مراقب برلمان الاستقلال وكاتم أسراره وأحد مؤسسي نادي الخريجين في حوار الذكريات
سر الختم غرباوي: هذه وقائع جلسة الاستقلال في البرلمان والتصويت على المقترح
تنافس “المحجوب” الشديد مع “زروق” في المجلس أوقعه في فخ مع ثلاثة نواب
نادي الخريجين هو من جاء بالاستقلال.. وهذه أعظم حديث قاله السكرتير العام في حقه
حوار – نجل الدين آدم – عامر باشاب
كان أحد المؤسسين لنادي الخريجين، عمل في منصب مراقب للبرلمان الأول وكاتم أسراره ورئيس نقابة العمال لأكثر من عشر سنوات، وسياسي محنك طاف في عدد من المواقع والمؤسسات بعد بدء عملية سودنة الوظائف، وعين نائباً للقنصل في جمهورية مصر، إنه الأستاذ المربي والسياسي المخضرم “سر الختم حسن غرباوي” التقيناه في حوار الاستقلال.. حكى لنا تفاصيل تنشر لأول مرة عن مقاومة الخريجين للمستعمر.. وكيف استطاع نادي الخريجين أن يقلب الطاولة ويحول نشاطه الثقافي إلى مطلب سياسي بنيل الاستقلال، الحوار تناول بالتفصيل حقبة ما قبل وبعد الاستقلال ومواقف من شرفة برلمان الاستقلال، جلسنا إليه في حضرة أبنائه (حسن، محمد، خالد، عماد، إلياس، هدى)، فأتحفنا بفيض من المعلومات لا تسعفنا حلقة واحدة على نشرها.
{ أستاذ “سر الختم” نعود بذاكرتك إلى الوراء ونبدأ بإرهاصات الاستقلال؟
_ دعوني أبدأ معكم من سنة 1936 لحظة افتتاح نادي الخريجين أول نادٍ في السودان الذي تم تأسيسه في مدينة أم درمان “هسي بقى خرابة”، هذا النادي صنع الأحداث الوطنية إلى أن رفع علم الاستقلال في العام 1956م.
{ افتتاح نادي الخريجين؟
_ مفتش المركز الانجليزي بمدينة أم درمان كان على رأس المدعوين لافتتاح نادي الخريجين، وأذكر عندها قال عبارة شهيرة ضمن كلمته في حفل الافتتاح باللغة الانجليزية وترجمت وعلقت في الصالة الرئيسية للنادي.
{ ماذا قال؟
_ قال (This clup will play an important roll in the history of this country)، إن هذا النادي سيلعب دوراً مهماً في تاريخ هذه البلاد.. الخريجون المؤسسون لتلك الدار آنذاك قاموا بترجمة هذه العبارة وعلقوها داخل الدار، ومن المفترض أن تكون مازالت موجودة.
{ من هم الخريجون الذين شاركوا في تأسيس هذا النادي العريق؟
_ هم مجموعة من السودانيين الوطنيين من خريجي جامعة كتشنر بالخرطوم.. نادي الخريجين هذا كان معروفاً عند العامة بـ(نادي الأفندية)، وكانت تقام فيه محاضرات علمية وندوات أدبية وليالٍ ثقافية، وكان الفنان “إبراهيم الكاشف” وغيره من الفنانين يُحيون فيه ليالٍ غنائية.
{ من كان يترأس هذا النادي؟
– تعاقب على رئاسته السيد “محمد علي شوقي” (وكان وقتها موظف في القضائية)، والسيد “الفيل” وبعدهم السيد “إبراهيم أحمد”.
{ ثم ماذا بعد ذلك؟
_ بعد نهاية الحرب العالمية قام أعضاء نادي الخريجين بتقديم مذكرة للحاكم العام ذكروا فيها بأن السودان لعب دوراً مهماً في الحرب العالمية ومن حقه أن يكافأ بنيل استقلاله.
وجاء رد الحاكم العام للخريجين بأنكم (شوية موظفين) أو قلة من المتعلمين لا تمثلون الشعب السوداني.
ولم ينتبه الحاكم العام إلى تأثير الخريجين الذين وصفهم (بشوية موظفين) ألا عند إضراب مزارعي مشروع الجزيرة، وهذا المشروع طبعاً بدأ كشركة انجليزية ساهم فيها أثرياء الانجليز وعائد القطن كان هو مصدر الدخل الوحيد في ذلك الوقت.
وكان إضراب مزارعي مشروع الجزيرة هو الأول الذي أحدث أزمة كبيرة جداً، وعندها قام السكرتير الإداري “نيو بول” ببذل جهود جبارة حتى يرفع المزارعون الإضراب ويعودوا لزراعة القطن حتى لا تحدث كارثة، ولكن كل جهوده باءت بالفشل فلم يستطع أن يقنع المزارعين برفع الإضراب، وطلب من الموظفين السودانيين مساعدته ونسي حديثه بأنهم (شوية موظفين)، وقال لهم ستحدث كارثة إذا لم تتدخلوا، عندها تدخل الخريجون وقاموا بإقناع المزارعين لرفع الإضراب، وبالفعل رفع الإضراب مقابل تلبية مطالبهم، وهنا دخل (نيو بول) السكرتير الإداري في حيرة من أمره، كيف نجح هؤلاء الخريجون في مسألة استعصت على الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وكان الخريجون قاموا بطباعة مجلة اسمها المؤتمر، وذكرت هذه الحادثة عندها عرف السكرتير الإداري غلطته وأوعز لجهة بعمل حزب موازٍ لـ(حزب الأشقاء)، بالفعل قام حزب الأمة وقال (السودان للسودانيين) والأشقاء وهو الوطني الاتحادي قالوا (اتحاد مع مصر).
ومن حينها شعر الانجليز بقيمة الخريجين وقوة تأثيرهم، ولم يكن أمامهم خيار إلا التفكير في إيجاد حزب موازٍ لحزب الأشقاء الذي كونه الخريجون وبالفعل قام حزب (الأمة)، وحزب (الأشقاء) كانت مطالبه نيل الاستقلال وتكوين حكومة وطنية والاتحاد مع مصر.. أما حزب (الأمة) كان رافضاً للاتحاد مع مصر ورفع شعار: ( السودان للسودانيين) وهنا انقسمت البلد إلى قسمين.. وبعدها انحاز “إبراهيم أحمد” للانجليز، وتزعم “إسماعيل الأزهري” قيادة حزب (الأشقاء) وحزب (الأمة) بقيادة “عبد الله خليل بك” تحت رعاية ووصاية السيد “عبد الرحمن المهدي”.. واستمر حزب (الأشقاء) بتأييد من الختمية وحزب (الأمة) بتأييد من الأنصار.
وحزب (الأمة) عندما رفض الاتحاد مع مصر اتهم بأنه يريد الانضمام (لمجلس عموم الانجليز)، وهنا ظهرت شعارات الأنصار المؤيدة لـ”عبد الله خليل” زعيم حزب الأمة “يا عبد الله وراك رجال يخوضوا النار يا عبد الله”، وفي المقابل كان الاتحاديون يهتفون (حررت الناس الكانو عبيد يا إسماعيل) وهو “إسماعيل الأزهري” وهكذا كانت الندية.
{ متى فكر الانجليز في الخروج من السودان؟
– في العام 1948 فكر الانجليز في إحداث تطور في الحراك السياسي بالسودان عبر تأسيس برلمان يجعل السودان يتدرج للاستقلال.. وبالفعل بدأ الانجليز في تأسيس الجمعية التشريعية أيدها حزب (الأمة) ورفضها حزب (الأشقاء) بمقولة شهيرة للزعيم الأزهري “لن ندخلها ولو جاءت مبرأة من كل عيب” ويقصد الجمعية التشريعية التي أسسها الانجليز.
{ ولماذا رفض “الأزهري” هذا الخيار؟
– لان “الأزهري” كان يرى أن هذه الجمعية التشريعية بريطانية تابعة للغرب، وكان حزبه يريد الاتحاد مع مصر.
ومع هذه التقاطعات بين (الأشقاء) و(الأمة) قام الحاكم العام الانجليزي باستدعاء السيد “عبد الرحمن المهدي” زعيم الأنصار والسيد “علي الميرغني” زعيم الختمية، أما السكرتير الإداري قام باستدعاء “إسماعيل الأزهري” بصفته رئيس حزب (الأشقاء) ليشرح له مغزى تأسيس الجمعية، الذي سُمي فيما بعد بـ(الوطني الاتحادي)، وعندها رفض “الأزهري” الذهاب للسكرتير الإداري، وقال نحن كحزب اتحادي ليس لدينا شيء نناقشه مع السكرتير الإداري الانجليزي وإذا هو عنده شيء يريد أن يناقشه معنا فليأتي إلينا هو وهنا تعقدت الأمور.
وفي هذه الأثناء قام انقلاب في مصر بزعامة اللواء “محمد نجيب” في مصر 1952، طبعاً كان منحازاً للسودانيين، الاتحاديون كقوى سياسية انحازوا لتقرير مصير السودان وقامت الحكومة المصرية بدعوة الأحزاب السودانية والأحزاب الانفصالية، وبالفعل ذهب ممثلو هذه الأحزاب بقيادة السيد “عبد الرحمن المهدي” إلى مصر وقاموا بتوقيع اتفاقية طالبوا فيها بنيل الاستقلال للسودان لمدة ثلاث سنوات وبعدها يحدث تقرير المصير، وجاء السيد “عبد الرحمن” يعتقد أنه انتصر وعملوا زفة استقبال له.
وهنا بدأ الانجليز في التمهيد لقيام انتخابات وتم ابتعاث المستر (ديكو مارسي هنري) لمراقبة الانتخابات وكونت لجان التحكيم وقامت الانتخابات في الوقت المحدد.
وفاز الحزب الوطني الاتحادي بـ(53) صوتاً مقابل (23) صوتاً لحزب (الأمة)، وقام برلمان وقاد “زروق” كتلة الاتحادي وهم الأغلبية و”المحجوب” قاد كتلة حزب الأمة زعيم الأقلية.. وبعد ذلك تمت دعوة الرئيس المصري “محمد نجيب” لحضور افتتاح البرلمان “الجمعية التشريعية”، وفي ذلك الوقت اجتهد حزب (الأمة) على إظهار قوته لـ”محمد نجيب”، وقام بحشد أنصاره وعملوا طابور من صفين لاستقبال “محمد نجيب” بداية الطابور من بوابة المطار ونهايته قرب بوابة القصر الجمهوري، في محاولة لإظهار القوى، ومجموعة “الأزهري” عندما علموا بنوايا حزب (الأمة) قاموا بتحويل مسار “محمد نجيب” من المطار إلى القصر عبر طريق آخر بغية تأمينه مخافة تعرضه لأي مكروه.. وعندها اعتبر الأنصار أن هناك مؤامرة أحيكت ضدهم وتهيجوا وكان هتاف الأنصار “إلى القصر حتى النصر”، فحدثت أعمال عنف من الأنصار في الشارع، وهنا تدخلت الشرطة وبإطلاق النار ومات الأنصار بالعشرات، وتم افتتاح البرلمان وغادر الرئيس المصري وقطع زيارته.
{ كيف تغير موقف “الأزهري”؟
– في إحدى الندوات طلب الجمهور من “الأزهري” إعلان الاستقلال وكان عضواً في البرلمان الانتقالي، وبالفعل راقت الفكرة له، وكان الجنوبيون يطالبون الفدرالية.
ممثلو جميع الأحزاب اتفقوا جميعاً على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان قبل إكمال المدة المحددة للبرلمان الانتقالي ماعدا اثنين عارضا نيل الاستقلال وطالبا بالوحدة القومية مع مصر.. وهم “محمد نور الدين” و”المحلاوي” من السكة الحديد، وقد قمت بتسجيل هذه الجلسة التاريخية
{ احك لنا تفاصيل يوم إعلان الاستقلال وكيف كانوا يجلسون؟
– الناس حضروا صباحاً إلى الجلسة كانت في مقر البرلمان، وهو الآن مقر مجلس تشريعي الخرطوم، وكل أخذ موقعه في انتظار إجراءات التصويت على قرار نيل الاستقلال، وعندما بدأت الساعة عشرة وكان ممثلو الأحزاب حضوراً ودخل “الأزهري” آخر شخص إلى قاعة البرلمان، وفي الواقع أن اتفاقاً خارج الجلسة قد تم بأن يقوم “عبد الرحمن دبكة” بتقديم المقترح، ويقوم “مشاور سهل جمعة” بتثنيته وكل شيء منتهي بما في ذلك موقف الجنوبيين، حيث كان العضو “بوث ديو” انفصالياً ويقف ضد الشماليين، وبالفعل صوت جميع النواب بما في ذلك الجنوبيين على نيل الاستقلال وامتنع عضوان.
“مبارك زروق” كان مع “الأزهري” رجل برجل وكان رجلاً لبقاً و(كلاّم) وزعيم الأغلبية، بينما كان “محمد أحمد المحجوب” زعيم المعارضة فصيحاً، وكان هو و”زروق” رغم اختلاف الأحزاب أصحاب وفي البرلمان (يطاحنوا)، “المحجوب” كان معتداً بثقافته، ويفتكر ما عنده ند حتى “الأزهري” إلا “رزوق”، وحين يقف يتكلم بلباقة ويأتي بتعابير (غريبة)، وهو يتمايل وينظر لـ(لشروفات) وليرى مدى تأثير كلامه، وفي مرة من المرات فكر بعض الأعضاء أن يشوشوا عليه وخطط نائب كسلا والعضو “محمد حسن زكي” وآخر، أن قاموا بتبادل نقاط النظام ومقاطعته، وعندما كثرت نقاط النظام أحس “المحجوب” بأن هناك مؤامرة، فقال سيدي الرئيس (كأنما قويسة تقرم جلداً أملسا) البعض لم يفهم هذا الحديث، وكان يقصد أن ما يحدث له مثل السوسة الصغيرة التي تحاول قرم الجلد الأملس، وفي واقع الأمر لا تستطيع فعل ذلك. وأذكر أن الأجانب من العرب خاصة الدبلوماسيين يغلبهم الجلوس أثناء حديث “المحجوب” ويقفوا لكي يستمعوا ماذا يقول “المحجوب” و”زروق”.
{ كيف كانت الصحافة في ذاك الوقت؟
– حزب (الأمة) كان عنده جريدة، وأذكر أن الأخ “محجوب محمد صالح” حضر الجلسة ووقتها كان صحفياً صغيراً، وكان من الصحافيين “بشير محمد سعيد” و”السلمابي” صاحب (صوت السودان) و”عبد الله رجب” جريدة (الصراحة) و”العتباني” (الرأي العام)، وقامت كل الصحف بتغطية الحدث.
وعند لحظة إعلان الاستقلال، علت الزغاريد “حواء الطقطاقة” وأخريات، وتم إحضار علم السودان بثلاثة ألوان الأزرق يمثل الماء، الأصفر الأرض، الأخضر الزراعة، ثم تم إنزال العلمين الانجليزي والمصري، وقام “الأزهري” و”المحجوب” برفع علم السودان بحضور الانجليزي “مستر دنكن” الذي استلم العلم الانجليزي، واستلم مندوب من مصر علم الحكم الثنائي.. الانجليز كانوا يشاهدون الحدث من (بلوكونات) مباني وزارة المالية الحالية ومراسم رفع علم استقلال السودان في ميدان القصر، وبعدها جاء الحرص السوداني واستلم البوابات.
{ وبعد أن تم الاستقلال؟
– “الأزهري” نجح في عمل جولات إلى ولايات السودان المختلفة خصوصا أن الوعي كان بسيطاً، والبعض يعتبر أن الانجليز ما يزالون يقومون بنشر الدعوة والتوعية بالوحدة الوطنية، وذهب إلى الشمال وتم استقباله بالنحاس من قبل الجعليين، كما ذهب لغرب السودان وتم استقباله بخيول البقارة.
بعد ذلك ذهب الزعيم “الأزهري” لحضور (مؤتمر باندونق) في دول عدم الانحياز، ولم يجد اسم السودان عندها أخرج منديلاً من جيبه وجرح يده وبدمه قام بكتابة اسم السودان.. وهنا غضب المصريون لهذا الفعل. هذه الأحداث بالتفصيل أذاعها الإعلامي “أبو عاقلة يوسف” عبر الإذاعة السودانية، ومن هناك جاء الأزهري (قنعان) من المصريين.
{ وماذا تذكر من أقوال الانجليز؟
– أذكر أن السكرتير العام جاء إلينا في وزارة الداخلية لوداعنا، وقال (I came to say good bye, I hope Sudan is my second home, I spend my youth, I will set on my enter in London, and I will fallowed you news with interest. I hope you will pullet aright good bay.
ومعناها إنني أتيت لأقول لكم مع السلامة، وأتمنى أن يكون السودان وطني الثاني، وقد أمضيت فيه شبابي وسوف أجلس في (هول) منزلي في لندن وأتابع أخبار السودان باهتمام، وأتمنى أن تقدروا على المسؤولية.