التباكي على حال الوطن.. يعيد سؤالاً كيف يحكم السودان (1)
بعد ستين عاماً من الاستقلال
فاطمة مبارك
أصبحت ذكرى استقلال السودان التي تصادف بداية كل عام جديد ذكرى للتباكي على حال الوطن الذي استقل منذ ستين عاماً ولم تنعكس هذه السنين على أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وبدأ ذلك التباكي واضحاً من خلال العديد من المقالات المكتوبة لعدد من المراقبين واللقاءات التي بُثت في الوسائل المسموعة والمشاهدة لخبراء كُثر حاولوا بعد 60 عاماً من استقلال السودان الاعتراف هذه المرة بالتراجع الذي لازم دولة السودان، في حين إنه كان من أوائل الدول التي استطاعت نيل استقلالها على مستوى المنطقة. ومن جهته اعتبر بروفيسور “علي شمو” أن ستة عقود من عمر الشعوب زمن طويل، وقال بوصفي كنت مشاركاً في الخدمة المدنية وطالب دراسة وأدرك هذه الفترة بوعي أشعر بأسى شديد، لأن البلدان التي كانت متخلفة الآن تجاوزتنا بالرغم من أننا كنا ثالث دولة نالت استقلالها بعد “أثيوبيا” و”ليبيريا”، وهذا ما يدعونا للشعور بالحزن والأسى بلد بهذه الأسبقية مازالت متخلفة، وطالب “شمو” بقلب صفحة البكاء على الأطلال والحديث عن كيف يحكم السودان، وبدأ “شمو” يتذكر في تفاصيل هذه المرحلة حينما قال لـ(المجهر) كنا نهزم فرق “نيجيريا” و”يوغندا” عندما نتنافس في الكورة.
كان هناك ثمة تطابق بين وجهة نظر “شمو” مع وجهات نظر كثيرة أطلقها خبراء ومؤرخون اختلفوا في أدوار الأحزاب التي جاءت بالاستقلال واجتهاداتهم والصراعات التي صاحبت تلك المرحلة من عمر السودان، لكنهم لم يختلفوا في فشل الأنظمة العسكرية والديمقراطية التي تعاقبت على حكم السودان بعد الاستقلال، وفي هذا الإطار حدثنا بروفيسور “الطيب زين العابدين” عن تفاصيل أكثر وضوحاً حول فترات حكم تلك الأنظمة التي حكمت السودان، مؤكداً أن الستين عاماً بعد الاستقلال كان نصيب الأنظمة العسكرية فيها 48 عاماً، فيما كانت هناك 12 عاماً للحكم الديمقراطي، ويعتقد بروفيسور “الطيب” أننا لم نتح الفرصة الكاملة للديمقراطية لتنضج وتفرز كفاءات، وجئنا بأنظمة عسكرية غير ديمقراطية، لذلك كليهما كانا غير ناجحتين، وقال ما يؤكد الاختلال الواضح لتلك الأنظمة، إننا طوال هذه السنوات مازال دستور السودان انتقالياً (أخرها دستور 2005 الانتقالي)، وهو يعتبر بمثابة الدستور السادس للسودان منذ الاستقلال، ودستور السودان (يا مؤقت يا انتقالي)، ومضى “الطيب” في تشخيص حالة عدم الاستقرار، معتبراً أن تركيبة الشعب السوداني تقوم على الولاء إلى الطوائف والقبائل، لذلك الأفراد كانوا لا يصوتون للبرنامج الانتخابي وحتى الأحزاب كانت لا تهتم بتقديم برنامج انتخابي جاد، وإنما كان هناك تشابه في كل البرامج، وأقرب مثال برامج انتخابات العام 2010وحتى الحزب الشيوعي كان لا يذكر الاشتراكية في برنامجه الانتخابي وربط بين القبائل والطوائف والأنظمة العسكرية، مشيراً إلى أن الأنظمة العسكرية كانت تتقوى بها وتلجأ إلى تلك الطوائف والقبائل، فمثلاً الرئيس الأسبق “جعفر نميري” في وقت من الأوقات استقوى بالطوائف الدينية، والإنقاذ الآن لديها علاقات مع الطرق الصوفية، ووصف “زين العابدين” الأنظمة العسكرية بالمركزية، بجانب أنها أنظمة غير ديمقراطية وقال لهذا السبب الآن هناك قوى حملة السلاح لشعورها بالتهميش في الأطراف وتعامل معها النظام بمنهج مختل هو التفاوض مع كل من يحمل السلاح وأدى ذلك الاختلال إلى اضطراب معايير الحكم بمختلف مستوياته على صعيد الاقتصاد يعتقد أن الضعف الاقتصادي سببه عدم استقلال الموارد البلاد.
حالة التباكي التي لازمت الخبراء والمراقبين لم تختصر على المؤرخين والمراقبين فقط، وإنما أصبحت سمة عامة ملازمة حتى للمواطنين الذين أصبحوا كلما حلت ذكرى الاستقلال التي عادة ما تُحييها السلطة الحاكمة عبر توزيع جملة من الأعلام الوطنية مع إلقاء خطابات الرسمية كلما دفعوا بسؤال – عن ماذا حقق السودان خلال هذه السنين متى يتحقق الاستقرار السياسي والاستقلال الاقتصادي والاجتماعي الذي يشعر الناس بمعاني الاستقلال الحقيقي.. من ناحيتها أرجعت طبقة المختصين وشاهدي عصر الاستقلال هذا الفشل إلى الصراع الطويل بين الأحزاب الذي كان سابقاً للاستقلال، وأدى إلى اختلاف زعماء الطائفتين الختمية أو الحزب (الاتحادي الديمقراطي) وحزب (الأمة القومي) على صيغة الاستقلال نفسها هل يكون بالإتحاد مع مصر أم يكون السودان للسودانيين وانتهى الأمر بالاستقلال الكامل بعدما أدرك “الأزهري” رغبة الشعب في عدم الإتحاد مع مصر.
الإرهاصات السابقة للاستقلال قد تؤكد أن الاستقلال جاء مبرأً من الشقوق كما قال “الأزهري” (الاستقلال جاء لافيهو شق ولا طق)، لكن كانت هناك شقوق وطقوق في بنية الأحزاب السياسية تمثلت في عدم وجود الديمقراطية داخلها، وعزا المراقبون ظهور ذلك المرض بسبب طبيعة هذه الطوائف التي قامت على نظام أبوي الولاء فيه لزعيم الطائفة، وتبلورت هذه الأزمة في العامين الأوائل بانقلاب عبود، وهناك مغالطات تاريخية صاحبت هذا الانقلاب بعض المختصين والخبراء يحملون حزب (الأمة) مسؤولية هذا الانقلاب، فيما يعتقد آخرون أن رئيس الوزراء “عبد الله خليل” هو من قام بتسليم السلطة لـ”عبود”، لكن وجود بيان من السيد “عبد الرحمن المهدي” آنذاك مؤيد لعبود ربما يرجح كفة أن حزب (الأمة) كان وراء هذا التسليم، وأياً كان الاختلاف فإن ما حدث أسس لعدم الاستقرار وفتح الباب واسعاً أمام أنظمة عسكرية وديمقراطية لم تستطع بناء دولة وطنية تحقق الوحدة بين مكوناتها المختلفة، حيث تغير نظام عبود بعد ست سنوات، وجاءت الديمقراطية وقُطع الطريق أمامها مرة أخرى نتيجة للصراع السياسي الذي وقع بين التنظيمات آنذاك، وجاء حكم “نميري” العسكري بمساندة اليسار، ومن ثم تحول ولاؤه لليمين وفي أيامه الأخيرة انتفض عليه الجميع بعد ستة عشر عاماً وانتهى بانتفاضة شعبية واستلم الجيش السلطة برئاسة “عبد الرحمن سوار الذهب”، وعادت الديمقراطية مرة أخرى لكنها لم تدم فاستولت (الجبهة الإسلامية) على الحكم عن طريق الانقلاب العسكري.
سنوات استقلال السودان الطويلة التي لم تواكبها نهضة على أصعدة الحكم المختلفة دعت المختصين والمراقبين إلى دعوة كافة الأحزاب والتنظيمات إلى الخروج من حالة (اللوم) وتحميل مسؤوليات الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى جهة محددة والاعتراف بفشل الجميع في تقديم تجربة ناجحة لحكم السودان خلال الستين عاماً، ومن ثم تقديم وصفة تكون بمثابة مخرج للكيفية التي يمكن أن يحكم بها السودان يصطحب فيه السياسيون والتكنوقراط كل المعوقات التي أقعدت السودان عن التقدم والازدهار، وعندما سألنا بروفيسور “شمو” عن عناصر هذه الوصفة، قال إنه يعتبر الحوار الذي يدور الآن عنصراً أساسياً من عناصر هذه الوصفة، ووفقاً لـ”شمو” إن الحوار يمكن أن يفضي إلى شكل جديد وهيكل جديد للحكم وسياسات جديدة تتضمن بسط الحريات وأوضاع ديمقراطية تقود إلى تبادل سلمي للسلطة، وشدد “شمو” في حديثه لـ(المجهر) على أن الحل يكمن في إشراك كل الناس دون ذلك لا نستطيع الوصول إلى صيغة مجمع عليها ويشمل ذلك حاملي السلاح، وبدا “شمو” متفائلاً في أن الحوار سيكسب ثقة الأحزاب والحركات تدريجياً قائلاً: مثلاً نحن في لجنة الحريات واجهنا ثورة عارمة واتهامات أخرج فيها هواءً ساخناً تحدث فيها المشاركون عن كافة الحريات حتى تطرقوا لقانون الأمن الوطني والحقوق الواردة في قانون سنة 2005م، وكانت هناك شكوك حول إمكانية التطبيق، ونحن قلنا لهم لدينا آلية لتطبيق القوانين وقال أفسحنا المجال للأحزاب والحركات والشخصيات الوطنية المشاركة للإدلاء بآرائها وبرامجها ودونت آراءهم، وأكد أن مخرجات هذه الآراء ستعرض على اجتماع الجمعية العمومية للحوار القادمة، وإذا قُبلت ستمثل هذه المخرجات شكل الحكم في المرحلة المقبلة وتجيب على سؤال – كيف يحكم السودان؟
وبدوره رأى بروفيسور “الطيب زين العابدين” في إطار رده على سؤال كيف يحكم السودان أن المرحلة المقبلة تتطلب أن تتفق النخبة على نظام ديمقراطي تعددي لا مركزي تتنزل فيه السلطات إلى المستويات الأدنى وليس بالضرورة أن تتعدد الولايات لان لا جدوى اقتصادية من ورائها، بل أسهمت في قتل الحكم المحلي وأضافت أعباء مالية، وبحسب “الطيب” أن السودان لم يحكم بصورة ديمقراطية ولم تُطبق الأنظمة الشمولية اللامركزية بطريقة تستوعب فيها التنوع الموجود في مكونات المجتمع السوداني، إجابة سؤال كيف يحكم السودان يكمن في عودة الديمقراطية، ومثلما قال رئيس الوزراء الأسبق “محمد أحمد المحجوب” الديمقراطية راجحة وعائدة.