مصمم علم السودان الثاني "عبد الرحمن أحمد الجعلي" في حوار توثيقي مع (المجهر)
شاركت بالمسابقة في آخر لحظة والهدف من تغيير العلم كان الخروج من جغرافية الألوان
الخرطوم ــ سعدية إلياس
مصمم علم السودان “عبد الرحمن أحمد الجعلي” رباطابي الأصل
خريج كلية الفنون الجميلة درس بـ”ألمانيا”، وحصل على ماجستير في إقامة تنظيم المعارض الدولية، وعضو اتحاد المعارض الدولي بـ”فرنسا”، تعين أول مدير لمعرض الخرطوم الدولي بأبو جنزير وكان من الذين أشرفوا على بنائه، شارك في الكثير من القضايا والمؤتمرات منها (مؤتمر السلام الأول)، (مؤتمر قضايا الإعلام) في بداية الإنقاذ و(مؤتمر التكافل الاقتصادي) مع “ليبيا”، ومارس العمل الإعلامي بعدد من الصحف، صمم علم السودان وهو في ريعان الشباب، وكان عمره (17 ) عاماً، وقد ساهمت دراسته للفنون الجميلة في نجاحه رغم مشاركة عدد من الوزراء بمسابقة تغيير العلم، ومن الأشياء التي تلفت الانتباه أنه حتى اللحظة يسكن في بيت إيجار مما يجعلك تتحسر على مكانته.
{ في البدء هل كانت مبادرة منك في طرح فكرة تغيير العلم؟
– ليس لدي اتجاه في تغيير العلم ولم أبادر بذلك، الحكومة بدورها طرحت مسابقة لتغيير العلم السودان القديم بحجة الخروج من جغرافية الألوان، وتغيره جاء من أجل تجسيد هوية السودان إقليمياً وعالمياً وتاريخياً، وهذا هو السبب الرئيس في التغيير.
{ ظن كثير من الناس أنك تأثرت في تصميمك لعلم السودان بالأعلام العربية خاصة “مصر” و”العراق” و”المغرب”؟
– الأعلام العربية جميعها مشتركة في ذات الألوان، علم “الأردن” و”فلسطين” مأخوذة من علم السودان لان تصميمهم جاء بعد علم السودان، عدا “السعودية” وغير ذلك أي دولة لديها تفسير لمعاني علمها، والسودانيون يعرفون رمزية الألوان قبل العلم، حيث قال الشاعر “إدريس جماع”: (بيض صنايعنا خضر مرابعنا سوداً وقائعنا حمرا موضينا)، وذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك وقالوا إن الجامعة العربية صرفت لي تعليمات في اختيار ألوان مشابهة لألوان أعلام بعض الدول الأعضاء وهذا ليس صحيحاً.
{ ممن كانت مكونة لجنة المسابقة؟
– كانت مكونة من أعضاء مجلس الثورة “نميري” و”قاسم هاشم” و”مأمون عوض أبوزيد” و”زين العابدين” و”جوزيف قرن” و”سيد إدريس” مدير المعارض بوزارة الثقافة.
{ كيف تمت مشاركتك؟
– لم تكن لدي فكرة الاشتراك حتى بعد الإعلان عنها في وسائل الإعلام، ولكن حصل لي موقف بعد تحديد تاريخ فرز المسابقة حينما اتصل بي وكيل وزارة الثقافة والإعلام آنذاك السيد “إبراهيم حسن خليل” بمكتب “سيد إدريس”، وكنت أنا نائباً له وقمت بالرد على التلفون وسألني عن “سيد إدريس” وجاء ردي بأنه غير موجود، وقال إنه يريده لحضور جلسة فرز المسابقة لأنها تبقت ثلاثة أيام لإعلان النتيجة، ولحظتها طالبني بالحضور بحجة أن الاجتماع مهم، وقلت له لا أستطيع الحضور لأنني مشترك في المسابقة رغم أنني غير مشترك وقررت دخولها دون أي إرهاصات ولا أسباب.
{ وماذا فعلت؟
– لجنة الفرز بالقصر الجمهوري شعرت بالورطة في آخر لحظات ثم جلست على (التربيزة) وأخذت قلم رصاص وورقة بيضاء لم تكن حولي ألوان، وقمت بعمل (طول مع عرض في مستطيل) مع وضع خطيين في النصف ثم أصابني نوع من الحيرة.. ماذا أفعل به.. هل أضع دائرة أم نجمة لكسر المستطيل وفكرت في وضع المثلث في سارية العلم (الجزء الشمالي)، نسبة لشيئين هو أن الشكل الهندسي مناسب مع السارية وأكثرها تماسكاً، وأيضاً قصدت منها رمز وحدة السودان، أما من ناحية الألوان أفادتني دراستي للفنون ومعرفة الألوان ومزاياها ومعانيها ودفعتني لاختيار ألوان معينة وهي ألوان مشابهة لأعلام أخرى، ولكن الهدف لم يكن علم السودان شبه بعلم آخر.
{ اخترت ألواناً صارخة.. هل كانت لك رؤية معينة لاختيار هذه الألوان؟
– بالطبع، وكما ذكرت لك سابقاً أن الشعب السوداني لدية تفسير خاص للألوان مثل اللون (الأحمر) وزمرت فيه لدماء الشهداء والتضحية من أجل السودان والتراث، الأحمر أكثر لون معبر لهذه الأحداث. واللون (الأبيض) حيث كان يرمز للشعب السوداني المحب للون الأبيض حتى في الأزياء تعبيراً عن السلام.
أما (الأسود) معروف أن السودان عربي أفريقي، واللون الأسود يرمز لافريقية السودان.
كذلك اللون (الأخضر) رمز للرخاء والطبيعة والزراعة، إضافة إلى ذلك أنه لون الفاطميين في التاريخ الإسلامي.
هذه الألوان من ناحية علمية هي أكثر الألوان طبيعة لأنها قوية لا تبهت بسهولة، وبلغة الفن هي ألوان عميقة.
{ هل واجهتك مشاكل في تصميمه؟
– واجهتني مشكلة في دمج الألوان الأحمر والأخضر، وهناك مليون صنف وذهبت إلى السوق وطلبت قماش من الأحمر الغاني والأخضر مثل لون الأشجار، ثم ذهبت بهم إلى الترزي “سيد محمد” كان عاملاً بالوزارة وعمره 17 عاماً آنذاك وطلبت منه حياكة العلم لكن بيده وليس بالماكينة في سرية تامة، وأخذته وذهبت إلى مقر المسابقة لتسليم العلم ومن حسن حظي وجدت سكرتير اللجنة زميلي في الإعلام اسمه “محمد كورال” وفي الوقت ذاك تبقى للمسابقة يوم للانتهاء وأنا علمي جاهز لذلك في بداية الأمر عارض، ولكنه وافق على أن يوضع العلم مع أعلام المتسابقين حتى أن عضو اللجنة ومديري لا يعلم أنني مشارك في المسابقة إلا في آخر لحظة.
{ كيف جرت المسابقة؟
– تم تعليق الأعلام، ومن ثم حذفت منها الأسماء لان المسابقة بها وزراء متسابقون، وعلق (72) علماً ومن أول نظرة قال “زين العابدين” هذا هو علم السودان القادم بإذنه تعالى، مشيراً إلى علمي وفي لحظة واحدة حذف 50 علماً وتم إنزالها في أول اجتماع، وفي اليوم الثاني للفرز حذفت أيضاً 12 علماً وتبقى عشرة أعلام، وثالث يوم أخذوا 6 أعلام، وتبقت أربعة وعلمي كان من ضمن الأربعة.
{ ومن كانوا الأربعة؟
– فخر الدين محمد وزير الإعلام، زكي الحاج مدير المعارض، ومهندس بمشروع الجزيرة
وشخصي. وكل هؤلاء (ضراهم) عدم دراستهم للفنون، لان كل الأعلام كانت جيدة وكانت تحمل نفس الألوان عدا واحد.
“فخرالدين” علمه كان شكل النيل وفي منتصف العلم حرف (y)، و”زكي” كان علمه أسود وأبيض، الأسود فوق والأبيض تحت مع وضع نجوم بألوان الأسود في المنتصف.
{ وكيف كان إحساسك في اليوم النهائي لإعلان الفائز؟
– جلست على شباك يفتح على الشارع في لحظة توتر رهيب ربما لأنني وصلت لنهائيات المسابقة، وعندما أتى “سيد إدريس” خرجت بطريقة آلية ثم فتح لي ذراعاه، وقال لي “عبد الرحمن” فاز علمك، لم أقدر علي استيعاب هذا الموقف وجلست على الأرض ثم وقفت مجدداً، وجلست مرة أخرى وبعد أن فقت قليلاً ذهبت للبيت دون أن أخبر الأسرة بأنني فزت ومن قبل تم الإعلان عن المسابقة بالتلفزيون، وكنت أعلم أن النتيجة أيضاً ستذاع، جلست مع أسرتي كالعادة أمام التلفاز وهم يعرفون أنني مشارك في المسابقة، وجاءت لحظة الإعلان عن الفائز في التلفزيون بأن الفائز هو الشاب “عبد الرحمن أحمد الجعلي” في هذه الأثناء صرخ كل أهل البيت وبعدها أُطلقت الزغاريد وتجمع آهل الحي للتهنئة وامتلأ البيت بالضيوف مهنئين.
{ وماذا كانت جائزة المسابقة؟
– أفكاري كانت منحصرة في تصميم العلم والفوز دون أن أفكر في قصة الجائزة التي أخبرني بها سكرتير اللجنة، وقال لي أنها عبارة عن قطعة أرض وألف جنيه وجواب شكر من الرئيس والاختيار في لجنة الميثاق، ورسل “نميري” عربية خاصة يطلبني لتقلني، وعند وصولي استقبلني “نميري” بصورة محترمة لأبعد الحدود، وكانت أول مرة التقى فيها “نميري”، كان يرتدي الزي العسكري مكفكف يديه ووسيم وصحته كانت جيدة.
{ هل تتذكر ماذا قال لك؟
– قال لي حرفياً “إنت الصغير العملت العلم”، وكانت طريقته فيها نوع من الاستغراب وسألني مرة أخرى هل منحت الجائزة؟ قلت له لا.. قال لي لماذا؟.. قلت له لان الوزير طلب مني أن التبرع بها للعطش، رد عليّ غاضباً عطش بتاع الساعة كم، وأمسك بالهاتف قال بلهجة حادة “عمر الحاج موسى” أدوا الود قرشو”.
ثم عاد مرة أخرى ليسألني هل لك علاقة بالسياسة؟ قلت له أنا جبهة ثورية فضحك، وقال لي تدخل لجنة الميثاق وأشكرك من غير جواب، قلت له الجواب يا سعادتك وثيقة. ومن بنود الجائزة أيضاً يفترض أن أخذ قطعة أرض، ترددت في أن أقول الجائزة بها قطعة أرض، ويا ليتني قلت لأنني حتى اللحظة لا أملك بيتاً وألوم الأشخاص الذين حول أصحاب القرار من مديري مكاتب الوزراء وتحديداً كل المعتمدين المتعاقبين على معتمدية أم درمان لان “عبد الرحمن الجعلي” من أولاد أم درمان.