أقامته قيادة الفرقة (16) بالصالة الكبرى بنادي الضباط والنادي آية في الروعة، مضيفنا كان اللواء الركن “عصام” ولن توفيه حروفي هذه فالرجل سوداني أصيل وفارس مغوار يحب الثقافة والرياضة، تحدثنا عن الحرب والسلام وعن الجندية والجندي السوداني وأفاض بالحديث حينما استضافنا التلفزيون القومي في ذكرى الاستقلال شارك معنا محافظ “نيالا” الشاب.. وحقاً من رأى ليس كمن سمع.. وأنا بالطائرة تخيلت أني أزور مدينة يحوم حولها شبح الحرب الكريهة مدينة مرعوبة متوجسة وخائفة، لكن زال ذلك الانطباع منذ هبوط الطائرة.. فالكل تعلو وجوههم الابتسامة والبشاشة والحبور وعلى الصعيد العام الأسواق مكتظة بالبضائع والناس وعلم السودان يرفرف في كافة النواحي.. وما في أزمة غاز ولا انقطاع للكهرباء أو المياه.. شفتو كيف وآلاف الأميال تبعد “نيالا” عن النيل!! جنوب دارفور تنعم بالمياه الجوفية النقية والوديان المترعة بمياه الأمطار.. وليتكم شهدتم معي منظر المئات من أفراد الأسرة وهم يقضون عصر أول السنة في الرمال ناحية الكبري جنوب “نيالا” .. ويا جماعة الخير والله العظيم الرحمة والخير في الريف والمركز لو شوية قدم العون للريف ما كان المدن اتكدست، وما كان أهلنا في الريف نزحوا للمدن وما كان هجروا الزراعة والرعي وطق الصمغ ده مع احترامي وتقديري لنظام حكمنا الفدرالي.. نحن نحتاج إلى حكومات ولايات حقيقية ليست صورية والمواطن داير يأكل ويشرب ويعلم وليداتو وضل ومسكن.. وولاية جنوب دارفور نموذج يمكن أن يحتذى به برغم أنها عانت ما عانت من ويلات الحرب الكافرة الملعونة.. في حفلنا غنى “محمود حماد” (وطن الجدود نفديك بالأرواح نجود)، أداها بصورة مشحونة بالطرب وأبدعت الفرقة الموسيقية المصاحبة له بقيادة الموسيقي البارع “ياسر آدم” عازف الساكسفون الشهير، فما كان من “محمود” إلا أن يجهش بالبكاء في المقطع من الأنشودة.. وطن الجدود نحن الفداء.. من المكاره والعدا” فأصابت عدوى بكائه كل الحضور الذين تغنوا معه والمآقي تملأها الدموع.. بالمناسبة التلفزيون القومي كان حضوراً ونقل لقاءات مع ولاة الأمر ومع المواطنين ليعكس الصورة الزاهية للاحتفال،  وهذا أمر يستحق الإشادة لأن للإعلام القدح المعُلى لنقل الحدث وليت بقية أجهزة الإعلام كافة تنقل أحداث الولايات لا سيما تلك التي تدور في ربوعها الحرب.. أمسية الاستقلال بنيالا كانت ذات طعم خاص.. غادرت قاعة الاحتفال بعد مشاركتي بمجموعة من أشعاري، عند العاشرة استأذنت سعادة الوالي ومضيفنا سعادة اللواء وأسرعنا إلى دار الكشافة للمشاركة في حفل جماهيري حاشد غنت فيه الفنانة الشابة “تهاني” التي قَدِمت معنا من الخرطوم وزميلها “محمود”.. أعجبت بالجمهور المستمع الجيد للشعر فأهل “نيالا” يحبون الشعر.. منتصف الليل أخفأوا الأنوار والزينات ومضت آخر دقيقة من العام المنصرم وجاءت الدقيقة الأولى من العام الجديد، والكبار والصغار يلعبون الألعاب النارية وعند الساعات الأولى انتهى حفلنا.. وعصر أول يوم في العام الجديد أقلتني عربة إلى مضمار السباق بالناحية الجنوبية للمدينة وهناك أصبت بدهشة، عشرات المئات من المواطنين نساء ورجالاً وشباباً وأطفالاً احتشدوا بالمضمار والمهرجان أبان لي عراقة رياضة الهجن وسباق الخيول، وحدثني وزير الثقافة والإعلام حديثاً مطولاً عن تلك الرياضة سأفرد له مساحة، وليت أهل هذه الرياضة شهدوها هناك ويقيني أنها رياضة يمكن أن تخدم الوطن وتعلي من شأن الاستثمار في السياحة، بالمناسبة الزوجة التي لا تعتني بإبل وحصين زوجها يمكن أن تتعرض للطلاق.. عدد من الضباط احتفوا بي على مائدة إفطار عند مغادرتي، قلت لهم أشكروا ليَّ الأسرة على إفطارهم الدسم.. ابتسموا وأفادوني أن أسرهم بالعاصمة ومدن السودان المختلفة وهم لم يخلعوا زيهم العسكري منذ بداية الحرب في تلك النواحي، وكلهم استعداد للذود عن الولاية ومواطنيها. ولعمري هذا دأب الجندي السوداني حامي الحمى.. تعظيم سلام لكل جنودنا حماة الأرض والعرض على امتداد الوطن وأهلنا بجنوب دارفور يتفننون في صنع الطعام، أطباق وأصناف عديدة من الطعام والعصيدة هناك يا بلاش والشواء ما أطيبه – هذا رأي من استطعموه  أنا لا آكل اللحم- قلت لماذا لم نسجل وصفات أطعمتنا عالمياً لتأخذ علامات تجارية تحميها القوانين الدولية الحامية للمخترعات الغذائية.
أهدوني وشاحات وشهادات تقديرية وشرفوني بالمشاركة في تقديم الكؤوس للفرسان الفائزين في السباق.. مشهد آخر رائع هو مطار “نيالا” النظيف المخضر الذي تزينه الزهور المتنوعة والأشجار والذي يضاهي مطار الخرطوم الدولي نظاماً ونظافة وجمالاً.. فتحوا لي صالة كبار الزوار الجميلة .. شكراً لإدارة المطار وللأخ الوالي وحكومته..
واستضافتني الإذاعة في لقاء مطول.. والسوق ممتلئ بالبضائع من كافة الأصناف وحركة السوق تنم عن وفرة.. أهداني أحدهم مركوب أصلة – طوالي شكيتو – وعسل وسمن بلدي وعطور وصابون وعلم الوطن وجد سوقاً رائجة يرفرف في أيدي الأطفال والبيوت والمحال.. والطريق الذي يمر غرب أم درمان لنيالا اختصر مسافة السفر من العاصمة إلى “نيالا” لساعات بدلاً من ثلاثة أيام. والطرق في طريقها لربط الولاية بدول الجوار والحدائق زانت أطراف المدينة وكانت قبلة للمتنزهين فيها من أسر ومواطنين.
وعلمت أن عدداً من الزيجات تمت في تلك الاحتفالات وحلوى المولد متوفرة لا زال الناس يشترونها وناس نيالا مهتمون بما يدور من حوار بالخرطوم، والولاية نقلت الحوار بين أهليها وثقافة الحوار قديمة وراسخة عند أهلنا بجنوب دارفور.
ويا جمالك يا بلادي في القرى والبوادي وما أحوجنا نحن ناس المدن لزيارة ربوع بلادنا وما أحوج الربوع إلى جسور المحبة بينها والمركز.
ويوم شكر أهلي بنيالا ليس بهذه السطور بل بحضور أفراحهم بالسلام التام والأمن وأعياد الحصاد، والاستئثار بكنوز الولاية الوافرة والتي إن تم استغلالها تكفي وتزيد.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية