أسرة عضو برلمان الاستقلال وأول مدير للجوازات بعد السودنة الراحل "حسن زكي" تعيد الذكريات
في زيارة خاصة
ابنته “نجاة”: هكذا غيرت مذكرة الـ(21) عضواً التي تزعمها الوالد مسار “الأزهري” للاستقلال
كانت القومية عندهم فوق الحزبية.. ولا زلنا نذكر ليالي ميدان الأهلية السياسية
صديقه: من طرائف “حسن زكي” رده لحديث وزير المالية بربط البطون بأن بطونكم مليئة والشعب جائع!
زارته – ميعاد مبارك
كانت الجذوة الأولى لإلهاب شعلة الاستقلال وتحريك الرأي العام نحوه يوم اجتمع “حسن محمد زكي “ورفاقه”من نواب الوطني الاتحادي، وهم”الوسيلة الشيخ السماني” و”محمد جبارة عوض”، “المرضي محمد رحمة”، “المجذوب فرح”، “محمد كرار كدر”، “طيفور الشريف”،”بشير عبد الرحيم”وغيرهم، حيث بلغ عدد النواب المجتمعين واحد وعشرين فارساً رفعوا راية القومية ومصلحة الوطن فوق الحزبية، ليدفعوا بسفينة الوطن بعيداً عن الوحدة مع مصر التي كان الحزب الاتحادي ربانها…لترسو مراسي تفاكرهم يومها بعيداً عن شواطئ الوحدة مع مصر، وقرروا أنه لا طريق غير توحيد إرادة السودانيين على الاستقلال. كتبوا حينها مذكرة للزعيم “إسماعيل الأزهري” رئيس الوزراء آنذاك في ديسمبر 1954…مطالبين فيها أن يغير الحزب الوطني الاتحادي مبدأه من الاتحاد مع مصر للاستقلال، مؤكدين على أن الروابط بين مصر والسودان لا تنفصم لكن ذلك يمكن أن يتم بإرادة شعبية.
(المجهر) سجلت زيارة خاصة لأسرة القيادي الاتحادي الراحل “حسن محمد زكي” عضو برلمان الاستقلال وأول مدير للجوازات بعد السودنة، وقد كان أحد الذين رفعوا مذكرة الاستقلال الشهيرة في ديسمبر 1954 فقد تقلد عدة مناصب، بالإضافة إلى كونه أول من قدم مقترح بطاقة الجنسية. جلسنا إلى ابنته السيدة “نجاة حسن زكي”وحفيدته الأستاذة” منى عوض محمد آدم” والأستاذ “مصطفى الريح السنهوري” صديقه وزوج ابنته، ليحدثونا عن حكايا وتفاصيل “حسن زكي” في الذكرى الثانية للاستقلال بعد رحيله.
افتتحت ابنته السيدة “نجاة حسن محمد زكي” حديثها (كل عام وألسننا تلهج بالشكر لأن الله وهب لنا آباء ساهموا في صنع الاستقلال وصنعوا لنا لوحات من الشرف). وأضافت (الاستقلال تم بالإجماع حيث تضمنت اتفاقية 1953 بنداً حدد مهمة البرلمان الأول بقيام حكومة وطنية ومهمة سودنة الإدارة، وكان يحكي لنا الوالد أن السودنة كانت مهمة صعبة ولكنهم نجحوا فيها وبعد سودنة الوظائف والجيش والبوليس بدأ الجلاء، ومن بعد ذلك انتخبت جمعية تأسيسية تقرر مصير السودانيين). وأردفت قائلة (تخوف الوالد وبعض نواب البرلمان الاتحاديين من أن المستعمر يحاول زرع الفتنة وتشتيت كلمة السودانيين من خلال البند الذي يتحدث عن انتخابات جمعية تأسيسية تقرر مصير السودان حسب اتفاقية 1953، وحتى لا تستشري الفتنة ويقع الخلاف بين الاستقلاليين والاتحاديين وتدخل البلاد في حرب أهلية، اتفق الوالد وواحد وعشرون عضواً على تحاشي المكاسب الحزبية والتركيز على مصلحة الوطن. وبالرغم من انتمائهم للحزب الاتحادي الذي كان ينادي بالوحدة مع جمهورية مصر، وفي تلك الفترة بدأت أحاديث بين نواب البرلمان الاتحاديين وتساءلوا (لماذا لا يجعل الحزب الاتحادي مطلبه الأول الاستقلال لتوحيد كلمة السودانيين، وقدموا مذكرة في آخر عام 1954 للرئيس “إسماعيل الأزهري”، ونشرت وقتها في كل الصحف بعنوان (مذكرة النواب الأحرار) في الوطني الاتحادي، خاطبوا خلالها الرئيس “الأزهري” بأن الاستقلال حق وأمانة للأجيال القادمة ويجب أن نربو بأنفسنا من أن تصيبنا لعنة هذه الأجيال، لذا لابد أن يتحول الحزب الوطني الاتحادي إلى حزب استقلالي لتكون العلاقة بين شعبي وادي النيل قائمة بين السودان الحر المستقل وفقاً لمصلحة شعبيهما.
نقطة التحول
نقطة التحول بحسب “نجاة” كانت عندما نادى بعض النواب الاتحاديين بالاستقلال وقالوا للزعيم “الأزهري” (أنتم تقولون في لياليكم السياسية إن الاستقلال الذي ينادي به حزب الأمة كلمة حق أريد بها باطل لماذا لا تنادون به أنتم وتريدون به الحق). وأضاف (والدي ورفاقه لم يخافوا لومة لائم، وبالفعل استلم الزعيم الأزهري المذكرة ووعد بالرد عليها ولكنه لم يرد وأطال عليهم، فذهبوا إليه وسألوه، فقال سنرسلها للجان الحزب في الأقاليم، والمذكرة التي وقع عليها الـ(21) نائباً برلمانياً ورفعها نيابة عنهم “حسن محمد زكي” و”محمد جبارة العوض” “الوسيلة الشيخ السماني” “المرضي محمد رحمة”، “المجذوب فرح”،”محمد كرار كدر”،”طيفور الشريف”، “بشير عبد الرحيم”، ومن ثم عقدت في التاسع عشر من ديسمبر 1955 الجلسة رقم (43) للبرلمان في دورته الثالثة.
رؤية “حسن زكي” كانت انقلاباً على رؤية شيخه “الميرغني”
صديقه وزوج حفيدته “مصطفى الريح السنهوري” قال إن مولانا “حسن” كان يؤكد على أن الشرف أو التاريخ ذكر أن “الأزهري” رفع العلم، ولكن هو وبعض النواب كانوا النواة الحقيقية لرفعه. ويضيف “السنهوري” (إن موقف “حسن زكي” كان بمثابة انقلاب على رؤية شيخه السيد “علي الميرغني”، إلا أنه ورفقاءه النواب الاتحاديين، أخذوا قراراً شعبياً أن ينضوا جميعاً تحت علم واحد هو علم السودان المستقل الحر).
أسرة “حسن زكي”
السيدة “نجاة” عادت وحدثتنا بلسان البنت الملازمة لوالدها قائلة: (والدي له تسعة إخوة وثلاث أخوات، أخوه التوأم هو “حسين” عضو هيئة علماء السودان، توفي والدهم السيد”محمد زكي” المعلم بكلية غردون وهم لم يبلغوا من العمر ثلاثة أشهر، ربتهم والدتهم السيدة “نفيسة” تربية عظيمة). وأضافت (حكى لنا الوالد أنها كانت سيدة رسمية جداً، لديها ساعة كبيرة ترتديها في يدها وكانت تضبطها على مواعيد عودة أبنائها ولم تقبل أبداً أي تأخير، ولو لعشر دقائق). وكانت تصر على أن ينشأوا على أفضل ما يكون فربتهم على الصدق وعدم أخذ حق الغير وأن يقولوا الحق أيما كان ومهما كان. وأضافت السيدة “نجاة” (أبوي مر بظروف صعبة عندما كان موظفاً صغيراً وحتى عندما كان مسؤولاً في الدولة لم يخرج بأملاك أو عربات حتى عندما كان وزيراً أعطته الدولة بيتاً فرفضه، وقال سوف أكون في بيتي هذا. ومضت قائلة (أمي زعلت) فقال لها يا “بتول” (مش عايزين نهائي)، والعربية كانت واحدة وسائقه كان اسمه “محمد” ومرات بسوق براه فكان يرافقه ويتناولان الطعام معاً، وكان ما أن يأتي “عمر” بائع اللبن يناديه لتناول وجبة الفطور فكان بسيطاً ومتواضعاً). وحكت لنا عن بيتهم الصغير وإخوتها، الصحفي الراحل “محمد “، والراحل “كمال” الذي كان يعمل مترجماً للغة الانجليزية، ودكتور “فتحي” الذي كان محاضراً في جامعة “الأزهر الشريف” توفي قبل شهر، بالإضافة لأخيهم الأصغر “نادر” الذي يعمل في الشارقة. وتضيف بالقول (أنا أكبر بناته)، تزوج من والدتي “بتول أحمد” وعمرها (14) عاماً، وكان في العشرين من عمره. وكان آنذاك موظفاً صغيراً بوزارة الصحة، وفي سن صغيره رشح نفسه لعضوية البرلمان في دائرة “الرصيرص” و”الأنقسنا”، وكان عضو أول برلمان سنة 1953، الدوائر كانت قومية حينها، وأسلم على يده الكثيرون من أبناء دائرته). وأضافت “نجاة” (لم يكن يتعامل معنا كوالد بل أخ وصديق وكان يمزح معنا لكنه ساعة الجد جاد جداً، كان يساعدنا في الدراسة بالذات في اللغة الانجليزية وكان يمنحنا حرية الاختيار في حياتنا حيث لم يفرض لنا مساقاً دراسياً معيناً، لكننا لم نحظ معه بجلسات طويلة لكثرة ضيوفه ومشاغله حتى في أيامه الأخيرة تمنينا أن نصور له (فيديو أو نسجل بعض نصائحه إلا أن ازدحام وانكباب الضيوف عليه حال دون ذلك. رحم الله والدنا ووالدتنا التي كانت له خير سند وانطبقت عليها المقولة (وراء كل عظيم امرأة).
من أبناء حي (بيت المال)
واصلت السيدة “نجاة” قائلة:(درس أبي في مدرسة الخرطوم الثانوية، وكان يحب العلم الأكاديمي والفقه وفي سن العشرين قام بتدريس من هم أكبر منه سناً في حي (بيت المال) الذي كان يقطنه وحتى الآن يتحدثون عنه ويذكرون ذكرياته الطيبة، كان لبقاً وحسن الخلق، يقيم ورفاقه ليالي سياسية في ميدان الأهلية القريب من منزلنا، ويصرفون من جيوبهم على تلك الليالي، هو ورفاقه “يحيى الفضلي” و”مبارك زروق” وبرلمانيون ووزراء.
ليالي ميدان الأهلية السياسية
(كانت تجمعه صداقة وثيقة مع “إسماعيل الأزهري” و”علي عبد الرحمن”، “مبارك زروق” وكانوا دائمي الزيارة لمنزلنا بالقرب من ميدان الأهلية بأم درمان حيث كانت تقام الليالي السياسية. وأذكر عندما كنت صغيرة كان هنالك حضور كثيف لتلك الليالي، أي مشكلة بتحصل في الدولة يتداولوها بطريقة جميلة وبدون مشاحنات حتى لو اختلفوا واحتدوا). وابتسمت مسترجعة التحضير لتلك الليالي (كانوا يقيمونها بأبسط الإمكانيات والتكاليف ولم تكن تهمهم المظاهر، لا بذخ في الحياة وكان اجتماعهم لأجل الوطن.
أول سوداني قام بتنفيذ البطاقة الشخصية
وتضيف “نجاة” (ترقى الوالد بعد مرحلة السودنة ونهاية دورة البرلمان إلى وكيل وزارة الصحة، ومنح رتبة عقيد شرطة، وهو أول سوداني قام بتنفيذ البطاقة الشخصية، وشغل منصب مدير الجوازات وهو من قدم مقترح أن يحمل كل سوداني بطاقة، كان يحكي لنا أنه كان عملاً شاقاً وبالرغم من ذلك نجح نجاحاً كبيراً، وبعد السودنة وإبان عمله بوزارة الداخلية في 1961 وكان مراقباً للجنسية حتى عام 1966 .
رجل متصوف
حدثتنا حفيدته الأستاذة “مني عوض محمد آدم” قائلة (كان جدي ختمياً ويحب الطرق الصوفية جداً وكان السيد “علي الميرغني” دائم التشاور معه حتى أنه أعطاه حق التكفل بكل المهام داخل الدائرة الختمية وهو إنسان صوفي محب للصوفية، كان محباً للجميع ويقيم ليلة النصف من شعبان ويجمع فيها كل الطرق الصوفية، المكاشفية والعركية والبدوية والرفاعية.
طقوس الاحتفال بالاستقلال في المنزل
حدثتنا أسرة “حسن زكي” أيضاً عن طقوس الاحتفال بالاستقلال في منزلهم. وتقول حفيدته “منى عوض”، (من يوم 12 ديسمبر بتجينا الصحافة والتلفزيون ويكتظ المنزل وكانت له ذاكرة قوية). وأضافت “منى” أن جدي كان يسمى الوالدة “نجاة زكي” بالأرشيف وهي تحتفظ بجميع تذكاراته وأوراقه). وأضافت(كان كثير الذبائح وفي يوم الاستقلال يجمع الأسرة وأحبته وأصدقاءه في منزله، كانت لديه مقولتان محفورتان في عقولنا الأولى (التعامل بين الناس بالقلوب)، حيث كان يرفض التعامل مع الناس من مظهرهم ويركز على الجوهر، والمقولة الأخرى (هنالك رجال تصنعهم المواقف وهنالك رجال يصنعون المواقف).
لا حاجة لنا بهذه النثريات
زوج حفيدته وصديقه”مصطفى الريح السنهوري” وقف معنا على بعض المواقف التي حكاها له “حسن زكي” عن حقبة الاستقلال، مؤكداً أنهم جيل لن يتكرر. كان همه الشعب ومن يمثلونهم في البرلمان، قائلاً: (أبسط شي جيلهم دا خرج وزراء إسكان جنازة الواحد بتمرق بالحيطة لأنه قاعد في بيت ولده في القشلاق بتاع الوابورات ولم يكن يسع الباب لإخراج الجنازة، هذا وزير الإسكان في أول حكومة). وأضاف (أتساءل كثيراً كيف استطاعوا تربية أبنائهم، تخيلوا أن الشيخ “حسن زكي” بالرغم من أنه شغل عدة مناصب مات وهو لا يملك منزلاً حيث كان يسكن في منزل زوجته، وعندما سكنوا كانت المنطقة خلاء ومنزلهم بلا شبابيك، كانوا مغطنها بملايات، الرعيل الأول من الوزراء والنواب كان أغلبهم إذا سافروا لحضور مؤتمرات يعيدون نثريات الرحلة عند عودتهم للبلاد، وكانوا يقولون (ما احتجنا لشئ، الناس ديل أكلونا وشربونا وأقمنا على حسابهم، لا حاجة لنا بهذه النثرية).
مواقف طريفة
واصل “مصطفى السنهوري” قائلاً: (أذكر من المواقف الطريفة التي حكاها لي وكانت مع خالي “حماد توفيق” وكان حينها وزيراً للمالية والذي قدم تقريراً قال فيه (إن على الشعب أن يحزم البطون) فرد عليه “حسن زكي” بمقولته المشهورة (يا وزير المالية بطونكم مليئة وبطون الشعب خاوية). وكان وزير المالية بطنه كبيرة فقام البرلمان كله وضج بالضحك.